تحفل سيرة رجب طيب أردوغان بالتحالفات والانقلابات والتناقضات معاً، فالرجل الذي لا يتوانى عن إطلاق تصريحات نارية ضد هذه الدولة أو تلك، ليست لديه أي مشكلة في أن يغير خطابه في اليوم نفسه تجاه الدولة نفسها أو غيرها، أو هذا الشخص أو ذاك، وأن يتبع سياسة براغماتية بوصلتها هي سلطته ونظامه ومصالحه، فهو مستعد لكل شيء من أجل هذه السلطة حتى لو اقتضى الأمر التخلي عن رفاق الدرب، بل والظهور بمظهر المتناقض مع نفسه.
اليوم وبعد أشهر من تصريحاته النارية ضد أوروبا، والهجوم على قادتها ولاسيما الرئيس الفرنسي ماكرون، وتهديده أوروبا من بوابة قبرص واليونان والمتوسط، بات أردوغان يتحدث بلغة مختلفة تماماً مع الأوروبيين، فهو يقول إنه يرى مستقبل بلاده في أوروبا، وهو نفسه الذي قال قبل فترة قصيرة إن “الاتحاد الأوروبي يمضي في طريقه الخاص، ونحن نمضي في طريقنا” مشيراً إلى أن جميع المشكلات مع الاتحاد الأوروبي يمكن حلها بالحوار.
من دون شك، من يدقق في هذه التصريحات، سيعتقد أنها صادرة عن رجلين مختلفين بل متناقضين في السلوك والرؤية والموقف، ومن يدقق في التجربة السياسية لأردوغان، سيرى أن هناك عشرات الأمثلة من هذه التناقضات، وهنا تحضرني أربعة أمثلة مهمة عن تناقضات أردوغان هذه، وهي:
الأول: أن أردوغان وحتى بعد أشهر من اندلاع الحراك الثوري السوري، كان يصف الرئيس السوري بشار الأسد بالأخ، وكان يزور سوريا باستمرار، وكانت زياراته تشمل حلب والرقة حيث ضريح السلطان العثماني في قلعة جعبر قبل أن يتم نقله من هناك، إلى درجة أنه كان يوحي بأن سوريا بلده وأن بشار الأسد أخ له، قبل أن ينقلب على كل ذلك، ويرسل المسلحين من أنحاء العالم إلى سوريا، ويطالب برحيل الأسد، ويعلن رغبته بالصلاة في الجامع الأموي بعد رحيل الأسد .. ومن ثم بعد سنوات من فصول الأزمة السورية، يصبح عدوه الوحيد في سوريا هو الكرد وقوات سوريا الديمقراطية وليس النظام السوري، وسط معطيات تشي بتفاهمات بين الجانبين برعاية روسية.
الثاني: عندما أسقطت تركيا مقاتلة حربية روسية فوق الحدود السورية-التركية عام 2015، انتهج أردوغان في البداية لغة نارية ضد موسكو، إذ كان يخاطب بوتين ويقول له: ماذا تفعل طائراتك فوق سماء حدودنا؟ هل لها وظيفة أخرى غير قتل الأطفال والنساء؟ بعد أشهر من هذه التصريحات النارية، اعتذر أردوغان عن إسقاط الطائرة الروسية، ودخل في تفاهمات مع بوتين، فكانت أستانة وسوتشي وصولاً إلى صفقات مشبوه على شكل متاجرة بدماء السوريين، ولاسيما بعد تحويل الفصائل المسلحة إلى مجرد مرتزقة للقتال في حروبه، من ليبيا إلى القوقاز مروراً بسوريا واليمن والصومال ومالي.
الثالث: أثناء المفاوضات بين الحكومة التركية وزعيم حزب العمال الكردستاني عبدالله أوجلان في إطار عملية السلام التي توقفت عام 2015، نُقل عن النائب في حزب الشعوب الديمقراطية سري ثريا اندور أن أردوغان كلفه مع وفد برلماني لزيارة قنديل لمعرفة موقف قيادة حزب العمال الكردستاني من العملية السلمية، وعندما عاد الوفد من قنديل واتصل أردوغان به للاستفسار عن الموقف، وبعد ساعات من اتصاله تفاجأ أعضاء الوفد بتصريحات نارية لأردوغان، يقول فيها إن الذين ذهبوا إلى قنديل يجب أن يحاكموا وأن يوضعوا في السجن، وفعلاً تم زج النائب في السجن ليمضي فيه قرابة خمس سنوات، مع أن أردوغان هو من كلفه بالذهاب إلى هناك في إطار عملية المصالحة التي أطلقها، قبل أن يعاد سجن اندور مؤخراً من جديد على خلفية أحداث معركة كوباني.
الرابع : قضية القس الأميركي أندرو برنسون الذي سجن في تركيا قبل سنوات بتهمة دعم (منظمات إرهابية)، إذ أن أردوغان أصر حتى اللحظة الأخيرة على عدم الإفراج عنه على اعتبار أن الأمر متروك للقضاء التركي وهو لا يتدخل فيه، لكن بعد اتصال من ترامب مع أردوغان وتهديدات قوية له، أمر الأخير بالإفراج عنه مباشرة، دون أي اعتبار لكلامه السابق ولا للقضاء التركي الذي كان يقول إنه مستقل ولا يتدخل فيه.
في الوقع، الانقلابات السياسية في حياة أردوغان كثيرة، كما هو حال لعبه على الشعارات والرموز الدينية والأيديولوجية، فالرجل عندما يتحدث إلى الجماعات المحافظة والأكراد خلال الانتخابات يرفع صور القرآن ويورد الأحاديث والرموز الدينية، وعندما يتحدث في المدن البحرية التركية يتحدث بلغة العلمانية وأتاتورك.
كذلك عندما يتحدث إلى العالم العربي، يتحدث بشعارات الأخوة والدين والقدس، فيما عندما يتوجه بخطابه إلى إسرائيل وأوروبا والغرب عموماً، فلا مكانة للعواطف فيه، إذ أن اللغة السائدة هنا، هي لغة المصالح أولاً وأخيراً.
من دون شك، الأمثلة حول تناقضات أردوغان كثيرة لدرجه أنه لا تكفي مقالة أو دراسة لذكرها.
واليوم، ثمة أسئلة كثيرة تطرح حول أسباب عودة أردوغان للحديث عن ضرورة القيام بإصلاحات جديدة، وخطابه التصالحي مع أوروبا .. والسؤال هنا، ما الذي يقف وراء كل ذلك؟
أعتقد أن سببين رئيسين يقفان وراء التحول الجاري في خطاب أردوغان، أولهما اقتراب موعد القمة الأوروبية المقرر عقدها يومي العاشر والحادي عشر من الشهر المقبل، حيث تنعقد هذه القمة وسط بلورة موقف أوروبي واضح وقوي من تركيا وممارساتها، ووسط تأكيد بفرض عقوبات مؤلمة ضدها ولاسيما بعد موافقة البرلمان الأوروبي على ذلك، وما يرجح هذا الأمر، هو التحول الكبير الذي حصل في الموقف الألماني بالتزامن مع وصول إدارة ديمقراطية إلى سدة البيت الأبيض.
وثانيهما أن فوز جو بايدن بالانتخابات الرئاسية الأميركية يعني أننا أمام سياسة أميركية مغايرة لسياسة الجمهوري ترامب الذي ساير أردوغان كثيراً، ودخل معه في تفاهمات وصفقات أقرب إلى المصالح الشخصية على حساب الثوابت الاستراتيجية للسياسة الأميركية، فيما كل التوقعات ترجح انتهاج بايدن سياسة حازمة تجاه أردوغان، انطلاقاً من السيادة والدستور الأميركيين.
مع هذه المتغيرات على المستويين الأميركي والأوروبي، فإن أردوغان بات يطمح للعودة من جديد إلى أحضان الغرب بعد أن ذهب بعيداً في التقارب مع روسيا وإيران، وهو عندما يفعل ذلك، يدرك أهمية إنقاذ اقتصاد بلاده الذي ينهار دون القدرة على إنقاذه، كما أنه يدرك أن لعبة البقاء في السلطة ستكون مكلفة مع المتغيرات الجارية في الخارج والداخل معاً، حيث التحسب الكبير من مقتضيات سياسة الإدارة الأميركية المقبلة، لذا يحرص أردوغان إلى الظهور بشكل مغاير عن السابق، لدرجة أن أردوغان يبدو وكأنه ضد أردوغان نفسه !
إنها المعادلة التي يجيدها الرجل جيداً بعد أن أتقن فن إدارة التحالفات والانقلاب معاً، وعليه لن يكون غريباً أن يرفع قريباً لواء الانفتاح على القضية الكردية من جديد لتسويق أردوغان الثاني بعد أن احترقت أوراق أردوغان الأول ومراكبه الإخوانية والعثمانية.