حين انقلب أردوغان على الإسلام المعتدل

عندما تأسس حزب العدالة والتنمية التركي عام 2001، على يد مجموعة من تلامذة نجم الدين أربكان، مؤسس الإسلام السياسي في تركيا، وعلى رأسهم رجب طيب أردوغان وعبدالله غُل، لم يكن الحزب معروفًا أو له نفوذ ولا سيما في المدن الكبرى. ولكن رغم ذلك، فاز في العام التالي بنسبة كبيرة من الأصوات في الانتخابات البرلمانية التي جرت، تلك الانتخابات التي مهدت له لاحقًا للوصول إلى السلطة، ومن ثم السيطرة على مؤسسات البلاد، بما في ذلك مؤسسة الجيش التي هي أقدم المؤسسات التركية التي ظلت تحكم البلاد من وراء الستار، منذ تأسيس الجمهورية التركية على يد مصطفى كمال أتاتورك عام 1923.

كان فوز الحزب بمثابة انهيار رسمي للأيديولوجية العلمانية الكمالية (نسبة إلى مصطفى كمال أتاتورك) التي حكمت البلاد، وهو ما أثار دهشة الأتراك قبل غيرهم، فكيف لحزبٍ جديد، وغير معروف، أن يحقق هذا الفوز الكبير خلال فترة قصيرة؟ في الواقع، ربما من الصعب إيجاد جواب مقنع عن هذا السؤال من قِبل شعوب المنطقة، ولا سيما أن الكثير من الأوساط العربية والإسلامية، تعاطفت في البداية بشكل كبير مع حزب العدالة والتنمية، بوصفه طرح نموذجًا معتدلًا، يوفِّق بين الإسلام والعلمانية والديمقراطية والاقتصاد، قبل أن يتحول الحزب لاحقًا إلى حزب شمولي استبدادي، يحكمة رجل واحد هو أردوغان. وعليه، فإن الجواب عن السؤال السابق، قد لا يكون متوفراً إلا في أوساط تركية مطلعة على مسيرة تأسيس حزب العدالة والتنمية، وبشكل خاص على مسيرة أردوغان الشخصية.

في كتابه “حزب العدالة والتنمية كمشروع أمريكي”، والذي ترجمه إلى العربية أحمد الإبراهيم، يسلّط الصحفي التركي مردان ينارداغ، الضوء على الفترة التي سبقت تأسيس حزب العدالة والتنمية، وكيف تحول مكتب أردوغان عندما كان رئيسًا لبلدية إسطنبول إلى مكتب يزوره باستمرار كبار المسؤولين الأميركيين في الاستخبارات والخارجية، ومن هناك كيف نُسِجت العلاقة بين أردوغان والإدارة الأميركية، ومن ثم زياراته السرية إلى واشنطن، ولقاءاته باللوبي اليهودي هناك، وتكريم الأخير له، وصولاً إلى استقباله من قبل الرئيس الأسبق جورج بوش الأب عام 2002، دون أن يكون لأردوغان أي منصب أو صفة رسمية وقتها. وفي كل هذا، تتجه الأنظار إلى الدور الكبير الذي لعبه جراهام فولر الذي يُعدُّ أحد أهم الخبراء في شؤون الشرق الأوسط وتركيا والإسلام لدى الخارجية والاستخبارات الأميركيتين، حيث تحدث جراهام في عام 2001، أي قبل فترة قصيرة من تأسيس حزب العدالة والتنمية، عن تأسيس حزب جديد في تركيا سيحدث زلزالًا في الحياة السياسية التركية، وأنه من خلاله سيصل الإسلاميون المعتدلون إلى السلطة في تركيا، قبل أن ينشر جراهام لاحقاً كتابه المعروف المعنون بـ”الجمهورية التركية الجديدة”، وعن طريقه “فولر”، نشأت علاقة وثيقة بين أردوغان وكل من ريتشارد بيرل المعروف بأمير الظلام، وبول وولفويتز الذي كان من أحد أهم مخططي غزو العراق عام 2003. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا، ما الذي وقف وراء التبنّي الأميركي وقتها لحزب العدالة والتنمية وزعيمه أردوغان؟

في الواقع، هناك سببان رئيسيان، هما:

الأول: قناعة الإدارة الأميركية بإمكانية طرح نموذج إسلامي معتدل لمواجهة التهديد الذي شكلته التيارات والتنظيمات المتطرفة، وعلى رأسها القاعدة وطالبان وثورة الخميني، وكان اختيار تركيا لأسباب كثيرة. واللافت أن أصحاب هذه القناعة لم يذهبوا إلى تعويم التيار العلماني الذي كان يحكم تركيا، بل اتجهوا إلى إيجاد تيار إسلامي مؤلَّف من حزب العدالة والتنمية وحركة غولن، وقد برر جراهام هذا السلوك بأن دعم التيار العلماني ليس الطريقة الأفضل لمواجهة الحركات المتشددة، وأن مكافحة التشدد لن يكون إلا من خلال تيار إسلامي معتدل.

الثاني: أن الإدارة الأميركية، وأمام رفض رئيس الوزراء التركي الراحل بولند أجاويد وقتها السماح للقوات الأميركية بغزو العراق انطلاقاً من الأراضي التركية، وجدت من الأهمية إيجاد بديل سياسي له، ومن هنا بدأت قصة إخراج أجاويد من الحكم لصالح حزب العدالة والتنمية وزعيمه أردوغان، ومع أن أردوغان يفتخر اليوم بأن تركيا لم تشارك في غزو العراق، ولكنه يتجاهل عن عمد أن حزبه وقتها قدَّم مشروعاً للبرلمان للموافقة على هذه المشاركة إلا أن البرلمان رفض.

انطلاقاً من هذا التوجه، دعمت الإدارة الأميركية وكذلك الدول الأوروبية أردوغان، وجرى تسويق مبرمج لحزب العدالة والتنمية، ومن هذا المسار انطلق الدعم الكبير لجماعات الإخوان المسلمين في العالم العربي ولا سيما في عهد أوباما، ومن هنا بدأ حلم أردوغان بالتوسع، وانطلقت طموحاته الجامحة، وحديثه عن قيادة تركيا للشرق الأوسط، وصولاً إلى تطلّعه لإحياء العثمانية الجديدة، كما من هنا، بدأت مسيرة انقلابه على الدور الوظيفي الذي وكِّل به، وكانت أولى محطاته انقلابه في الداخل التركي، إذ انقلب بدايةً على معلّمه أربكان الذي رفض استقباله وهو على فراش الموت، واصفاً أياه بالعميل الصغير لأميركا والصهيونية، ثم انقلب أردوغان على حليفه الأساسي فتح الله غولن الذي اختار منفاه الطوعي في أميركا، ومن ثم بدأ أردوغان بالانقلاب على سياسته تجاه الدول العربية بعد أن تحدث عن التكامل معها، فتدخل في شؤونها الداخلية من خلال دعم جماعات الإخوان التي اعتقدت أن “ثورات الربيع العربي” وفرت فرصةً ذهبيةً لها للوصول إلى سدة الحكم، والبقاء فيها من خلال تغيير بنية مؤسسات الدولة وأخونتها، وفي سبيل ذلك، استخدم أردوغان كل أوراقة، فحول تركيا إلى مركز للتنظيم الدولي للإخوان المسلمين، ودعم الجماعات الإرهابية على أشكالها المختلفة، وأرسل آلاف المسلّحين والمرتزقة والإرهابيين إلى العديد من الدول العربية، كما أقام الخلايا النائمة في الدول الأوروبية، وباتَ يتحدث وكأنه خليفة المسلمين، يشنُّ حروباً بالجملة، ويستنفر جيوش الإخوان التي تحولت إلى أذرع سياسية وعسكرية، ويحول كنائس تاريخية إلى مساجد، ويهدد دول عريقة في ديمقراطيتها وحضارتها، ويستغلُّ كل كلمة أو موقف عن الإسلام هنا وهناك لافتعال مشكلة واستغلالها خدمةً لأجنداته. وهكذا تحولت كلمة قالها الرئيس الفرنسي ماكرون عن الإسلام إلى معركة كبرى، لتبدأ بعدها حملة كبرى ضد فرنسا، جنَّد أردوغان لها جماعات الإخوان، فانتشرت بسرعة البرق ثقافة الكراهية، وحوادث القتل والإرهاب في شوارع عدد من المدن الأوروبية، لتستنفر هذه الأحداث الإرهابية بدورها الجماعات المتطرفة في أوروبا، وليكون الخاسر الأكبر هو الإسلام وصورته، وقيم التسامح والتعايش بين الشعوب.

خلاصة تجربة حكم أردوغان لم تكن وفق التوقعات أو الآمال الأميركية والأوروبية، فثمة حقيقتان لا يمكن القفز فوقهما:

الأولى: تحول تركيا في عهد النظام الرئاسي إلى دولة الرجل الواحد، وحكم الحزب الشمولي، والقضاء على التوازن في  مؤسسات الحكم في تركيا.

الثانية: تحويل أردوغان تركيا إلى مصدر لإنتاج التطرف والإرهاب ونشر الفوضى والصراعات والحروب في مناطق متفرقة من العالم.

في الواقع، من الواضح أن أردوغان انقلبَ على  مشروع الإسلام المعتدل لصالح أجندته التوسعية، وهو بذلك خيَّب آمال أميركا وأوروبا، بل إنه بممارساته ومغامراته وسياساته وطموحاته، تحول  إلى مشكلة في كل الاتجاهات. والسؤال الأساسي هنا: هل ستعيد الإدارة الأميركية الجديدة بزعامة جو بايدن -كما تشير المعطيات حتى الآن- النظر في سياستها تجاه أردوغان وتتخذ مواقف حاسمة من سياسته؟

لقد توعد بايدن ذلك، بل ذهب إلى حد القول إنه سيدعم المعارضة لوضع حد لنهاية نظام أردوغان… فهل يفعل ذلك أم أن وعده هذا كان في إطار التنافس الانتخابي مع ترامب؟