رسالة من الداخل السوري: انسوا مؤتمر اللاجئين ولا تفكروا بالعودة للديار الآن
اللاذقية – سامي الزين ـ نورث برس
تابعت مرام علي (45 عاماً) مؤتمر عودة اللاجئين الذي انعقد في العاصمة دمشق الشهر الفائت بقدر ما ساعدت الكهرباء، ففي ظل غياب التيار لأكثر من 18 ساعة لا وقت للانشغال بقضيةٍ “نافلة” مثل هذه.
و”علي” مهندسة كهرباء وتدير منذ نحو 20 عاماً قسم الصيانة في مؤسسة كهرباء اللاذقية، وتقول بتهكم: “من لم يغادر حتى الآن، هو واحد من اثنين، إما أنه لم يتمكن من المغادرة، وإما أنه أحمق.”
تصدر السيدة حكمها غير عابئة بما قد يجره ذلك عليها من اعتراضات من الجمهور الموالي لخطوة مفاجئة قامت بها دمشق تجاه قضية اعتبرتها “قضية وطنية وإنسانية”، وتوليها بحسب البيان الختامي للمؤتمر “أولوية قصوى” في سبيل العودة إلى البلاد.
لكن هذه المطامح تقف دون تحقيقها عوامل كثيرة، وعلى رأسها كما تقول “مرام”: “معيشتنا الزفت.”
لاجئو أوروبا “في جنّة”
شهد المؤتمر وفق الإعلام الحكومي حضوراً عالمياً “بلغ 37 دولة ومنظمة وجمعية محلية ودولية، عدا عن الشخصيات الرسمية السورية والروسية والصينية واﻹيرانية.”
وافتتحه الرئيس السوري بكلمة متلفزة، في حين كان متوقعاً حضوره الشخصي وفق مراقبين في سبيل إعطائه الأولوية لقضية بهذا الحجم، على أنّ المؤتمر ليس موجهاً وفق أحمد إبراهيم زوج السيدة مرام إلى السوريين اللاجئين المقيمين في أوروبا أو تركيا مثلاً.
ويقول “إبراهيم”، وهو مهندس يعمل في الورش الميكانيكية في جامعة تشرين: “إنّ الصورة المتداولة لهؤلاء هي أنهم يعيشون في الجنة، حيث يقبضون من الضمان الاجتماعي معونةً شهريةً تعادل رواتبنا لمدة عامين على الأقل (حوالي 400-600 يورو أي ما يعادل وفق الأسعار الحالية لليرة السورية مقابل اليورو بين مليون ونصف إلى مليونين، وهو مجموع رواتب موظف من الدرجة اﻷولى لمدة عامين فأكثر.”
وهذا الرقم للفرد الواحد، ومع وجود عائلاتهم فإنه يصبح باﻵلاف، وهو يكفي العائلة لتقضي حياة كريمة بوجود الكهرباء والسكن والخدمات الأخرى، لذلك، فإن “عودتهم مثار شكوك كثيرة. لا شك سيكون هناك من سيفكر بالعودة، ولكن بالتأكيد ليس في هذه الظروف المأساوية التي نعيشها في الداخل السوري وفي مختلف مناطق البلاد.”
وتشير الأرقام المتوفرة إلى أنّ عدد اللاجئين السوريين في أوروبا قد اقترب من مليوني شخص نالت ألمانيا منهم نحو مليوناً ونصف المليون، فيما توزّع الباقي في دول أوروبية أخرى.
أما دول الجوار السوري فإن الحصة الأكبر كانت من نصيب تركيا حيث يقطن فيها وفق منظّمة آفاد التركية ما يزيد عن أربعة ملايين سوري، في حين توزّعت حصص الدول العربية بين لبنان التي يعيش فيها قرابة المليون سوري.
كما يعيش في الأردن كذلك قرابة المليون، بينما يعيش في العراق حوالي نصف مليون، أما مصر فأقل من ذلك بحوالي ربع مليون.
المخيمات “الحلقة الأضعف”
يتوجه المؤتمر بحسب “إبراهيم محمد” (61 عاماً) وهو ناشطٌ في الشأن العام من مدينة جبلة الساحلية، إلى اللاجئين القاطنين في مخيمات النزوح في الجوار السوري مثل لبنان واﻷردن والعراق، وبعض المقيمين في تركيا.
وهؤلاء من سيعود إلى البلاد، إلا أنّ عودتهم مرهونة وفق حديثه “بجانبين اثنين، اﻷول اقتناع دول الجوار أنّ عودتهم لن تحرمها كدول من المساعدات الدولية الهامّة لها مثل اﻷردن ولبنان وحتى تركيا، وكل منهم قد نال أموالاً بالمليارات.”
والأمر الثاني طبقاً لـ”محمد”: “قناعة اللاجئين أن عودتهم لن تقودهم إلى الاعتقال والمسائلة الأمنية والملاحقات، وهو أمر أكثر أهمية لهم من فقدانهم بطاقات المساعدة التي تقدمها اﻷمم المتحدة بقيمة 100 دولار شهرياً.”
ويقول إن: “توقف الملاحقات الأمنية وغيرها من المضايقات، مفتاح لعودتهم. صدّقني إن ما يعيشونه من ذلّ وجوع ومهانة يومية في كل ثانية تجعلهم يستعجلون العودة حتى لو لم يكن لكثير منهم بيوتاً أو تهدّمت بيوتهم ولم يعد لديهم مكان للإيواء، وما حدث مؤخراً في منطقة بشرّي في جبل لبنان يؤكد ذلك.”
وتعتبر هذه الشريحة من المهجّرين هي اﻷسوأ حالاً في عالم المهجرين السوريين، وينطبق ذلك بشكل رئيسي على مهجري الدول العربية بسبب الظروف القاسية التي يعيشونها في المخيمات.
ويرى إبراهيم محمد أنّ هؤلاء هم المستهدفون من مؤتمر اللاجئين وهم المدخل الذي تعمل عليه دمشق بالتعاون مع روسيا.
كما أنهم “الحلقة اﻷضعف” في هذا المشروع وذلك ﻷنهم يفتقدون كل مقومات الحياة والعيش الطبيعي، فعندما تكون أنت وعائلتك في خيمة وسط العراء والثلج والصحراء، فأوّل ما ترغب به “الخلاص من هذه العقوبة، عدا عن أنّ هؤلاء يمثلّون الشريحة اﻷفقر بين اللاجئين، ولو كانوا قادرين على متابعة هجرتهم صوب أوروبا لما ترددوا لحظة واحدةً!”.
وبحسب اﻹحصاءات المعلنة من الجانب الروسي أو السوري الرسمي فإن ما يقدّر بعشرات اﻵلاف من هؤلاء قد عادوا إلى البلاد عن طريق معبر نصيب الواقع على الحدود السورية اﻷردنية وعن طريق معبر المصنع مع لبنان.
لكن معلومات تشير إلى أن عودة هؤلاء إلى مناطقهم لم تتم حتى اﻵن بالشكل المطلوب بسبب العقبات اﻷمنية التي تحدد عدد الذين يمكنهم العودة إلى مناطقهم اﻷصلية، خاصةً مناطق ريف دمشق حيث تكتنف إجراءات العودة صعوبات كثيرة بسبب وجود مشاريع استثمارية لتلك المناطق.
بالإضافة إلى أن هذه المناطق شهدت المظاهرات اﻷكبر منذ العام 2011، وحسب مصادر محلية فإن عدد من عادوا إلى بيوتهم لم يتجاوز الآلاف.
وبين هذه الشريحة فإن وضع القاطنين في تركيا أقل سوءاً، إلا أن موجات العنصرية التي بدأت منذ أعوام ضدّهم ستجعل من عودة جزء كبير منهم أمراً ممكناً بحسب مراقبين.
لكن الأمر وفق إبراهيم محمد “مرهون” بفتح طريق بين أنقرة ودمشق وهو غير ممكن حالياً، ويقول: “كان واضحاً من إعلان المؤتمر أن أنقرة غير مرحب بها.”
والغريب في الموضوع “أن علاقة تركيا بروسيا (عرابة المؤتمر) فوق الجيدة. يبدو أن الوقت لم يحن بعد للقيام بانعطافات كبرى.” وفقاً لـ”محمد”.
“الحكي ما عليه جمرك”
كان من اللافت أن ملف مهجري الداخل لم يكن مدرجاً على أجندات مؤتمر عودة اللاجئين، وتقول “حنان” وهو اسم مستعار لسيدة من مهجرّي ريف اللاذقية ولم تستطع حتى اﻵن العودة إلى منزلها في قريتها “بلوطة” بسبب تعرضه “للتعفيش وسرقة محتوياته بما فيها أسلاك الكهرباء في جدران المنزل.”
وبالرغم من قيام الحكومة السورية بمساعدة بعض المهجّرين في ريف اللاذقية وإعادة ترميم بعض المنازل، إلا أن ذلك لم يكن كافياً لتسهيل طريق عودة النازحين داخلياً بحسب سكان في المنطقة.
وإلى جوار نازحي ريف اللاذقية ممن لم يعودوا حتى اﻵن إلى مناطقهم هناك نازحون من مناطق حلب باستثناء قلّةٍ ممن تملّكوا منازلاً أو أراضٍ، فإن آخر مراكز اﻹيواء هنا، وقد كان في المنطقة الصناعية الجديدة (بداية طريق حلب القديم)، قد أغلق مثله مثل العديد من مراكز اﻹيواء المقامة في المدارس التي عادت إلى مهمتها الأساسية.
إلا أنّ هذا وفقاً لـ”حنان”: “لا يعني أن أمورنا عال العال، فهناك الكثير من لا يملكون بيتاً ولا عملاً ولا قدرةً على العيش، كما أنّ البنية التحتية في تلك المناطق منعدمة كلياً”، وهو ما جعل المدن الكبرى تمتص هؤلاء المهجّرين في مناطق السكن العشوائي.
وتقول سيدة تبلغ من العمر 39 عاماً من منطقة خان العسل وتعيش مع ولديها في منطقة الصناعة الجديدة في اللاذقية ببيت مستأجر، إن المهم بالنسبة لها أن تتمكن من العودة إلى منزلها و”البقاء فيه بأمان” وأن تعود للعمل في أرض العائلة بعد أن قضى زوجها نحبه في معارك خان العسل.
وتقول: “الحكي ما عليه جمرك. يعني إذا ضلوا يحكوا سنين أنا شو رح استفاد؟ أتمنى لو أقدر على العودة فأرتاح من مليون قصة تخنق حياتي يومياً، قضيت عمري كله أوزّع الخضرة على الجيران واليوم أبحث عن لقمة العيش المغمّسة بالذل، أتمنى أقدر ارجع على بيتي.”
ويرى آخرون أن المؤتمر قد وجّه الأنظار إلى قضية “وطنية وإنسانية كبرى” للمرة الأولى في مسار الحرب السورية منذ اندلاع الاحتجاجات في العام 2011.
مفتاح العودة.. تبييض السجون
يشير “أحمد سليمان” (45 عاماً، وهو محام عتيق) إلى قضية هامة هي قضية “ضرورة إصدار عفو عام حقيقي” وقيام سلطات دمشق بتبييض السجون، “خاصة لجهة المعتقلين والمسجونين لدى الجهات اﻷمنية والقضائية والمحكومين بتهم الإرهاب الذين تغصّ بهم السجون والمحاكم.”
وهذه الخطوة سوف تحقق انفتاحاً حقيقياً وتجعل العديد من اللاجئين يفكّرون بالعودة إلى البلاد خاصة أن المانع الرئيسي مرتبط بالاستدعاءات اﻷمنية لأولادهم وأخوتهم وأقربائهم.
وهو “ما يجعل عودتهم مغامرة مرفوضة في حال لم يصدر العفو، إذ من غير المعروف أي جهة أمنية قد تستدعيك أو يكون لك (فيش) استدعاء لديهم.” بحسب هؤلاء.
ومؤخراً قالت وزارة الداخلية في حكومة دمشق إنها أعادت النظر بهذه الاستدعاءات وألغت قرابة 53 ألف مذكرة بحث فيما بقيت 50 ألف مذكرة بأسماء مطلوبين بموجب أحكام قضائية.
كما سبق وأصدر وزير العدل السابق هشام الشعار تعميماً بكف البحث عن المتوارين ضمن شروط معينة معطياً القضاء الدور الأكبر في العملية.
لكن المؤتمر لم يتناول أياً من هذا، في وقت انتشرت شائعات في الشارع المحلي بالساحل السوري مفادها قرب إصدار عفو رئاسي واسع “قبل الانتخابات الرئاسية القادمة في الصيف المقبل.”
ويقول المحامي “أحمد سليمان”، “ربما يأتي العفو بعد الانتخابات وهو المرجح كما جرى في الانتخابات الماضية.”
ولكن هذا الإجراء مهم لأجل “السلم الوطني الحقيقي”، وهو ليس بعيداً في ظل صدور أربعة مراسيم رئاسية (2014 و2017 و2019 ثم 2020) تضمنت جميعها قضايا الإرهاب والتخلف عن الخدمة العسكرية الإلزامية.
ومؤخراً صدر قانون لدفع البدل النقدي الخارجي والداخلي للراغبين بالإعفاء من الخدمة في القوات الحكومية، وهو ما يمكن أن يكون خطوة “تعزز الانفتاح” رغم التكاليف المادية الكبيرة للإعفاء البالغة ثلاثة آلاف دولار أميركي للبدل الداخلي وثمانية آلاف دولار للخارجي.
وبينما تسمع مرام علي هذه الأنباء تبدو غير مكترثة سوى بالتفكير بابنها خريج كلية الهندسة الذي يقضي عامه الخامس في سلك الاحتياط في القوات الحكومية، ولم يحالفه الحظ في التسريح مع من تسرحوا من “العسكرية” إثر قرار التسريح الأخير، وتقول: “تخيّل أي مستقبل ينتظره؟،ما أن يتسرّح حتى أرميه خارج هذا الوطن المعطاء.”
وتضحك وهي تشير إلى الإضاءة المنخفضة في منزلها بعد أربع ساعات ونصف من الانقطاع المتواصل: “يشعر السوري أن وراء كل تصريح حكومي صفقة من صفقات الفساد.”
ولا تخفي السيدة استغرابها من أنه “كيف يمكن لهؤلاء” التفكير بدعوة اللاجئين للعودة إذا كانت الكهرباء تغيب لأكثر من 18 ساعة يومياً؟.