للمرة الثالثة أجّل الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، زيارته التي كانت مقررة إلى تركيا في الثاني عشر من الشهر الجاري، إذ في كل مرة يتم تحديد موعد الزيارة، نسمع لاحقاً أنه لم يتم تحديد موعد لها، أو أنه تم إرجاءها إلى موعد لاحق، قبل أن نسمع عن محادثات سياسية بين الجانين لتحديد موعد جديد لها، ولعل هذا التواتر في المواعيد يكشف عن حالة فتور إن لم نقل مشكلات وخلافات بين الجانبين رغم عدم إعلان مسوؤلي البلدين عن ذلك، فما الذي يقف وراء ما سبق؟ وهل التفاهمات التي جرت بين البلدين لم تعد تصلح في ظل المتغيرات الجارية؟ وما هي تداعيات ما يحصل على مستقبل العلاقات بين البلدين والقضايا التي تشغلها؟
بداية، لا بد من الإشارة إلى أن البلدين نجحا خلال السنوات الماضية في نسج تفاهمات كبيرة، فمن سوريا إلى ليبيا مروراً بالقوقاز.. حرص الطرفان على عقد صفقات وتفاهمات أثرت على مجرى الأحداث في هذه الدول والمناطق، كما نجحا في تطوير العلاقات الاقتصادية بينهما بشكل كبير، حيث مشاريع الطاقة والتجارة والسياحة وبناء المفاعلات النووية، بل وصل الأمر إلى حد ذهاب تركيا إلى شراء المنظومة الصاروخية الروسية الدفاعية إس- 400 رغم المعارضة الأميركية الشديدة.
لكن من يدقق في مسار العلاقات بين البلدين خلال الفترة الأخيرة، لابد أن يرى أن الانسجام الروسي – التركي يتراجع، وأن الملفات التي تم طرحها عقب الحرب الروسية على أوكرانيا للحفاظ على هذه العلاقات تتحول تدريجياً إلى خلافات تتراكم على قاعدة الاصفطافات الدولية وعوامل جيوسياسية، ولعل نظرة بسيطة إلى واقع القضايا التي تشغل هذه العلاقة ستضعنا أمام هذه الحقيقة، فاتفاقية نقل الحبوب الأوكرانية إلى الخارج عبر البحر الأسود بوساطة تركية جمدت بأمر من بوتين رغم مطالبة أردوغان مراراً بإعادة تفعيلها، ومشروع تحويل تركيا إلى خزان لنقل الغاز الروسي إلى أوروبا لم يرَ النور، بل فقد أهميته في ظل نجاح أوروبا في تأمين البدائل، والوساطة الروسية للجمع بين الأسد وأردوغان لم تعد مطروحة خاصة بعد إعلان موسكو عن فشل جهودها في تحقيق ذلك، والطاولة الرباعية التي جمعت روسيا وتركيا وإيران وسوريا لم يعد لها وجود في يوميات السياسة الروسية – التركية، مقابل كل ما سبق، ظهرت معطيات جديدة على جبهة العلاقة التركية – الأمريكية عمقت من نظرة الشك الروسية تجاه تركيا أردوغان، فبعد رهان روسيا على تركيا كحصان طروادة لها داخل حلف الناتو، وافقت أنقرة على ضم السويد إلى عضوية الناتو، وبالتزامن بدأت تنخرط تدريجياً في العقوبات الأمريكية المفروضة على روسيا، بل ذهبت أبعد من ذلك عندما قررت البدء ببناء مصنع لإنتاج مسيرات من نوع بيرقدار على الأراضي الأوكرانية، فضلاً عن التحسن الجاري في العلاقات الأميركية – التركية خاصة بعد موافقة الكونغرس على صفقة بيع تركيا مقاتلات إف- 16، ولعل كل ما سبق دفع بالعديد من الأوساط الروسية إلى المطالبة بضرورة مراجعة العلاقة مع تركيا، بل وصفها البعض بالعدو، ولم يكن التقرير الذي نشرته صحيفة برافدا الروسية في الثامن من الشهر الجاري بهذا الخصوص إلا تعبيراً عن غضب روسي مضمر إزاء التحولات الجارية في السياسة التركية.
من دون شك، المعطيات السابقة تضع العلاقات الروسية – التركية أمام امتحان صعب، خاصة أن رهانات الطرفين فشلت، فبوتين الذي كان يريد صداماً تركيا – أمريكيا في شرقي سوريا لدفع القوات الأميركية إلى الانسحاب من سوريا بات يلحظ تفاهمات أميركية – تركية إزاء الأزمة السورية، ولعل الصمت الأمريكي إزاء العدوان التركي الأخير الذي هدف لتدمير البنية التحتية في شمال شرقي سوريا جاء في هذا السياق، فيما أردوغان الذي راهن على انشغال بوتين بالحرب مع أوكرانيا لتقديم تنازلات حيوية له في القوقاز وسوريا بات يجد في تأجيل بوتين المتكرر لزياراته إلى تركيا “عين حمراء” روسية تنبع من حساسية العلاقات التاريخية بين البلدين، وهي حساسية تنبع من الحروب الكثيرة التي جرت بين البلدين عبر التاريخ، ومن عودة تركيا إلى ممارسة السياسة إزاء روسيا من بعدها الأطلسي، وهو ما يجعل الخطأ في الحسابات الدقيقة بينهما قاتلاً ومفجراً للتفاهمات التي نسجت بينهما خلال الفترة الماضية، ولعل هذا ما تريده واشنطن التي ربما تتطلع بعمق إلى قلب طاولة العلاقات بين بوتين – أردوغان عليهما معاً، مسار ينبغي مراقبته بدقة لفهم التطورات المستقبلية على صعيد العلاقات الروسية – التركية وتداعياتها على العديد من القضايا الإقليمية المثارة.