ما بعد داعش (1): شهادات لنساء خرجن من عباءة داعش وتعرضن لمحاولات قتل في مخيم الهول

الحسكة – نورث برس

تحاول السيدة الخمسينية تغطية وجهها بوشاح أمام عدسة الكاميرا في خيمتها وسط مخيم الهول شرق الحسكة، شمال شرقي سوريا، حتى لا تتعرف عليها زوجات عناصر تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، فتحافظ بذلك على سلامتها بعد مقتل ستة من أفراد عائلتها على يد خلايا التنظيم.

وتروي السيدة، التي تنحدر من مدينة الفلوجة العراقية، متحفظة على ذكر اسمها، حوادث مقتل أفراد أسرتها وتهديدات ومحاولات قتل لها وأهوال الجرائم التي تطال من يناكف فكر التنظيم .

ويأوي المخيم الذي أنشئ في التسعينيات من القرن الماضي، 56.365 شخصاً غالبيتهم من اللاجئين العراقيين.


ويقدر عدد العائلات بنحو 15.300 بينها 2.423 عائلة لعناصر وقتلى ومعتقلي تنظيم داعش المنحدرين من نحو 60 دولة شتى الجنسيات العالمية والذين قدموا إلى سوريا لتلبية دعوة “الجهاد” التي أطلقها زعيم التنظيم أبو بكر البغدادي عام 2014.

وبات المخيم شبه مدينة تتراص فيها الخيام بعد ازدياد أعداد سكانه منذ القضاء على التنظيم في أخر معاقله في قرية الباغوز بريف دير الزور على يد قوات سوريا الديمقراطية بدعم من التحالف الدولي في آذار/ مارس 2019.

وفي المخيم الصحراوي الخطير، تتحد لباس النساء بارتدائهن العباءات السوداء والنقاب.

وتسرد بعضهن قصصاً غير مألوفة عن الواقع المرير المعاش وعن التصعيد في جرائم القتل بحق من خرجن عن عباءة الفكر المتشدد للتنظيم.

ويمتنع غالبية السكان في المخيم من اللاجئين العراقيين والنازحين السوريين وحتى زوجات وأطفال التنظيم التحدث لوسائل الإعلام، خشية أن يصبحوا هدفاً لخلايا التنظيم.

ويُتهم من يجدونه يتحدث أو يقف مع أشخاص غرباء من خارج المخيم بالعمالة مع قوات سوريا الديمقراطية والتحالف الدولي.

هذا بالإضافة لتعرض عاملي المنظمات الإنسانية للتهديدات والجرائم نفسها.

ويوم أمس الثلاثاء، قتل ممرض في منظمة الهلال الأحمر الكردي على يد خلايا تنظيم “داعش” في المخيم.

“قتل بلا رحمة”

ومؤخراً، قامت السيدة العراقية بتغيير مكان إقامتها ضمن المخيم بعد قتل زوجها بأكثر من تسع رصاصات قبل عدة أشهر.

حدث ذلك ليلاً حين داهمت خلايا التنظيم خيمتها السابقة في القطاع الخامس واعتدى العناصر عليها بالضرب وقتلوا زوجها.

ومنذ خمسة أعوام، وصلت المرأة إلى المخيم بعد خروجها مع أفراد عائلتها من قرية السوسة بريف دير الزور أثناء الحملة العسكرية لـ”قسد” للقضاء على فلول “داعش” على سرير نهر الفرات.

وحينها، اعتقلت قوات سوريا الديمقراطية زوج السيدة الذي كان عنصراً في التنظيم، وأطلقت سراحه بعد ثلاثة أعوام لينتقل خلال فصل الصيف الماضي من السجن إلى المخيم حيث عائلته.

لكن بعد خروج زوجها من السجن بثلاثة أيام، داهم ستة أشخاص مسلحين خيمتهم وانهالوا بالضرب على الزوجين حتى فقد الرجل حياته.

تستذكر الزوجة: “قاموا بشد شعر زوجي وجره خلفهم إلى الخارج وأطلقوا عليه تسع طلقات، استمروا في ضربه بشكل وحشي حتى بعد فقدانه الحياة، ونحن برحمة الله نفذنا ذلك اليوم”.

وفيما بعد قتلت خلايا التنظيم، الزوجة الثانية لزوجها وثلاثة من أولادها إلى جانب شقيق زوجها، “يقتلون كل من يخالفهم بلا رحمة”.

تقول الآن إنها “بريئة” من فكر وإيدلوجية تنظيم “داعش”.

وخلال العام الماضي، سجل المخيم 93 حالة قتل غالبية ضحاياها من اللاجئين العراقيين، لتكون الحصيلة الأعلى التي تسجل خلال عام واحد منذ إنشاء المخيم.

ووفقاً لسكان في المخيم، فإن خلايا التنظيم وغالبيتهم من النساء يفرضون قوانين “داعش” المتشددة، حيث تصدر أحكام بالقتل على من يخالف تلك القوانين.

محاولات قتل متكررة

وفي خيمتها التي تفتقر لمعظم مقومات المعيشة وبالكاد تسع لأفرادها الأربعة، تسرد اللاجئة العراقية بنبرة يغلب عليها الخوف حادثة جرت معها قبل يومين وسط سوق المخيم بعد ملاحقتها من عناصر لخلايا التنظيم.

” بينما كنت أقف أمام محل في السوق، جاءني رجل يحمل مسدساً كاتماً للصوت، أراد أن يستدرجني إلى خلف المحال لقتلي”.

وتضيف: “هربت من السوق وقاموا باللحاق بي إلى أمام مركز الهلال الأحمر الكردي، وكان هناك عناصر لقوات الأمن الداخلي فتمكنت من الفرار بفضلهم”.

وتروي حادثة أخرى حدثت قبل مدة: “أرسلوا إلي امرأة حاولت أن تغريني بالمال للذهاب معها إلى خيمتها، لكنني رفضت لأن الهدف كان قتلي هناك”.

تقول نساء في الهول إن خلايا التنظيم باتت “معروفة”، إلا أن الخوف وحده يدفع السكان وذوي الضحايا للكتمان.

وتشير السيدة العراقية، التي يحيط بها أولادها، إلى أن الذين يهددونها هم من النساء والرجال، “الرجال الذين هددوني وجهوهم كانت مكشوفة”.

وتعلل استمرار محاولات قتلها باتهام خلايا التنظيم لها بالتعامل مع “المرتدين”، في إشارة إلى قوى الأمن الداخلي وقوات سوريا الديمقراطية.

وتوضح بأنها هي وعائلتها لم يعد بمقدورهم النوم خلال الليل خوفاً من مداهمات وتسلل للخيام.

وأمام هذه الظروف المليئة بالخوف، باتت المرأة حبيسة الخيمة رغم أنها المعيل الوحيد لأفراد عائلتها، “لم أعد أستطيع الخروج من خيمتي خوفاً من القتل، منذ ثلاثة أيام وأنا جالسة بلا عمل”.

وقبل ذلك، كانت السيدة تبيع ألبسة مستعملة في سوق المخيم، إلى جانب بيعها ما يزيد من محتويات السلة الإغاثية الشهرية التي تصلها من المنظمات العاملة في المخيم لتشتري بها احتياجات أساسية أخرى.

2021 الأكثر دموية

ويعتبر مسؤولون في الإدارة الذاتية أن عام 2021 كان “الأكثر دموياً” مقارنة مع الأعوام السابقة وذلك لما شهد من تصعيد في جرائم القتل.

ويقول شيخموس أحمد، رئيس مكتب شؤون النازحين واللاجئين والمهجرين في الإدارة الذاتية لشمال وشرقي سوريا، إن المخيم شهد منذ القضاء على تنظيم “داعش” في الباغوز نحو 165 جريمة قتل، بينها 93 جريمة حدثت في العام الماضي.

ويشير إلى أنه تصاعد ملحوظ في هجمات خلايا التنظيم على السوريين والعراقيين، “فحتى الأطفال لم يسلموا من القتل”.

ومع ارتفاع الجرائم بشكل مقلق، تسود مخاوف لدى  الكثيرين بتحول المخيم إلى حاضنة وظهور تنظيم أشد خطورة في ظل ما تقوم به زوجات عناصرالتنظيم “المتعصبات” من تعليم أطفالهن على التشدد.

نساء في مخيم الهول شمال شرقي سوريا- نورث برس
نساء في مخيم الهول شمال شرقي سوريا- نورث برس

وفي تشرين الثاني/ نوفمبر العام الماضي، جددت منظمات دولية في مقدمتها الأمم المتحدة والمفوضية الأوربية، تحذيراتها من خطر استمرار نساء “داعش” في المخيمات لفترة أطول واحتمال تحولهن إلى نسخة أكثر دموية من التنظيم الإرهابي مستقبلاً.

ورغم شن “قسد” بدعم من التحالف الدولي لمكافحة الإرهاب عدة حملات لإلقاء القبض على خلايا التنظيم ونقل المتشددين إلى أقسام أخرى تحت حراسة مشددة، إلا أن جرائم القتل بقيت في تصاعد مستمر.

ويأتي تصعيد حالات القتل ضمن المخيم في سياق دعم الاستخبارات الإقليمية للخلايا الموجودة في المخيم بإعادة صفوف تنظيم “داعش” من جديد، ما يشكل خطراً ليس على المنطقة فقط بل على المجتمع الدولي برمته، بحسب “أحمد”.

وتستخدم  خلايا التنظيم عدة أساليب  في حالات القتل منها الآلات الحادة مثل السكاكين والمطارق وغيرها، ووصلت هذا العام إلى استخدام مسدسات كاتمة الصوت، وكان آخر هجوم لها على مركز الاستقبال في وضح النهار.

وتطالب الإدارة الذاتية، الدول بسحب رعاياها من المخيم وتقديم الدعم لإنشاء مراكز تأهيل والمساهمة في ضبط الحالة الأمنية في المخيم.

50 دولاراً مكافأة”

وفي خيمة أخرى في القطاع الأول من المخيم، تتحدث امرأة عراقية في العقد الرابع من العمر، تنحدر من محافظة الأنبار عن معاناتها في المخيم، بعد قدومها منذ نحو ثلاثة أعوام من الباغوز بريف دير الزور.

تقول إنها جاءت إلى سوريا بعدما “خطف” زوجها أطفالها الخمسة وانخرط في صفوف التنظيم.

وعلى غرار أقرانها من النساء اللواتي يرفضن فكر التنظيم المتشدد، تحاول هذه السيدة النأي بنفسها عن “وحشية الأهداف الواضحة للتنظيم” وذلك بعد أن توفي زوجها في سجن تابع للإدارة الذاتية بعد مضاعفات صحية لمرضه في الكبد قبل نحو شهر من الآن.

تشير السيدة، وهي مغطاة بالنقاب وتخشى أيضاً الكشف عن هويتها، إلى أنها تعرضت للتهديد أكثر من مرة من جانب نساء بعد رفضها الانصياع لطلباتهن لتجنيدها كمخبرة ضمن المخيم.

تقول لنورث برس: “عملت في عدة منظمات إنسانية ضمن المخيم، فأنا امرأة وحيدة وليس لي أيّ معيل، تعرضت للتهديد بالقتل من قبل نساء التنظيم إن لم أخبرهم بكل ما يجري داخل المنظمة التي أعمل بها”.

وتضيف: “اضطررت إلى تغيير رقم هاتفي الجوال في سبيل أن يبتعدوا عني ولا يتواصلوا معي واضطررت بعد ذلك لترك العمل استجابة لقرار إدارة المنظمة والقوات الأمنية حفاظاً على سلامتي وسلامة أطفالي”.

وتذكر السيدة حادثة قتل جرت في سوق المخيم قبل مدة، “قتلوا رجلاً في محل بالسوق وكانوا قد أصدروا تعميماً بمكافأة من يقتله بمبلغ 50 دولاراً أميركياً، وهذا الأمر ينطبق على الجميع”.

كما تطرقت لذكر حادثة أخرى جرت معها بينما كانت في طريقها إلى العمل، عندما ” اعترض طريقي رجل وبرفقته امرأتين وهددوني بالقتل في حال لم أتعاون معهم”.

وتضيف: “عقب ذلك جاءتني العديد من النساء إلى خيمتي وهددنني بالذبح، كما قمن بختم خيمتي بختم للتنظيم وزاد الخوف لدي كثيراً، ولم أعد أتمكن من النوم ليلاً”.

“نكره داعش”

ومنذ نحو ثمانية أشهر لا تستطيع السيدة الأربعينية الخروج من خيمتها إلا في الحالات الضرورية خوفاً على نفسها وأطفالها.

ويعاني طفل المرأة البالغ من العمر تسعة أعوام من اضطرابات نفسية بعد رؤيته لحادثة قتل جرت أمامه عندما كان يلهو أمام خيمتهم، وبات يخرج منذ ذلك الوقت مساءً بلا وعي.

تقول والدته إن التنظيم قتل الكثير من أفراد عشيرتها بسبب انتسابهم للقوات العراقية، “نحن نكره داعش كثيراً، فحتى اللباس الشرعي الذي نرتديه مجبرون على لباسه، فأي حدث يجري هنا يصبح سبباً لتعرضنا للتهديد”.

وفي اليوم الأول من العام الجاري، عثرت القوات الأمنية على جثة شخص مجهول الهوية في مخيم الهول.

وقال مصدر أمني في المخيم، لنورث برس، إن عملية القتل تلك تمت بأربع طلقات نارية في الرأس من جانب مجهولين يرجح أنهم من خلايا لتنظيم “داعش”.

وقبله بيومين، عثرت القوات الأمنية على جثة نازح سوري في القطاع الخامس في المخيم، قتل بواسطة مسدس كاتم صوت.

وتناشد السيدة العراقية حكومة بلادها بإخراجهم من المخيم وإعادتهم إلى العراق، “الحكومة العراقية تتخوف من أن عقولنا لا زالت بإيديولوجية داعش، لكن نحن لسنا كذلك، لا نريد البقاء هنا، تعبنا كثيراً”.

إعداد: دلسوز يوسف / جيندار عبدالقادر – تحرير: سوزدار محمد

اقرأ أيضاً