من وإلى القامشلي.. طرق “عالم المخدرات” سالكة

تحقيق: محمد حبش

تكفّلت بضع سجائر محشوة بمادة الحشيشة المخدرة تلقفها “إبراهيم” من “رفاق السوء”، بتحويله إلى مدمن تعاطى لاحقاً أنواعاً مختلفة من المخدرات، ليهوي سريعاً فيما يطلق عليه “عالم المخدرات”.

في هذا التحقيق نتعرف على قصة “إبراهيم” وغيره من مدمني المخدرات. نستكشف أيضاً خفايا هذا “العالم” في منطقة شمال شرق سوريا، عبر مقابلات مباشرة مع ضحايا ومتورطين، متعاطين وتجار ومروّجين، من داخل أحد السجون في القامشلي.

تقصّت “نورث برس” لستة أشهر متواصلة عن خط سير عمليات تهريب المخدرات من وإلى مناطق شمال شرقي سوريا التي تقع معظمها الآن تحت سيطرة الإدارة الذاتية بعد أن انسحبت منها حكومة دمشق مطلع صيف 2012 تاركةً وراءها إرثاً من الفوضى العارمة. 

وتمكن معدّ التحقيق من الحصول على ملفات يُكشف عنها للمرة الأولى، وتتعلق بشبكات تعمل في سوريا بطرق وأساليب مختلفة، منها استخدام شاحنات نقل المساعدات الخاصة بالهلال الأحمر العربي السوري في تهريب المخدرات.

ويكشف التحقيق أيضاً عمليات تهريب يديرها عناصر في حزب الله اللبناني وضباطا في جيش حكومة دمشق، عبر مطار القامشلي الدولي، وكيف حوّلوا حارة الطي في المدينة إلى بؤرة لتجارة المخدرات.    

كيف يسقطون في الهاوية؟

قبل سنوات من الآن، وفي حي “قدور بك” بمدينة القامشلي شمال شرقي سوريا، تعرّف “إبراهيم”، وهو اسم مستعار لرب أسرة يبلغ من العمر 40 عاماً، على هذا العالم المحفوف بالسرية ومخاطر الملاحقة القانونية، بالإضافة إلى كونه منبوذاً في المجتمع. 

يدعي رب الأسرة الذي يقضي الآن عقوبة السجن بعد أن حكم عليه بثلاث سنوات، إن أصدقاءه كانوا يحشون كمية من المواد المخدرة في السجائر دون علمه. وحين اكتشف الأمر كان قد أصبح مدمناً هو الآخر ثم مروجاً فيما بعد.

قبل نحو سنة ونصف من دخوله السجن، مرّ على “إبراهيم” 14 يوماً لم يستطع فيها النوم، سوى بضع ساعات، بعد تعاطيه لجرعة من الهيروين في غرفة خصصها لنفسه في منزل يعيش فيه مع زوجته وثلاثة أطفال. 

رافق هذه الأيام قلق وتوتر وغثيان أصيب خلالها بإسهال شديد وخوف من انتهاء مفعول الجرعة.

يقول: “لم يعد مهماً المحيط الذي أعيش فيه. ما كان يشغلني هو عندما تنفد كمية الهيروين لديّ، من أين سأجلب المزيد؟”.

ويوضح: “في البداية بدأت بالتعاطي بشكل مجاني على حساب أصدقائي الذين كانوا يحشون الحشيشة في السجائر دون علمي، لكني اعتدت على الأمر.”

يعتقد “إبراهيم” أن دخول عالم المخدرات ليس صعباً لأن الأجواء في البداية غالباً ما تكون مهيئة، لكن بعد بضعة أشهر تبدأ الصعوبات في تأمين المواد، “فتسقط كل يوم في الهاوية دون أن تدري.”

يتحدث إبراهيم عن تجربته مع التعاطي بالقول: “يفقد مدمن الهيروين بعد تعاطيه الجرعة شهيته للطعام طوال 14 يوماً، فلا يستطيع تناول أكثر من رغيف خبز واحد كل يوم، وسرعان ما يتغير لون بشرته الذي يميل إلى الأصفر الشاحب.

جميل يوسف، وهو اسم مستعار لمتعاطٍ يبلغ من العمر 36 عاماً، وصل إلى القامشلي عام 2012 قادماً من العاصمة دمشق، بعد اندلاع الحرب. 

يروي أنه عندما وصل إلى المدينة تفاجأ بمدى انتشار التعاطي بين رفاقه ودائرته المحيطة من الشباب، في ظل نشاط متزايد لحركة التجارة على وقع الفوضى التي خلفها انسحاب حكومة دمشق من المنطقة.

“في أحد السهرات كان جميع أصدقائي يضحكون باستثنائي، بعدها أعطوني جرعة من المخدرات لأدخل معهم في النشوة، ومن هنا بدأت القصة.”

بدأ “يوسف” بالتعاطي لمدة سنة ونصف، ليتوقف بعدها لعامين، لكنه عاد مجدداً للتعاطي من باب أن ما يقوم به “حرية شخصية، شرط ألا يضر بأحد.”

ويشير إلى أن معظم المتعاطين فقراء “يبدؤون بسرقة النقود من عائلاتهم، ليتطور الأمر إلى سرقة منازل الغير حتى يفقد ثقة الناس، ويصبح منبوذاً اجتماعياً.”

ويقضي “يوسف” مثله مثل “إبراهيم” ونحو مئة مدان آخرين العقوبة في هذا السجن، بأحكام تتراوح بين ثلاث إلى ست سنوات.

والهيروين من أكثر المواد رواجاً بعد الحشيشة بسبب توفرها ورخص أسعارها مقارنةً مع مواد أخرى باهظة الثمن. لكن الهيروين أكثر خطورةً من “حشيشة الكيف” من حيث الإدمان. 

قبل دخوله السجن كان “جميل” يتعاطى 20 غراماً من الهيروين شهرياً، كان يحصل على “حاجته” من تاجر (رفض الكشف عن اسمه). يقول “جميل” إنه تم إلقاء القبض على التاجر فوشى به أثناء التحقيقات.

وتنتشر أنواع أخرى من المواد المخدرة وتكثر أصنافها وأسعارها، ويعتبر الكوكايين من أخطر وأغلى المواد.

كيف تدخل المخدرات إلى القامشلي؟

تمتلك مناطق شمال شرقي سوريا ثلاثة منافذ مع كل من مناطق سيطرة حكومة دمشق ومناطق المعارضة المسلحة إلى جانب الحدود العراقية.

خلال هذا التحقيق تبين أن معظم المواد المخدرة تأتي من مناطق حكومة دمشق التي تعتبر مناطق حيوية لعناصر حزب الله اللبناني، بالإضافة لدخول قسم من المواد من مناطق سيطرة المعارضة المسلحة، بحسب ما يكشف تاجر ومروج ألقي القبض عليهما، وأجرينا معهما مقابلات حصرية من داخل سجنهما في القامشلي.

عندما دخل علينا التاجر في غرفة تم إعدادها مسبقاً لإجراء المقابلات صرخ بصوت عال: “لو كنت بعرف إنو الصحافة هون ما كنت طلعت من المهجع.”

لكن بعد أخذٍ ورد، وافق على الحديث، شرط عدم تصويره، ورغم تأكيدنا على إخفاء هويته، إلا أنه أصر على إخراج الكاميرات من الغرفة وهو ما تم بالفعل.

بدأ التاجر حديثه بقوله: “أعطني هاتفك لأحضر لك الكمية التي تريدها الآن. في لبنان الزراعة منتشرة ومع ارتفاع قيمة الدولار والأزمة الاقتصادية يرغبون بتصديرها بأي سعر كان.” 

وأكد: “الأمور سهلة، وليست بتلك الصعوبة التي تتوقعها.”

تعود بدايات تورط التاجر في عالم المخدرات إلى نحو 18 عاماً أثناء إقامته في العاصمة دمشق، حيث كان يتاجر بالحبوب المخدرة في أزقة الشام القديمة، ليُعتقل على إثرها في العام 2007 ويُنقل إلى سجن عدرا، أحد أكبر السجون في سوريا.

حُكم عليه سبع سنوات لكن “عمليات البيع والشراء استمرت حتى داخل السجن “بات لديّ أصدقاء كثر خلال فترة الاعتقال إلى حين خروجي” كما يقول.

ومع احتدام الحرب أطلق “النظام” عدداً كبيراً من المتورطين في تعاطي المخدرات بشرط التطوع في ميليشيات مساندة للجيش السوري، وتم نقل بعضهم إلى فوج 154 (طرطب) بالقرب من القامشلي، طبقاً لشهادة التاجر.

بعد خروجه من السجن في العام 2014 عاد التاجر إلى القامشلي واستمر في مهنته القديمة.

ويروي التاجر الذي حكمت عليه محاكم الإدارة الذاتية بعقوبة تصل لأربع سنوات: “كنت أعطي كميات من الحشيش لضابط في مطار القامشلي، يبيعها بدوره لعناصر الفوج 154، كما كان يتم إرسال دفعات من الحشيش عبر طائرات عسكرية من القامشلي إلى منطقة دير الزور.”  

أثناء محكوميته في سجن عدرا تعرّف على متعاطين ومسؤولين، وبعد خروجه من السجن وعودته إلى القامشلي استخدم علاقاته تلك لسد حاجة عناصر فوج طرطب من المخدرات.

نسأل التاجر: كيف تكون مناطق الحكومة مصدراً للحشيش في حين يتم استلام الكميات من قبل تاجر في القامشلي يقوم ببيعها لضباط؟

يجيب التاجر: “على سبيل المثال، كنتُ أرسل البضاعة إلى مجموعات الدفاع الوطني في الحسكة بالرغم من أن مناطق النظام كانت مصدر المخدرات، لأنهم لا يثقون بتجار تلك المناطق، كانوا بحاجة إلى طرف ثالث مثلي. فكنت أستلم البضاعة منهم ثم أعطيها لآخرين منهم وأحصل على عمولتي.”

ويبدو أن العملية كانت تجري على نحو تبادلي لإخفاء هوية الأشخاص الذين يتاجرون بين المناطق مستفيدين من النزاع وعدم التنسيق في المجال الأمني بين الإدارة الذاتية وحكومة دمشق.

عند دوار “باسل الأسد” القريب من مطار القامشلي كان التاجر يستلم كمية من المواد من شريكه الذي يسكن في حارة الطي (حي تسيطر عليه مجموعات الدفاع الوطني التابعة للحكومة)، ليسلمها التاجر إلى الضابط. 

ويضطر كما غيره من ممتهني هذه التجارة إلى تغيير أماكن تواجده أو أماكن استلام وتسليم البضاعة، لعدم إثارة الشبهات، “ويفضل أن تكون مناطق خالية من الحواجز وأعين الأجهزة الأمنية.”

ويشير التاجر إلى مسارين لدخول المخدرات إلى القامشلي، “الحشيش من لبنان والهيروين من إيران والعراق، يتم إرسال الهيروين إلى لبنان لتخفيف كثافتها ثم إعادتها مجدداً إلى سوريا.”

ويشرح: “يأتي صنفا الحشيش و”الهيروين المعدّل” من لبنان عن طريق تجار لديهم علاقات جيدة مع عناصر حزب الله، ويدخلان الأراضي السورية بواسطتهم، لتوزّعا فيما بعد حسب الطلب.”

ويضيف: “تدخل المواد المخدرة من الهيروين والحشيشة القامشلي عبر مطارها بوساطة عناصر حزب الله، ويتم إدخالها معظم الأحيان لحارة الطي ومنها يستلم التجار بضائعهم.”

كما تأتي دفعات أخرى من إيران إلى العراق وتدخل الأراضي السورية عبر مهرّبين في منطقة تل كوجر (اليعربية) الحدودية، ومنها إلى حارة الطي مروراً بحواجز قوات الصناديد و قوات الأمن الداخلي ( الأسايش)، وفقاً لمحدّثنا.

وبحسب التاجر فإن القامشلي أصبحت منطقة عبور، حيث تستقبل الهيروين من العراق ليتم إرسالها إلى لبنان لتخفيف كثافتها، ومن ثم إعادتها مجدداً إلى سوريا.

ويقول: “طالما بقيت الحدود مفتوحة فإن معالجة موضوع المخدرات مستحيلة، إنها تجارة مربحة، فحتى أثناء حظر التجول الخاص بجائحة كورونا كانت التجارة مستمرة، لا سيما مسار لبنان عن طريق عناصر حزب الله. تجارة المخدرات لا تتوقف.”

حارة الطي.. بؤرة للمخدرات

يكاد يجمع كل من قابلناهم على أن “حارة الطي” هي المركز الحيوي والأساسي للتجّار والمروّجين في المنطقة عموماً.

في عام 2012 رافق “إبراهيم” أحد أصدقائه من التجار بهدف استلام كمية من الهيروين مقابل بعض الأسلحة ومبلغ من المال. جرت عملية الاستلام والتسليم في “حارة الطي” التي تقع تحت سيطرة مجموعات الدفاع الوطني التابعة لحكومة دمشق.

يقول “إبراهيم”: “كان الضابط الذي جاء بالهيروين يستقل سيارة BMW. أعطاه صديقي الأسلحة والمال واستلم الكمية المتفق عليها من الهيروين. “هذه الأمور تحدث في الخفاء.”

وأثناء المقابلات التي أجريناها داخل السجن تحفّظ الُمدانون عن ذكر أسماء التجار الكبار الذين يديرون شبكات تجارة المخدرات، وفضّل أحدهم أن يصفهم بـ”الرؤوس الكبيرة”.

وبرروا عدم التطرق لهؤلاء، لخشيتهم من ضرر قد يلحق بهم أو بذويهم في الخارج.

يقول “التاجر” الذي يقضي عقوبة السجن بعد أن ألقي القبض عليه وبحوزته 35 كيلو غراماً من مادة الحشيشة: “الرؤوس الكبيرة لن تراهم في السجن. هم معروفون وبأسماء مرموقة في المجتمع، ولكنك لا تستطيع الوصول إليهم، لا أنت ولا من هم أكبر منك.”

وكغيره من المحكومين، تحفّظ “التاجر” على ذكر أسماء هؤلاء الأشخاص، لكنه ألمح بطريقة غير مباشرة: “البعض منهم معروفون بيننا ويحظون بسمعة جيدة، إنهم أصحاب مشاريع خدمية، ولكنهم في الحقيقة تجار مخدرات. لديهم شبكة علاقات واسعة ويعملون على نطاق واسع،  و مصالحهم تتداخل أحياناً مع مصالح دول.”

ويضيف: “أتعلم لم لا يجرؤ أحدنا على ذكر الأسماء؟”، ويجيب “لأننا نعلم أنهم أقوياء ولا يستطيع أحد الوصول إليهم.”

يعتمد التجار على شبكة علاقات قوية مع “شخصيات من السلطة”، ولكن بالرغم من ذلك فإن الإتجار وتهريب المخدرات ليس بهذه السهولة، حيث تعتمد على السرية في التجارة والانتقال وتوزيع الكميات. كل ذلك يحدث بواسطة أشخاص غالباً ما يكونوا واجهة فقط.

ويشير “التاجر” الذي تحفظ على ذكر أي معلومات موثّقة أو أرقام حول  التجار الكبار الذين لا يتعاملون مع تجار محليين صغار، بل “يرسلون المواد مباشرةً إلى لبنان عبر مطار القامشلي، ويملكون نفوذاً واسعاً في المطار.”

ويقول: “من يتم القبض عليهم هم إما متعاطون أو مروجون ويصنفون كتجار. لكن التجار الحقيقيين نادراً ما يتعاملون بالحشيش والهيروين. إنهم يتاجرون بالكوكايين.”

ويعتبر الكوكايين من أخطر وأغلى المواد، حيث يصل سعر الغرام الواحد منها إلى 100 دولار أميركي، ويقتصر تعاطيها والإتجار بها على التجار وأصحاب رؤوس الأموال.

يتحدث مسؤول في النيابة العامة بمحكمة القامشلي لـ”نورث برس” شرط عدم الكشف عن اسمه “معظم الأشخاص الذين نوقفهم يرتبطون بشبكات. لا أحد يستطيع العمل في مجال المخدرات بمفرده، ونعتمد على التحقيقات لكشفها.”

ويقول: “التجار الكبار الذين نكتشفهم من خلال تحقيقاتنا لا نستطيع الوصول إليهم، لأنهم خارج مناطق سيطرتنا، غالبيتهم يعيشون في حارة الطي. يخزّنون المواد  و يروجونها.”

ويضيف المسؤول: “حينما يذكر اسم حارة الطي تتوقف التحقيقات في القضية. لا نستطيع الوصول لهذا الحي، لذا نعتقل من لديه علاقة بتجارة المخدرات  والترويج لها حتى إن كان صغيراً في مناطقنا.”

شاحنة مساعدات ومخدرات

في كانون الثاني/يناير من عام 2020 انطلقت شاحنة تحمل مساعدات إنسانية لمنظمة الهلال الأحمر العربي السوري من محافظة طرطوس على الساحل السوري، متوجهةً إلى مدينة الحسكة شمال شرقي البلاد.

أثناء التفتيش، اكتشف عناصر من الأسايش 75 كيساً يحتوي كل منها 1000 حبة من الكبتاغون المخدر في إطارات السيارة.

أجرت “نورث برس” مقابلات حصرية مع أعضاء الشبكة في أحد سجون الإدارة الذاتية، وتتحفظ عن نشر أسمائهم بناءً على طلبهم.

وتتكون الشبكة من ستة أشخاص بالإضافة إلى ضابط أمني كبير في حكومة دمشق وشخص آخر يعيشان في محافظة اللاذقية على الساحل السوري.

انتظر محمود محمد، وهو اسمٌ مستعار لسائق الشاحنة، أربعة أيام في محافظة حمص للحصول على موافقة من منظمة الهلال الأحمر العربي السوري، ليتجه بعدها إلى مدينة الطبقة في مناطق سيطرة الإدارة الذاتية، انتظر فيها ليومين آخرين ثم انطلق نحو الحسكة.

“عندما وصلتُ إلى الحسكة، أخرجتُ ستة أكياس حبوب من الإطار الاحتياطي. احتفظت بها كي أضمن عمولتي من التاجر”، يقول محمود.

وجرت عملية إخراج السائق للأكياس في المدينة الصناعية بالحسكة، وكان ذلك سبباً في انكشاف أمره، فسرعان ما حاصرت الأسايش الشاحنة وألقت القبض عليه.

بعد التحقيقات أدلى السائق باعترافات حول الشبكة، وقامت الأسايش باستدراج التاجر إلى كمين نصب له في مدينة منبج شمال حلب.

كان من المفترض أن تتجه الشاحنة إلى مدينة منبج بعد إفراغ المساعدات في مقر الهلال الأحمر  بالحسكة. 

وفي منبج كان (عبدو الشيخ – 64 عاما)، وهو اسمٌ مستعار لصاحب الشاحنة والمسؤول عن استلام الشحنة، ينتظر قدومها بالقرب من شركة الكهرباء على طريق منبج – حلب. لم يعلم أن السائق قد ألقي القبض عليه في الحسكة. 

اتفق كل من الضابط ويوسف الشيخ؛ وهو شقيق عبدو الشيخ، على إرسال كمية الحبوب لإعطائها لتاجر آخر، عبر عبدو الذي كان في منبج، مقابل مبلغ قدره ـ 900 دولار أميركي.

وخلال التحقيقات وشى عبدو الشيخ بأسماء أربعة أشخاص آخرين كانوا بانتظار الشحنة، وتم اعتقالهم لاحقاً.

كيف تتعامل السلطات المحلية؟

منذ تأسيسه في العام 2014 يعتبر مكتب “مكافحة الجريمة المنظمة” الذي يتبع للأسايش في الإدارة الذاتية، المسؤول الأول عن ملف مكافحة المخدرات في المنطقة. 

يقول مسؤولون إن المكتب يقوم بتتبع تجّار ومروجي المخدرات اعتماداً على شبكة من المصادر الأهلية والتحقيقات الأولية التي تجري أثناء اعتقال أحد المتهمين.

وغالباً تكون مدة الاحتجاز “بهدف التحقيق” 72 ساعة، ومن الممكن أن تمتد إلى ستة أيام بعد طلب النيابة العامة إذن التمديد لدواعٍ متعلقة بالتحقيقات.

واتهم بعض من أجرينا معهم مقابلات شعبة الجريمة المنظمة بالتعامل مع المشتبهين بأساليب غير قانونية مثل التعذيب للوصول إلى المعلومات.

ولكن علي الحسن، الناطق باسم قوى الأمن الداخلي (الأسايش) نفى ذلك: “جميع غرف التحقيق مزودة بكاميرات ومسجلات صوت تعمل على مدار الساعة، ولا يمكن لأحد خرق القوانين الناظمة.”

وأضاف: “لدينا مكتب الشكاوى والرقابة، بإمكان أي أحد تقديم شكوى، حينها سنطلع النيابة على التسجيلات.  جميعها في الأرشيف ونحن جاهزون لتقديمها إن تطلب الأمر.”

لكن لا يسمح لغير القضاء والنيابة العامة بالاطلاع على تسجيلات وأرشيف التحقيقات.

في الخامس والعشرين من أيلول/سبتمبر من العام الماضي أعلنت الأسايش في مؤتمر صحفي بمدينة رميلان، عن إلقاء القبض على 182 شخصاً متهماً بتجارة المخدرات في شمال وشرقي سوريا. 

وبحسب الأسايش، اعتقل 33 تاجراً و71 مروجاً و78 متعاطياً في هذه الحملة، بالإضافة إلى إتلاف 1655 كيلو غراماً من الحشيش مطلع الشهر نفسه.

أطْلعنا “الحسن” على وثائق بحوزتنا ومعلومات حصلنا عليها عبر المقابلات التي   أجريناها، لا سيما فيما يتعلق بتحول القامشلي إلى منطقة عبور للمخدرات فكان رده: “حسب المعلومات والإحصائيات المتوفرة لدينا لا نستطيع أن نعتبر المدينة مركزاً لترويج المخدرات، ولكن إذا كان الترويج والتجارة يجريان في مناطق خارج سيطرتنا لا نستطيع أن نحكم.”

ويرفض الناطق باسم الأسايش بشكلٍ قاطع مسمى “الرؤوس الكبيرة: “هناك شبكات كثيرة تحاول استهداف المنطقة. لا نستطيع القول إن هناك رأس كبير أو صغير، فالكل متورط، من أصغر مروج إلى أكبر تاجر.”

وأضاف: “لا تهمنا الأسماء والصفات، نحن لا نفرق في هذا الموضوع، من كان متورطاً سيلقى القبض عليه أياً كان.”

لكن “التاجر” يصر من سجنه أن ثمّة 25 “رأساً كبيراً” ينشطون خارج القانون في المنطقة. إلا أنه لم يسمِّ أيّاً من هؤلاء.

حشيش بين محصول القطن

لم تكتف شبكات “عالم المخدرات” بتهريب المواد عبر وسائل متعددة، مستغلين الفوضى التي ترافق الحرب التي تشهدها البلاد منذ نحو عشر سنوات، بل حاول بعضهم مراراً إنتاج بعض الأنواع محلياً.

بين عامي 2011 و2014، شهدت مناطق شمال سوريا عمليات زراعة مادة الحشيش بشكل علني.

حينها كانت الأسايش لا تزال حديثة النشأة وقامت “بمصادرة المحصول وإتلافه”، وضبطت بشكل واسع الإنتاج المحلي في المناطق التي كانت تسيطر عليها.

وتراجع نشاط زراعة الحشيش مع مرور الوقت في المنطقة بشكل نسبي.

 لكن بعض المزارعين  يتحايلون على أجهزة الأمن عبر زراعة الحشيش بين شجيرات القطن حيناً وشتلات الكمون حيناً آخر.

 والعام الفائت ضبطت الأسايش مزرعة لإنتاج الحشيش المحلي في ريف الرقة كانت تنشط منذ أيام سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) على المنطقة.

يوضح “الحسن”: “كانت البذور مخزنة لدى المُزارع منذ أيام سيطرة داعش، وكان يحتفظ بها ليزرعها عندما تسنح له الفرصة.”

يضيف: “هناك الكثير من المعتقلين الذين اعترفوا بشكل رسمي بتورطهم مع جهات خارجية لاستهداف المنطقة.”

 ولكن “الحسن” امتنع عن تسمية أيٍّ من هذه الجهات مكتفياً بالقول: “الجميع يعرف من هي هذه الجهات التي تحاول استهداف تجربة الإدارة الذاتية. هذا ليس خافياً على أحد.”

لا يسمح لـ”مكتب مكافحة الجريمة المنظمة” إلقاء القبض على المشتَبه بهم والتحقيق معهم إلا بعد موافقة النيابة العامة المسؤولة عن المتابعة في قضايا مكافحة المخدرات.

ويكشف المكتب عن فحوى التحقيقات الأولية بعد جمع المعلومات حول المشتبَه بهم للنيابة العامة، ويُتابع الملف منذ بدايته بالتنسيق بين الجهتين، وفي حال أثبتت صحة الاشتباه تتم الموافقة على إلقاء القبض.

وتشرف النيابة العامة على التحقيقات الأولية وترفع القضية بالأدلة للمحكمة، لإقرار الحكم.

بحسب المادة 17 من المرسوم 15 الخاص بقانون المخدرات في الإدارة الذاتية، يسجن المتهم بتجارة المخدرات من ثلاث سنوات إلى الحكم المؤبد.

ولكن بحسب النيابة فإن أطول فترة عقوبة هي ستة أعوام، لعدم توفر سجون تستوعب المدانين في مناطق الإدارة الذاتية.

ويغرم المدان بمبلغ لا يقل عن مليون ليرة سورية ولا يزيد عن خمسة ملايين ليرة.

لا مصحات لـ”جميل” ولمئات المتعاطين

جميل يوسف، واحدٌ من بين المئات الذين تم إلقاء القبض عليهم بتهمة التعاطي، وهؤلاء يُزجون في السجن مع أشخاص مدانين بأحكام مختلفة، وفي كثير من الأحيان تضم مهاجع السجون تجاراً ومروجي مخدرات.

يقول جميل: “عندما ندخل السجن نقول لأنفسنا إننا لن نعود لهذا العالم، ولكن سرعان ما نسقط مجدداً فيه عندما نقابل أصدقاءنا المتعاطين، لأننا لم نتلقَ العلاج نفسياً وبدنياً.”

وبحسب المادة 23 من قانون المخدرات في الإدارة الذاتية، يحوَّل المتعاطون إلى “عيادة نفسية – اجتماعية”، وتعمل العيادة تحت إشراف لجنة متخصصة من هيئة الصحة لمعالجتهم نفسياً وبديناً.

وترفع اللجنة تقريراً مفصلاً عن حالة المتعاطي إلى المحكمة لتقرر الإفراج عنه أو حاجته للمزيد من العلاج.

ولكن حتى الآن لا تتوفر “العيادة النفسية – الاجتماعية” التي يقر القانون وجودها، فيقضي المتعاطي مدة عقوبته في السجن، ويُفرج عنه دون أن يتلقى أي نوع من العلاج.

وغالباً بعد خروجه من السجن، يتم القبض عليه مرة أخرى بتهمة التعاطي.

توجه معد التحقيق إلى الرئيس المشارك لهيئة الصحة جوان مصطفى، لسؤاله عن المهام التي تقع على عاتق الهيئة تجاه معالجة حالات التعاطي، وفق قانون المخدرات.

يقول مصطفى إنّ ثمّة تحضيرات كانت تجري لتشكيل لجنة مختصة لدراسة حالات التعاطي ومعالجتها،وإنشاء مصحٍّ لعلاج المتعاطين، لكن الهجوم التركي عام 2019 حال دون تحقيق ذلك..

ويؤكد “هناك دراسة جديدة لمشروع بناء مصح من قبل الهيئة، وسيقوم المصح بمعالجة المتعاطين.”

لكن إلى حين توفر مصحات متخصصة بمعالجة الإدمان في المنطقة التي تعاني عموماً نقصاً حاداً في المنشآت الصحية، سيبقى جميل وغيره من مئات المتعاطين دون علاج، وربما يقعون مرة أخرى فريسة تجار المخدرات بعد خروجهم من السجن ليعودوا إليه مجدداً.

كما أن الطرق إلى “عالم المخدرات” ستبقى سالكة من وإلى مناطق شمال شرقي سوريا إلى حين وضوح خارطة السيطرة الأمنية والانتهاء من حالة التداخل لمناطق النفوذ. 

أنجز التحقيق بإشراف حمزة همكي