عفرين: الجريمة بوصفها “نظرية عمل”

تتهرب تركيا من تعيين موقعها القانوني في المناطق التي تسيطر عليها في الشمال السوري بوصفها دولة احتلال، ويساعدها في ذلك معارضون سوريون، بعضهم من الكرد العاملين تحت مظلّة “الائتلاف”، ذلك أن إقرار تركيا يعني أن تُساءل عن الجرائم –على تنوعها وما أكثرها – التي ترتكبها أو يرتكبها وكلاؤها في تشكيلات “الجيش الوطني السوري” أو المتعاونون معها. لكن، وبمعزل عن إقرار تركيا أو انعدامه، فإن الجرائم المرتكبة كلها هي من حصّة تركيا وفق ما بات يشير إليه المنحى القانوني للمنظمات الدولية الحقوقية، كالتقارير التي تنشرها هيومن رايتس ووتش وسواها من منظمات وازنة، فيما بات يشار إلى ارتكابات تركيا بأنها إما جرائم حرب، أو “ترقى” لأن تكون جرائم حرب طبقاً لتكييف الأمم المتحدة القانوني في إحاطتها الأخيرة حول سوريا.

لا يمكن النظر إلى تواصل الجرائم المرتكبة في عفرين ورأس العين، باعتبارها محض جرائم يقوم بها “الغوغاء والرعاع” بمعزل عن إرادة تركيا، أو اضطرارها للقبول بما يجري على مضض، أو أنها ثمرة طبيعية لحرب أهلية سورية قامت على الإخضاع وحكم الغلبة. فالمعلوم أن الحكومة التركية التي تحتكم على أكثر من 100 قاعدة عسكرية واستخباراتية في الشمال السوري هي صاحبة القول الفصل في كل ما يجري هناك، فوفق تقرير رايتس ووتش الأخير (كل شيء بقوة السلاح): “تشرف الوكالات العسكرية والاستخباراتية التركية على سلوك الفصائل في هذه المناطق، ولديها غرف عمليات في الباب وجرابلس ورأس العين وعفرين”، بمعنى أن أوامر القتل والتطهير العرقي إنما تصدر عن تلك الغرف أو يتمّ قبولها هناك أو يجري غض الطرف عنها، فالغاية التركية في إفراغ الشمال السوري من الوجود الكردي، بمعزل عن توجّهات الكرد السياسية، هو المحرّك لتنفيذ الفصائل كل  تلك الجرائم البشعة، بهذا المعنى فإن الجرائم المرتكبة هي “نظرية عمل” لهذه الفصائل ومن خلفها تركيا، إذ تروم هذه النظرية إلى إفراغ الشمال من الوجود الكردي عبر ترويع الموجودين تحت سلطة الاحتلال بشكل مستمر أو جعل من هم خارج سلطتها في حالة قلق متصلة بقصف المسيّرات والمدفعية التركية.

إن ما يغذّي وحشية المستوطنين والفصائل التابعة لتركيا هي تلك التصوّرات الإعلامية للأتراك والائتلاف “المعارض” والاتجاهات الطائفية الفاشية، التي صوّرت الكردي على نحو مسيء وغير آدمي، الأمر الذي يجعل من فُرص القتل بدم بارد أعلى مما هي عليه، فالخطاب القائم على التمييز العرقيّ بحق عموم الكرد والديني كما في حالة الكرد الإيزيديين والعلويين في عفرين، وطبيعة الانتهاكات في المناطق الكردية السورية المحتلة، تجعل من سلطة الاحتلال نظام أبارتايد متكامل قائم على الفصل العنصري والانحياز الدائم لصالح السوري الأبيض الموالي لتركيا ضد السوري الأسود (الكرديّ)، بما يتضمّنه التمييز من حق في القتل.

بعد قليل من صدور تقرير رايتس ووتش الأشمل حتى اللحظة، أقدم مستوطن من ريف إدلب على قتل طفل عفرينيّ، يدعى أحمد مده، ورمي جثّته في بئر بريف جنديرس، وقبل ذلك بحوالي عام قتل خمسة أشخاص من عائلة كردية في جنديرس، على يد مُسلحين  في فصيل “أحرار الشرقية” عشية احتفالهم بيوم النوروز، وبطبيعة الحال استصحبت بشاعة هذه الجرائم غضباً شعبياً خلال تشييع الضحايا، الأمر الذي يوحي بأن حالة الرفض للقتل بدم بارد يمكن لها أن تتطوّر إلى شكل مخفّف من مقاومة شعبية لمشروع الاحتلال والقتل على الهوية والانتهاكات اليومية بحق “كرد عفرين”. هكذا وبدون تصريف موارب وبتحديد مطلق الجرائم هي جرائم مرتكبة بحق الكرد.

يساهم تطور الرفض الشعبي العفويّ، المدني أو خلاف ذلك، في أن تُصبح مسألة ارتكاب الجرائم أشدّ كلفة مما هي عليه الآن، حيث لا ينبغي أن يمرّ القتل والوفاة قيد الاحتجاز والاغتصاب وسلب الملكيات والتعذيب وسوء المعاملة، مرور الجُنح العادية أو المخالفات أو أن لا يتم المحاسبة عليها، خاصة أن ما يفاقم الأمر هو مقدار صمت السوريين المطبق على نهج العقاب الجماعي هذا. كانت المفكّرة حنة آرنت قد توجّهت بسؤال استنكاري حول لمَ قبل ضحايا النازية في ألمانيا بأن يتم اقتيادهم إلى الموت كـ”الخراف”؟ أي ماذا كان سيحصل لو أنهم تحدّوا هذا المنحى المفضي إلى نتيجة واحدة  تؤدي إلى الموت المحقق، بهذا المعنى فإن تنامي الرفض الشعبي، لاسيما من قبل النساء المفجوعات والثكالى، لعمليات القتل وقدرتهن على تكرار الجملة الأكثر تعبيراً: “يقتلوننا فقط لأننا كرد”، قد يساهم، رغم بربرية الفصائل ومؤازرة الاستخبارات وصمت الحكومة التركية، في جعل عمليات القتل والانتهاكات أعلى كلفة على القتلة.

اللافت أيضاً فيما خص تعقّب انتهاكات تركيا وعملائها السوريين، تطوّر المنحى الحقوقي، لجهة رصد الانتهاكات الواقعة على السكان الكرد رغم سعي تركيا لأن تحوّل عفرين إلى صندوق أسود لا يمكن النظر إلى ما يحدث داخله. إن عمليات التوثيق والرصد ودقة التوصيفات القانونية، وإن جاءت متأخرة من هيئات حقوقية دولية وازنة، من شأنها أن تُحرج  المسؤولين الأتراك، وقد تشكل مدخلاً واسعاً لتعقّب مرتكبي الجرائم، وإذا كان صحيحاً أن متزعمي الفصائل المسلحة لا يهمهم أن يتم إدراجهم على قوائم الإرهاب أو ملاحقتهم جنائياً نظراً لجهلهم أو اعتقادهم بأن تركيا ستؤمن لهم الملاذ الآمن، فإن تركيا تحمل حساسية أعلى حيال ذلك.