الصحفيون في ظل حكومة دمشق: عينٌ على الكيبورد وأخرى على الباب

تحقيق: حازم مصطفى

يرزح كنان وقاف، الصحفي في جريدة الوحدة المحلية (مقرها اللاذقية) تحت الاعتقال منذ السادس من شهر آذار/ مارس الحالي، دون أن توجه إليه أي تهمة من أي جهة حكومية حتى الآن.

الصحفي الذي سبق أن اعتُقل قبل ستة أشهر، يُعتقل اليوم بسبب منشور في حسابه على “فيسبوك” يفضح فيه محافظ الحسكة، وابنه الذي اختطف بعلم أبيه جندياً في جيش النظام، مطالباً بفدية لإطلاق سراحه وصلت قيمتها إلى مائتي مليون ليرة سورية.

القصة “الغرائبية” التي يتصدى لها كنان في منشوره تصلح كما يجمع العديد من الناشطين على مواقع التواصل الاجتماعي “كسيناريو لفيلم هوليودي عن المافيا” هذه المافيا التي تتحكم اليوم برقاب السوريين دون أن يجدوا ملاذاً على شكل قانون يحتمون فيه من تغوّل الفاسدين والمتنفذين.

توقع كنان مصيره. كتب في حسابه على “فيسبوك” في نفس اليوم الذي جرى فيه اعتقاله ونقله إلى فرع الأمن الجنائي بدمشق ما مفاده “حين تقرؤون هذا المنشور أكون قد اعتقلت”، وأضاف: “إن لم تكن أنت من تطالب بحقك.. فمن.. وإن لم يكن الآن فمتى؟”

لعلّ هذه الكلمات تختزل بشكل كبير حال الصحافة في مناطق سيطرة حكومة دمشق، التي راحت تضيّق على الصحفيين دون أن تكلف نفسها في كثيرٍ من الأحيان حتى بتوجيه تهمة لهم.

العقلية نفسها

“لم يتغير شيء رغم عشر سنوات من الحرب، لا زالت نفس العقلية حاضرة في التعامل مع أي رأي يخالف رأي الحكومة، ممنوع الانتقاد بأي شكل”، تقول صحفيّة تعيش في ضاحية “جرمانا” شرقي العاصمة السورية بنبرة غاضبة.

وتستشهد على ما تقول بحادثة اعتقال المذيعة في التلفزيون الحكومي “هالة الجرف” قبل أكثر من شهر، على خلفية ما قيل إنه “منشور” كتبته في حسابها الشخصي على “فيسبوك”.

لكن وزارة الداخلية في حكومة دمشق أصدرت -على غير العادة- بياناً في 30 كانون الثاني/يناير الماضي، قالت فيه إن إدارة الأمن الجنائي ألقت القبض على ثمانية أشخاص (بينهم المذيعة الجرف).

وجرت الاعتقالات في إطار ما وصفتها الوزارة بـ “الجهود التي تبذلها لمتابعة ومكافحة نشر ونقل الأنباء الكاذبة والإشاعات المغرضة التي يتم تداولها على بعض صفحات وسائل التواصل الاجتماعي وقنوات اليوتيوب لغايات مشبوهة.”

وكشفت مصادر في فرع الأمن الجنائي بدمشق لمعد التحقيق عن أن “السبب الحقيقي خلف اعتقال الجرف ورفاقها المعتقلين هو اتهامها بالتواصل مع موقع معارض مقره تركيا يعرف باسم “نور حلب”، ومدّه بوثائق عن قضايا فساد تتعلق بمسؤولين في الدولة والحزب.”

لكن هذه ليست المرة الأولى التي تسجّل فيها السلطات اﻷمنية السورية اعتقالاً لناشطين على “فيسبوك”، كما أنها ليست المرة اﻷولى التي يتم فيها اعتقال “إعلاميين”.

سجّلت سوريا خلال السنوات العشر الماضية تراجعاً هائلاً في حرية الصحافة، وصُنفت باعتبارها أحد أسوأ اﻷماكن للعمل الصحفي، إذ نالت البلاد المرتبة ما قبل اﻷخيرة من أصل 194 دولة يقيّمها سنوياً مؤشر حرية الصحافة العالمي وفق معايير دقيقة.

بالإضافة لذلك، ليس في البلاد صحيفة معارضة أو مستقلّة منذ ستين عاماً، حتى أنّ صحافة ما تعرف بـ”الجبهة الوطنية التقدمية” كانت تطبع في دار “البعث” حتى وقت قريب.

اعتقالات عشوائية

بعد أن أثار اعتقال هالة الجرف كثيراً من اللغط حول أسباب الاعتقال في الوسط اﻹعلامي وغير اﻹعلامي، تراجع اهتمام الناس بمن فيهم الإعلاميين بقضيتها، و”تُركت للقضاء كي يأخذ مجراه” وفقاً لرئيس فرع مكافحة الجرائم المعلوماتية “لؤي شاليش” في تصريح ﻹذاعة محلية في السادس من شباط/فبراير الفائت.

وطمأن شاليش بأن اتحاد الصحفيين كان حاضراً في جلسة الاستجواب مع الجرف، وأن اعتقالها تم بمعرفة وزير اﻹعلام في حكومة دمشق “عماد سارة”، وأن “لا شيء اعتباطي” ولا علاقة لمنشورات الجرف باﻷمر.

وأشار حساب وزارة الداخلية إلى أن “هالة” والمعتقلين معها سوف يُحاكمون وفق قانون مكافحة الجريمة المعلوماتية بـ “جرم التواصل والتعامل مع مواقع إلكترونية مشبوهة” دون تحديد أو ذكر تلك المواقع “المشبوهة”.

وذكر “شاليش” أن “القانون يعاقب من يسيء لكرامة الآخرين وشخصهم وسمعتهم”، مقدّراً أن “معدل الضبوط التي تسجلها مديرية مكافحة الجرائم الإلكترونية تتراوح وسطياً بين 70 – 80 ضبطاً بالشهر.”

إلا أنه لفت إلى أن “المؤشر الحقيقي لعدد الضبوط هو المعدل في نهاية العام، ففي 2020 سجّل أكثر من 2250 ضبطاً يقابلهم (1800) ضبط في عام 2019 والمعدل بارتفاع بسبب ازدياد استخدام الشبكة”.

يقول محمد (45 عاماً)، وهو اسم مستعار لصحفي يعمل في مؤسسة إعلامية حكومية مقرها دمشق “نحن ضد توقيف أو اعتقال أي زميل أو أي شخص لمجرد تعبيره عن رأيه تجاه قضية ما بطريقة لا أذى فيها على أحد.”

وأضاف: “ما جرى مؤخراً أدى وبكل وضوح إلى بعض التوجّس عند الناس وعند الصحفيين بشكل خاص، توجّس لمسناه عبر منشورات كثيرة ساخرة فحواها (يا رب الستر)”.

وعن خوفه من تهديد “قانون الجريمة الإلكترونية”، يقول الصحفي: “شخصياً، لم أشعر سابقاً ولا حالياً بأي تهديد من قانون الجريمة الإلكترونية أو غيره، ولا أترك موضوعاً لا أعبر عن رأيي به، وذلك ليس لأن القانون جيد أو منصف، وإنما لأنني بتّ أجيد التعامل مع مواقع التواصل الاجتماعي.”

ويعتقد “محمد” أنه بالإمكان إيصال فكرتك أو تعليقك مهما كان قاسياً، بطريقة تضمن بها وصول المراد من دون التسبب لنفسك بأذى، والصحفي هو الأقدر على هذه “الحيلة”، كما يقول “بسبب ما يجب أن يكون قد صار أسلوباً أصيلاً فينا فرضته علينا المهنة، وهو التحقق والتوثيق والتأكد قبل الحديث عن أي موضوع، خاصةً عند ذكر أسماء معينة.”


اقرأ أيضاً


كان سبق لرئيسة النيابة العامة المختصة بجرائم المعلوماتية أن تحدّثت عن توقيف الصحفيين في حديث ﻹذاعة محلية بتاريخ الخامس من شباط/ فبراير الفائت، فذكرت أنه لا يتم توقيف الصحفي إذا حقق شرطين: “أن يكون صحفياً مرخصاً له بالعمل، وأن ينشر على موقع رسمي مرخص.”

أما في حال نشر الصحفي في حسابه على “فيسبوك” تقول القاضية: “يكون الوضع مختلفاً”، وأشارت إلى أن العقوبة تتضاعف عندما ترتكب على الشبكة أو بواسطتها، ومن يقوم بنشر الأخبار الكاذبة على مواقع التواصل الاجتماعي في زمن الحرب، ويعرف أنها كاذبة، تصبح العقوبة ست سنوات كحد أدنى”.

يرفض الصحفي “محمد” الفصل بين الصفحة الشخصية، والصفة الشخصية والمهنية “يجب ألا يُعامل الحساب الشخصي للصحفي بشكل منفصل عن عمله، أو عمّا عرفه به الناس، فالشخص واحد، والجمهور واحد.”

“اعتقل ثم اخترع تهمة”

يكاد لا يوجد صحفي سوري لم يتعرض لاستدعاء من فرع أمني أو جهة لا علاقة لها باﻹعلام، ويصح اﻷمر على كل السلطات التي تدير البلاد من أقصاها إلى أقصاها.

وحتى كتابة هذا التحقيق، سجّل تقرير الانتهاكات بحق اﻹعلام في سوريا الذي يصدره “المركز السوري للحريات الصحفية” ومقره برلين، محاولة اغتيال واحدة وخمس حالات اعتقال واحتجاز بحق إعلاميين سوريين، فقط في شهر كانون الثاني/يناير الفائت، على امتداد الجغرافيا السورية.

التهم التي توجّه للإعلاميين في مناطق سيطرة دمشق، ليست عشوائية تماماً، فعبر المتابعة يمكن ملاحظة أسلوب متكرر للسلطات.

 يقول أحد الصحفيين الناشطين على “فيسبوك” والذي تعرض للاعتقال سابقاً بسبب منشور على فيسبوك “في معظم الحالات يتم انتقاء شخصية إعلامية معروفة أو في طريقها للشهرة، معروفة بموالاتها غالباً، يكون جلّ ما فعلته كتابة منشورات تتعلق بالوضع العام (تتناول قضايا فساد لجهات حكومية مثل الجمارك والتموين أو شخصيات حكومية)، ثم تعتقل ﻷسباب غير معروفة، ليأتي نفي الحكومة بالقول “إن الاعتقال لا علاقة له بالعمل الصحفي.”

ويفسّر الناشط الصحفي هذ الأسلوب بأنه “شكل من أشكال الترهيب الذي تقوم به السلطة على شخص واحد مؤثر فتقمع به آخرين.”

ينطبق كل ما سبق على الصحفي “وضاح محي الدين” مدير مكتب مجلة بقعة ضوء في حلب، الذي نقل عنه تعرضه للتهديد من قبل متنفذين في جهاز “الجمارك”، هدّدوه في حال أصرّ على الحديث عن القضايا المتعلقة بالجمارك وسطوتها في أسواق حلب.

لاحقاً تمّ اعتقال محي الدين (اعتقل في شهر كانون الثاني/يناير الماضي) من منزله عبر قسم مكافحة الجرائم اﻹلكترونية، ونُقل عقبها إلى دمشق، وما يزال قيد الاعتقال دون أية معلومات عن تهمته أو وضعه الراهن أو الجهة التي تعتقله.

وهن نفسية اﻷمة”

أبرز التهم التي باتت موضع سخرية السوريين في العالم الافتراضي والحقيقي على حدٍّ سواء، هي تهمة “وَهْنُ نفسية اﻷمة”، التي يشير المحامي “كمال أحمد” (من اللاذقية، 45 عاماً) إلى أنها من التعابير “الفضفاضة” في قانون العقوبات وباتت تثير حفيظة الجميع.

ويستعيد المحامي ما قاله الفقيه القانوني الشهير، الدكتور “محمد الفاضل” الذي اتهمت باغتياله “جماعة اﻹخوان المسلمون” في أوائل الثمانينات في كتابه المرجعي “الجرائم الواقعة على أمن الدولة.”

يقول الفاضل: “إن التعبيرات التي استخدمها الشارع هنا وهناك في تجريم الأفعال الماسّة بأمن الدولة غير واضحة المعالم ولا محددة الأطراف، وظلال الألفاظ متموجة تكاد تتسع لكل شيء، بينما الأصل في النصوص الجزائية أن تتسم بدقة التعبير ووضوح اللفظ واستخدام الكلام الصريح للدلالة على المعاني المعينة المحددة، وذلك كله حرصاً على سلامة تطبيق مبدأ قانونية التجريم.”

ومن هذا القبيل ما نصت عليه المادة “285 عقوبات” التي تفيد بأن “من قام بدعوةٍ ترمي إلى إضعاف الشعور القومي” والمادة 286 التي تعاقب من نقل أنباءاً يعرف أنها كاذبة أو مبالغ فيها من شأنها أن توهن نفسية الأمة.

ويتابع الفاضل بنوعٍ من التهكم: “من ذا الذي يستطيع أن يعين فحوى الدعاوى التي ترمي إلى إضعاف الشعور القومي أو أن يحدد الأنباء التي من شأنها أن “توهن نفسية الأمة”؟

ووضع الفاضل درعاً متيناً لمواجهة هذه التعابير الفضفاضة كسلاح في يد الدولة، يتمثل في شرف وضمير ووجدان القاضي نفسه فيقول: “ولا عاصم للفرد أو المواطن من هذا السلاح الخطير الذي تملكه الدولة سوى شرف ضمير القاضي، ونزاهة وجدانه، واستقلاله ورهافة حسه في تمييز الغث من السمين، والمهم أنه لا يجوز إطلاقاً أن يؤول تطبيق هذه النصوص المرنة إلى خرق مبدأ قانونية الجريمة والعقاب. (الدكتور “محمد الفاضل” ـ الجرائم الواقعة على أمن الدولة – ج1 – ص53 وما بعد).

تعلّق الصحفية السابقة بالقول: “أيّةُ أمّة هذه تضعفها تعليقات الناس على منصة افتراضية”، وتضيف “كم هي هشة وضعيفة ولا تستحق الحياة”.

ماذا بقي من صحافة دمشق؟

عدا عما سببته اﻷوضاع المستجدة بعد ظهور جائحة فيروس كوفيد 19، من إغلاقٍ للمجال العام والكثير من النشاطات اﻹعلامية الفيزيائية، فإن دمشق تخلو اليوم من صحافة مطبوعة.

توقفت الصحف الرسمية الثلاث (تشرين، البعث، الثورة) عن الصدور مكتفيةً بمواقعها اﻹلكترونية، ولحقت بها صحيفة الوطن شبه الرسمية.

يقول صحفي في صحيفة “تشرين” من دير الزور ويقيم في دمشق منذ العام 2014، طالباً عدم نشر اسمه: “إن القرار بالتوقف الورقي جاء بناءً على حسابات تتعلق بفيروس كورونا حيث لم يعد ممكناً التوزيع في البلاد.”

ويوضح: “قبل تفشي الفيروس، كانت الأماكن التي توزّع فيها الصحف الرسمية محصورة في مناطق معينة من سوريا، فهي لا تصل إلى الريف إلا نادراً، وفي المدن توزع على المكتبات الرئيسية.”

وسجلت الصحف الرسمية انخفاضاً في أعداد النسخ المطبوعة من خمسين ألفاً في العام 2012، إلى 20 ألف نسخة بعد العام 2016، إلى أقل من عشرة آلاف في 2018، ليتوقف الطبع الورقي بعد جائحة كورونا، بحسب مصادر في مؤسسة توزيع المطبوعات.

أما صحيفة “اﻷيام”، التي كانت (أسبوعية سياسية اقتصادية ثقافية مستقلة)، فإنها لم تكمل مسيرتها التي انطلقت عام 2016، توقفت الصحيفة عن الصدور عام 2018، ثم عادت إلى الصدور من دون القسم السياسي، لتتوقف للمرة الثالثة بسبب إجراءات الحد من “كورونا” ولم تعد تصدر نهائياً.

الصحيفة سجلت بشهادات معظم من تابعها حضوراً مميزاً في السوق الصحفية السورية الضيقة، وكانت أعدادها (بحدود ألفي نسخة) تنفذ بعد ساعات من طباعتها.

يقول الصحفي “ماهر” الذي عمل في “الأيام”: “كانت ميزة اﻷيام أنها فتحت صفحاتها للصحفيين السوريين دون أن تحدد لهم سقفاً ولا نمطاً معيّناً للكتابة، كان لهم كامل الحرية في تناول المواضيع السورية بعيداً عن أية بروباغندا إعلامية، ولذلك كانت لها مشاكلها التي لا تنتهي مع السلطات السورية.”

ويضيف: “كان واضحاً أن عودتها للصدور مرهونة بتخليها عن تناول الشأن السياسي والاكتفاء بالاقتصادي والثقافي والمنوّع.”

“لم تكن اﻷيام جريدة معارضة، ولكنها لم تكن بوقاً، ولم تكن مجرد إضافة ورقية، كانت جريدة تُقرأ، وهذا يكفي”. كما يقول.

إلى جانب “اﻷيام”، كان هناك بضع صحف من طراز التابلويد، لم تحقق حضوراً حقيقياً في الشارع السوري بسبب ضعفها التحريري والفني، علماً أنها جميعها أخذت أسماء صحف سورية كانت تصدر في سوريا قبل قرار إيقاف جميع المطبوعات بعد الثامن من آذار 1963.

هذا القرار أبقى على صحف البعث والثورة ولاحقاً تشرين فقط، حيث أنه حتى اﻵن لم يمنح أي ترخيص لصحف جديدة بما يزيد عن العدد الذي كان مسموحاً في الستينيات.

كيف يعيش الصحفيون؟

“نعيش ولا نعيش، ككل السوريين، حتى قبل الأزمة الحالية، لم تكن حالنا جيّدة، وينطبق هذا الكلام على الغالبية، عدا قلة من الصحفيين ممن كانوا ـ ولا يزالون ـ يعملون مع وسائل إعلام خارج البلد وهؤلاء وضعهم، نسبياً، أفضل من وضعنا” وفقاً للصحفية “ريما” (اسم مستعار، 32 عاماً) وتعمل في “الثورة أون لاين” في دمشق.

وتقول: “إذا أخذنا موضوع اﻷجور والرواتب فحالنا لا يسرّ، نحن جزء من الحالة السورية التي أصبح فيها راتب الموظف لا يشتري ربع حاجياته اﻷساسية، عدا الانتظار الذي يرافقنا كل يوم لساعات، للحصول على المواد اﻷساسية، وهذا انعكس بالتأكيد على رغبتنا في اﻹنجاز والعمل، وعلى كل شيء في حياتنا اليومية”.

اختيار المواد الممكنة للعمل في المؤسسات اﻹعلامية عملية شاقّة “هناك عشرات الخطوط الحمر التي يجب الابتعاد عنها”، يقول الصحفي “منير” (42 عاماً) من مؤسسة إعلامية خاصة تملك موقعاً إلكترونياً يجمع بين السياسة والاقتصاد والفنون.

 يضيف: “الخطوط الحمر هذه اﻷيام تتعلق بالفساد بالدرجة اﻷولى، من النادر أن ننشر أي مادة صحفية حول قضية فساد دون حصولنا على وثائق دامغة يمكن بها حماية أنفسنا من المساءلة، حتى أننا نبتعد عن مجرد اﻹشارة للأمر، وأحياناً نغامر بالاقتراب من هذا العالم ولكن نضع أيدينا على قلوبنا، خاصةً أننا مؤسسة غير مرخصة رسمياً.”

من جانب آخر، فإن علاقة الصحفيين مع المؤسسات الحكومية يشوبها الكثير من التوتر، إذ إن الحصول على أية معلومة منها يقتضي رحلة طويلة من الموافقات.

يعمل الصحفيون تبعاً لقانون العاملين اﻷساسي الموحّد في الدولة الذي طبّق منذ العام 2000 تقريباً، وينالون فوق ذلك تعويضات (تسمى بدل استكتاب) عن المواد المنجزة فوق حجم العمل المطلوب.

 آخر تحديث للأجور المسجّلة في مؤسسات وزارة الإعلام للصحفيين كبدل استكتاب لا تتجاوز الستة آلاف ليرة للتحقيق الصحفي، وقد يصل الأجر إلى ثمانية آلاف ليرة “إذا كان التحقيق مميزاً من وجهة نظر رئيس التحرير”، بينما لا يتعدى حجم الاستكتاب الكلي المسموح للصحفي خلال شهر كامل 20 ألف ليرة في أحسن الأحوال.

وحالياً تدفع بعض المواقع اﻹلكترونية المحلية أجراً يتراوح بين عشرة إلى عشرين ألف ليرة للمادة الواحدة. ويلاحظ الصحفي “محمد” أن هناك سعي من الصحفيين السوريين للعمل مع مؤسسات صحفية وإعلامية خارجية بسبب الفارق الكبير في قيمة المواد المنجزة التي تسبب بها الانهيار الحر الذي تشهده قيمة الليرة أمام العملات الأجنبية.

مهنة تخنق العاملين فيها

لا يعيش الصحفي السوري أيامه باطمئنان، لا هذا الوقت، ولا في اﻷوقات السابقة، فدائماً هناك سيف لا مرئي مسلّط فوق رأسه، يجعله يمارس الرقابة الشديدة على ما ينطق به على الورق كما في الحديث اليومي، ولربما هذا ليس بجديد.

ولكن الإصرار الحكومي واﻷمني على ملاحقة الصحفي حتى على آخر منصة يمكن له فيها أن يعيش قليلاً من حريته، جعل من مهنة الصحافة السورية العريقة تاريخياً مهنة “المتاعب في كل شيء.”

وتضيق هوامش الحرية حتى تكاد تخنق العاملين في هذه المهنة، لا امتيازات ولا أمان بالحد الأدنى، إلى الدرجة التي فضّل معها العديد من الصحفيين الانسحاب من مهنتهم بعد بيانات استنكار لهم على منصات التواصل، ليتحولوا إلى مهن أخرى أقل قلقاً.

أحد هؤلاء الصحفيين الناجحين افتتح مزرعة لزراعة اﻷشجار المثمرة في ريف دمشق، قال لـ “نورث برس” بالحرف: “بلا صحافة بلا بطيخ، وبلا وجع القلب والعقل.”

وأضاف: “ليس هناك سلطة رابعةّ، لدينا سلطة واحدة فقط هي الكل في الكل”.

تحرير : سامي شحرور