على وقع أزماتها المالية والمعيشية المتفاقمة، صعّدت تركيا من عدوانها على مناطق شمال شرقي سوريا خلال الأيام القليلة الماضية، واللافت هذه المرة هو حجم استهداف البنية التحتية، إلى درجة أن القصف التركي طاول كل ما له علاقة بحياة الإنسان من ماء وكهرباء وخدمات في هذه المناطق، وكأن لسان حالها يقول لن أسمح لشعوب هذه المنطقة بالعيش الكريم، وما عليهم إلا الهجرة وإلا فإن الفوضى والجوع والموت في انتظارهم.
حمل توقيت العدوان التركي دلالات محلية وإقليمية بالغة؛ ففي الداخل باتت ثمة معادلة معروفة، مفادها، كلما كانت هناك انتخابات تركية لا بد من عملية عسكرية باسم مكافحة الإرهاب من أجل تعبئة الداخل التركي، وحشده خلف تحالف حزب العدالة والتنمية والحركة القومية المتطرفة، إذ إن هذا السلوك بات معروفاً لكسب أصوات التيارات القومية والدينية المتطرفة لطالما أن شعار العمليات العسكرية التي تشنها تركيا، هو حماية الأمن القومي التركي، حيث لا يتوقف أردوغان عن القول: ” لن نسمح بإقامة دولة إرهابية على حدودنا الجنوبية”. وهكذا تصبح الحرب ضد الكرد سلوكاً انتخابياً في معركة الوصول إلى السلطة والبقاء في سدتها، وهي معركة هدفها الأول إرضاء الشارع التركي القومي بالدرجة الأولى، مع أنها لا تحقق هدفها، ذلك أن هذه العمليات أثرها وقتيّ، لا تتجاوز الهدف الانتخابي وترتيب البيت الداخلي لأركان السلطة مع بقاء المشكلة مكانها، بل وتفاقمها بسبب نهج العنف المعتمد من قبل الدولة التركية، مقابل قدرة الحركة الكردية على دوام المقاومة كهدف ثابت مهما كان حجم العدوان، وما الخسائر الكبيرة التي ألحقتها مؤخراً بالجيش التركي في مناطق قنديل إلا تأكيد على ما سبق، واللافت في التصريحات التركية على وقع العدوان الأخير، أمران:
الأول، هو محاولة إضفاء حالة وطنية على العدوان التركي من خلال ربط هذا العدوان بمحاربة مخططات أمبريالية، كما صرح أردوغان عندما قال إن الإمبرياليين يعملون لإقامة “إرهابستان” في العراق وسوريا، وأن تركيا ستُفشل هذه المخططات، وسط حملة تركية لربط ما يجري بحرب غزة، والقول إن المخطط يصل إلى حد تقسيم تركيا، والأخطر هو حملة ربط نشاط الحركة الكردية بإسرائيل في محاولة لتشويه صورتها أمام الرأي العام العربي والإسلامي.
والثاني، هو التلويح الصريح بتوسيع رقعة الاستهداف المباشر، حيث هدد وزير الخارجية، حقي فيدان، باستهداف السليمانية في إشارة إلى معقل الاتحاد الوطني الكردستاني، إذ إن تركيا لا تروق لها موقف الاتحاد الوطني الرافض للأجندة التركية حيال القضية الكردية في المنطقة. والسؤال هنا إلى متى سيواصل أردوغان حروبه هذه في الوقت الذي تتفاقم فيه مشكلات الداخل التركي؟ وإلى متى سيبقى أردوغان على سياسة توريط الجيش التركي في حروب عبثية لإبعاده عن مشكلات الداخل؟
في الدلالات الخارجية لتوقيت العدوان التركي، لا بد من ربط هذا العدوان بجملة تطورات واستحقاقات أمنية وسياسية دراماتيكية تشهدها المنطقة والعالم، فأردوغان الذي يجد نفسه في محنة خيارات إزاء حرب غزة، يحاول استثمار كل شيء لتحقيق أجندته، وعليه جعل من قضية موافقة بلاده على ضم السويد إلى عضوية حلف الناتو قضية إبتزاز للإدارة الأميركية، فكلما حصل لقاء أميركي- تركي يسارع الجانب التركي إلى ربط هذه الموافقة بضوء أخضر أميركي أو على الأقل صمته إزاء الحرب التي تشنها تركيا ضد الكرد، وواشنطن التي تدرك أهمية موقع تركيا في العديد من القضايا، لا سيما الموقف من الحرب الروسية-الأوكرانية، تحرص على عدم خسارة تركيا لصالح روسيا، وعليه تساير السياسة التركية في قضايا لا تعد أولوية قصوى في السياسة الأمريكية، ولعل هذا ما يفسر صمتها إزاء العدوان التركي الأخير على مناطق شمال شرق سوريا، رغم أن هذا العدوان يقوي من تنظيم داعش الإرهابي الذي تقول واشنطن إنها موجودة في المنطقة لمحاربته، وهو ما يضعف من مصداقية الموقف الأميركي، فيما على الضفة الأخرى، تصمت روسيا هي الأخرى إزاء هذا العدوان التركي، وربما للسبب الأميركي نفسه لجهة الحرص على عدم خسارة تركيا، بل وربما ترى في السلوك التركي خدمة للسياسة الروسية إزاء الملف السوري، وهكذا تتجاهل كل من موسكو وواشنطن الخرق التركي للاتفاقيات التي وقعت مع الجانبين عام 2019 بخصوص كيفية الحفاظ على أمن منطقة شمال شرق سوريا وطريقة إدارتها، ولعل الأفظع من الموقفين الأميركي والروسي، هو موقف الدول العربية والإسلامية من العدوان التركي الأخير، إذ إن كل التدمير الذي حصل لم ترف جفن لهذه الدول التي تسخر كل وسائل إعلامها وتصريحات وجهود مسؤوليها لحرب غزة، فيما لا يقل بشاعة ما تقوم بها تركيا ضد شمال شرق سوريا عن ما تقوم بها إسرائيل في غزة، مفارقة تتجاوز مصالح العلاقة المباشرة مع تركيا أردوغان إلى العقل الأيديولوجي في النظر إلى العدوان التركي، إذ حتى جامعة الدول العربية لم تسمع هذه المرة بهذا العدوان بعد أن أعتادت خلال السنوات الماضية على بيانات الإدانة والرفض وأحياناً التنديد!
من دون شك، عمّق العدوان التركي الأخير من معاناة الشعب في مناطق شمال شرقي سوريا، لكن الثابت أن ما تحقق هناك أصبح معطى في معادلة السياسة الدولية التي تتقاطع مع إرادة تتطلع إلى التغيير والبناء رغم كل الظروف والتحديات والمخاطر.