محاكمات كوباني

قد توحي التسمية الإعلامية “محاكمات كوباني” في تركيا بأنّها محاكمات لمجرمي داعش، أو محاكمة لمواطنين أتراك دعموا أو انخرطوا في صفوف داعش إبان هجومها على منطقة كوباني، إلّا أن المقصود هنا محاكمة المحتجّين على تواطؤ الحكومة التركية خلال تعرض المدينة الكردية السورية لهجوم إرهابي، لتعرّف تلك الاحتجاجات في تركيا بـ”أحداث كوباني” أو أحداث 6- 8 تشرين الأول/ أكتوبر 2014، وحيث أن اللائحة الاتهامية وجّهت إلى 108 أشخاص مع انطلاق المحاكمات في السادس والعشرين من شهر نيسان/ أبريل هذا العام. ومن بين هذا العدد الغفير من المتهمين وجهت طائفة من الاتهامات إلى 27 قيادياً في الحزب بينهم الرئيسان المشاركان السابقان لحزب الشعوب الديمقراطي، صلاح الدين ديمرتاش وفيغن يوكسكداغ، وقادة رأي مثل سري سريا أوندر، وألتان تان، ممن أفرج عنهم شريطة أن يخضعوا لنظام المراقبة القضائية.

وفي العام 2014 طالب الشعوب الديمقراطي من الحكومة التركية فتح “ممر عبر الأراضي التركية”، عندما بلغ إطباق الحصار على كوباني أشدّه، وكان للممر أن يمكّن المقاومة في المدينة من تلقي الدعم من رفاق السلاح في بقية المناطق الكردية السورية أو من كردستان العراق، وهو الذي تحقّق لاحقاً، فيما كان الرئيس التركي أردوغان يصرّح في يوم 7 تشرين الأول/ أكتوبر في خطابه بغازي عنتاب عن عدم جدوى تدخّل الطيران الغربي في التخلّص من داعش، كان تصريحه يعكس رغبة في تثبيط عزم الغرب والحؤول دون انخراطه في الحرب على داعش عبر الاسناد الجوّي، غير أن التضامن الذي أبداه الشعوب الديمقراطي وكرد تركيا عبر سلسلة من الاحتجاجات عمّت تركيا، لا سيّما مدن وبلدات كردستان تركيا، دفع القوات الأمنية التركية إلى استخدام العنف والقسوة في مواجهة المحتجين.

 وعلى وقع أعمال العنف التي مارستها القوى الأمنية، أدلى ديمرتاش بتصريح يدعو إلى توقّف الحكومة عن ممارسة العنف بعد يوم واحد من توقّف الاحتجاجات، لكن الحزب الحاكم أراد الاستثمار في الحدث منذ ذلك الحين وحتى هذه اللحظة، في محاولة لإزاحة حزب الشعوب من طريقه، إذ غدا الشعوب الديمقراطي طِبقاً لانتخابات البلديات “صانع ملوك” إذ ساهمت سياسته فيما خص البلديات الكبرى في فوز المعارضة على حساب الحزب الحاكم، إلى ذلك حاول النظام التركي إخراج ورقة التضامن القومي من يد الشعوب الديمقراطي والذي بات يزداد تعافياً على وقع النجاحات التي يحققها كرد سوريا في مواجهة أشرس التنظيمات الإرهابية في العالم، هاتان المسألتان دفعتا الحكومة إلى تحريك الدعاوى القضائية بحق مناضلي الحزب وعرقلة أنشطتهم الرامية إلى تسليط الضوء في الداخل التركي على سياسات الحزب الحاكم في سوريا وتحديداً تصديه للتطلّعات الكردية السورية.

التشكيك بنزاهة القضاء التركي بات حديث الشارع التركي المعارض برمّته، ومن ذلك التصريح الذي أدلى به قطب المعارضة كمال كليجدار أوغلو، زعيم حزب الشعب الجمهوري، بأن الدولة تُدار بالتعميمات الصادرة عن وزارة الداخلية، وأن “مؤسسات الدولة أصبحت غير موثوقة، ولا أحد يثق بالقضاء”، حيث أن القضاء بات أقرب إلى معول هدم في يد “تحالف الجمهور” الحاكم، ذلك أن النظر إلى اللائحة الاتهامية الموجّهة إلى 108 أعضاء وداعمين للشعوب الديمقراطي يكفي لرسم ملامح النظام القضائي وقبوله بالدعاوى الكيدية والتآمرية، والاتهامات هنا تمزج بين الجنائي وبين ما هو ماس بطبيعة الدولة ورمزيتها، وما هو مغرق في الفاشيّة: اتهامات بالقتل والنهب، وجرح موظف عام بمسدس، وحرق العلم التركي، وانتهاك وحدة وسلامة الدولة، ومعارضة “قانون حماية أتاتورك”.

يتقاطع القانون التركي مع الإسرائيلي لجهة دمج العقوبات ودغمها لتصل سنوات الاعتقال للسياسيين إلى أرقام فلكيّة، كناية عن السجن المؤبّد، فيما تتألّف اللائحة الاتهامية لمحاكمات كوباني عما يزيد عن 3500 صفحة، ما يعني أن تكثيف الاتهامات وتعدّدها وإغراق المحكمة بالتفاصيل والملفّات والمطالبات بالسجن لمدد لا متناهية يراد منه إبعاد الطبقة السياسيّة التي أثبتت جدارتها وفرضت كاريزما القيادة الفردية والجماعية من أي سباق انتخابي وشلّ قدراتهم على التأثير في الحياة السياسيّة التركيّة.

كانت معركة تحرير كوباني فاصلة على كل الصعد، وألقت بظلالها على مصائر الكرد على جانبي الحدود. تعدّت الأحداث محيط كوباني في سوريا وسهل سروج في تركيا، وبات نجاح المقاومة والاستثمارات السياسيّة المبنيّة فوقها شبحاً يطارد التحالف التركي الحاكم الذي يحاول تغيير صورة انتصار كوباني ليصبح عنواناً لهزيمة تطاول القيادات الكردية التركية عبر الحرب القضائية والقانونية، وهي إحدى وسائل الأنظمة التركية الأثيرة في ارتكاب ما يمكن تسميته بالجرائم المقوننة عبر الحجر على المعارضين وإبعادهم عن ساحة السياسة إلى ساحات القضاء وجولاته العبثيّة واللا متناهية.

تدلّنا مؤشّرات السياسة الرسمية  إلى إمكانية حظر حزب الشعوب الديمقراطي وعدم الاكتفاء بالمحاكمات، وما سيتبعه من سياسات استيعابيّة بحق المعارضين الكرد وهو ما دأبت عليه الحكومات التركية، ورغم الاعتراضات التي تبديها منظّمات حقوقية تركية وأوربية، والمحكمة الأوربيّة لحقوق الإنسان  وكذا المفوضية الأوربية، كما في حالة دخول  الأخيرة  على خط التنديد بالمحاكمات والمطالبة بالإفراج الفوري عن ديمرتاش. وإذا كان قرار المحكمة الأوربية لحقوق الإنسان المطالب بالإفراج الفوري عن ديمرتاش غير ملزم لتركيا إلّا أنه من المحتمل إخراجها من منظمة “مجلس أوربا” الذي كانت من مؤسسيه، حال استمرار هذا التعسّف والاضطهاد، لكن المعضلة باتت تكمن في تعدد الاتهامات والتي وصلت في حالة ديمرتاش إلى 90 قضية وكلها مبنيّة على ما يسمّى بأحداث كوباني.

تبدو لعبة محاكمات كوباني شديدة التعقيد، لجهة ثقل ملف الدعاوى الكيدية، والتضييق على المحامين والنقابات والجمعيات الحقوقيّة، إلّا أن استمرارها على هذا النحو يعني إمكانية تجفيف السياسة في تركيا وضرب المعارضة في مقتل، لا سيّما في المناطق الكردية، لتتحوّل هذه المحاكمات بعنوانها الفرعي، محاكمات كوباني، شبحاً يطارد الحكومة التركية في مجال حقوق الإنسان وسمعة النظام الحاكم في الداخل والخارج، ولعلها المرة الثانيّة التي قد يكون لاسم كوباني وقعه الكبير على الأسماع، مرة حينما أرادت داعش احتلالها فقاومت وانتصرت، وهذه المرّة التي تحوّلت إلى عنوان لمحاكمة سياسية بائسة.

اقرأ أيضاََ