أردوغان إلى بغداد.. عسكرة الجيوسياسة 

مستثمراً مناخ التقارب الجاري مع واشنطن، يعد أردوغان قواربه لزيارة بغداد الشهر المقبل بعد أن تأجلت للمرة الثانية، استبق أردوغان زيارته بإرسال رسالة واضحة ومباشرة، وهي أنه يريد عملية عسكرية مشتركة مع بغداد وأربيل ضد قنديل، واستكمال عملياته العسكرية في شمال شرقي سوريا، وسط قناعته بأنه اغتنم ورقة ثمينة من بغداد بعد أن قالت الأخيرة أن حزب العمال الكردستاني محظور في العراق إثر القمة الأمنية الرفيعة المستوى التي جرت بين الجانبين في بغداد.   

موضوعان رئيسيان يفكر بهما أردوغان وهو في طريقه إلى بغداد، وهما عملية عسكرية تلحق ضربة قاصمة بالعمال الكردستاني، وفتح الطريق أمام مشروع “طريق التنمية” الذي يربط بلاده بالخليج عبر العراق، وهو مشروع تجاري مهم لبلاده في ظل الأزمة الاقتصادية التي تعاني منها، وتزداد أهميته في ظل حرب الممرات التجارية المشتعلة بين الدول الكبرى والإقليمية، وهو يفكر بكيفية دفع الموضوعين إلى حيز التنفيذ، يعرف جيداً أن لدى بغداد هي الأخرى مطالب، تتلخص بقضيتي المياه والوجود العسكري التركي في شمال البلاد، وإذا كان موضوع المياه سهلاً في ظل سياسة إطلاق كميات من مياه نهري دجلة والفرات هي في الأصل من حصة العراق وسوريا، فإن موضوع الوجود العسكري التركي قد يكون عقدة مستعصية، لطالما أن السياسة التركية جنوباً تصبّ في عسكرة الجيوسياسية، مدفوعة بهواجس التاريخ والطموحات الجامحة والتطلع إلى النفوذ والسيطرة، وفي هذا الإطار يدور الحديث التركي عن إقامة منطقة أمنية في شمالي سوريا والعراق.

أردوغان الذي يريد صرف رسائله التصعيدية المسبقة في صناديق الانتخابات البلدية حيث حلم استعادة رئاسة بلديتي إسطنبول وأنقرة، يعرف جيداً أن التحرك في العراق يعني إيران التي لا يمكن لبغداد أن تدخل في عملية مشتركة مع تركيا دون موافقتها، ولا تبدو إيران في وارد هذه الموافقة طالما أن ذلك سيكون على حساب نفوذها ودورها وسياستها في العراق، خاصة أن الأمر بالنسبة لتركيا يتجاوز قنديل إلى سنجار/شنكال ومخمور وغيرها من المناطق التي للحشد الشعبي نفوذ كبير فيها، وتعد صلة وصل جغرافية تصل طهران بالأراضي السورية كما أنها تشكل ممراً للتواصل الأميركي بين شمال العراق وشرقي سوريا، وعليه ينبغي مراقبة تحركات السياسة جيداً على خط أنقرة-طهران في الأيام المقبلة، على هذا النحو هل سنشهد زيارات رفيعة بين الجانبين من أجل التفاهم على التحرك التركي وحدوده وأهدافه أم أن طهران ستسبق أردوغان إلى بغداد؟ في محاولة الإجابة عن السؤال، ينبغي النظر إلى أهمية تسريب خبرٍ يقول إن وفداً مشتركاً من الحرس الثوري الإيراني ووزارة الخارجية سيزور بغداد قبل زيارة أردوغان المقررة في منتصف الشهر المقبل، إن حصل ذلك، فهذا يعني أن طهران ستضع خطوطاً حمراء لحدود ذهاب بغداد نحو أردوغان ورغباته، وإذا كان العامل الإيراني سيكون مهماً في تحديد نتائج زيارة أردوغان إلى بغداد، فإن حديث أردوغان عن استكمال العمليات العسكرية التركية في شمال شرقي سوريا، يعني بالدرجة الأولى الولايات المتحدة، ووجودها العسكري في هذه المنطقة، إذ إن حديثه عن إقامة منطقة أمنية بعمق 30 إلى40 كم يعني الإحلال محل الوجود العسكري الأميركي أولاً، وثانياً ضرب قوات سوريا الديمقراطية، الحليف الموثوق للتحالف الدولي ضد داعش، وهو ما لا يبدو منطقياً في ظل اشتداد الصراعات التي تدفع بالجانب الأميركي إلى تعزيز نفوذه في المنطقة عكس الرغبة التركية، وهنا السؤال على ماذا يراهن أردوغان؟ هل على التقارب الجاري مع أميركا بعد الموافقة على ضم السويد إلى عضوية الناتو وموافقة الكونغرس على صفقة بيع مقاتلات إف – 16 لتركيا؟ ربما يكون أردوغان مدفوعاً بمثل هذا المسار، وصفقات غير معلنة لها علاقة بالموقف من حربي غزة وأوكرانيا، لكن الثابت قد لا تكون حسابات أردوغان متطابقة أو متوافقة مع حسابات أميركا في سوريا، وحتى أن حصل توافق ما بينهما لأهداف مختلفة، فإنه لا يمكن تجاهل اللاعب الروسي، حيث من المقرر أن يزور بوتين تركيا الشهر المقبل، ولا بد أن يكون أي تحرك تركي في سوريا بعلمه وموافقته، وأي صفقة أميركية-تركية في سوريا، لا بد أن تجابه بتحرك روسي يخلط الأوراق، ويزج باللاعبين الإقليميين، ويغير مواقع اللاعبين  المحليين، فالقضية لها علاقة بقلب الخرائط على جانبي دجلة والفرات، وهذا أمر لا يتعلق بشرقي الفرات فحسب بل بخريطة سوريا والعراق والمنطقة إلى حد كبير.

تعقيدات كثيرة، قد تجعل من سياسة إطلاق مياه نهري دجلة والفرات مقابل عسكرة الجيوسياسة صعبة بل وغير ممكنة، وأمام اختلاف حسابات اللاعبين قد تتأجل زيارة أردوغان إلى بغداد للمرة الثالثة وربما تلغى، وفي كل هذا يوجه السؤال للكرد في معاقلهم بأربيل والسليمانية وقنديل والقامشلي .. عن جدوى البقاء منفردين في هذه المعاقل دون مرجعية قومية وسياسية توحدهم في ظل كل ما يخطط لهم وللمنطقة.