هل يمكن الحديث عن انقسام داخل صفوف النظام الإيراني بين من يسعى إلى التصعيد وآخر يرنو للتهدئة بدل مواجهة مجنونة قد توقظ “عقيدة التدخّل” التي لطالما سعت الرئاسات الأميركية الأخيرة الثلاث: بايدن، ترامب، أوباما، التخفّف منها قدر المستطاع؟ هذا واحد من الأسئلة الصعبة التي لا يمكن الوصول إلى إجابة واضحة حولها نظراً لحالة التكتم الشديدة لمجريات اتخاذ القرار في عمل أجهزة النظام الإيراني الأساسية (الدولة العميقة). لكن، رغم ذلك يمكن الاستدلال على شيء من الانقسام على ما تشير إليه التصرّفات الإيرانية، شدّاً وجذباً في مواجهة تنامي التواجد الأميركي في المنطقة عقب أحداث السابع من أكتوبر.
رفعت إيران من درجة التصعيد عبر استهدافها الدامي للبرج 22 في الأردن الأسبوع الفائت؛ فعلى عكس بقيّة عملياتها، تسبّب الهجوم بمقتل جنود أميركيين وإصابة العشرات منهم، الأمر الذي ينذر بردّ أميركي لاحق قد يكون متواصلاً يخضع لشكل استثنائي من التعاطي مع المجموعات الملحقة بالحرس الثوري الإيراني، وإذا كان الردّ الأميركي بطبيعة الحال لا يخضع لسوق ألفاظ القيمة على ما تقوله الأدبيات المشرقية كالثأر لكرامة أميركا، أو الانتقام للقتلى، فإن حاجة واشنطن للردّ ناجمة عن وجوب وضع حد لسلوك المجموعات الداخلة في عباءة النظام الإيراني، ذلك أن الاستهدافات تخطّت البعد الدعائي وأمست أثقل وطأة على إدارة بايدن التي تجنّبت الانخراط في حرب فعلية رغم الضغوط الإسرائيلية التي تطالبها بتوجيه ضربة قاصمة لطهران.
من بين ما تسعى إليه إيران التي تواصل السير على حافة الهاوية، هو التنصّل من حادثة استهداف البرج، والذي يشابه تنصّلاً أسبق حين أعلن النظام الإيراني، وبالمثل حزب الله، عدم معرفتهم المسبقة بعملية “طوفان الأقصى”، لكن تنصّلها آنذاك لم يشفع لها وهي المجتهدة في تقديم الدعم المتواصل لحركة حماس بالابتعاد عن مدار الأحداث، فقد أشارت أصابع إسرائيل إلى ضلوع إيران في كل ما جرى، وبادرت إلى استهداف شخصيات بارزة في الحرس الثوري الإيراني داخل سوريا وجهدت لقطع الممرات اللوجستية التي تغذّي الوجود الإيراني فيها.
وإذا سلّمنا جدلاً بالرواية الإيرانية القائمة على التنصل من تصرّفات حماس والمجموعات الموالية لها كحزب الله العراقي و”المقاومة الإسلامية”، وما لم تكن أقوالها نابعة عن “تقيّة سياسية”، فإنها تكشف هشاشة “الإكليروس الشيعي” الحاكم، إذ طالما شكّل انضباط المجموعات الموالية أحد سمات النظام الإيرانيّ، فوق أن تلك المجموعات مثّلت القفاز الذي يخفي بصمات إيران عن مسارح العمليات العسكرية، وبالتالي فإن صدق المسؤولون الإيرانيون في ما يذهبون إليه من عدم علمهم أو عدم صدور قرارات الاستهداف من قبلهم، فإنّ المجموعات الموالية ذاهبة لأن تصبح أقرب للجماعات الجهادية السنية، منفلتة وقابلة للانشقاق، أو حتى قد تبلغ حدوداً من المغالاة لا يمكن ضبطها فيما بعد، إلّا أن كل ذلك ينطوي على مجازفة في تقدير طبيعة النظام الإيراني ودقّة عمله ورفضه التام لتقسيم سلطته المطلقة أو منح المجموعات، عدا حماس، الصلاحيات لاتخاذ القرارات الهامة.
يبدو أن واشنطن لا تثق بما يأتي على لسان المسؤولين في طهران، ومن المتعب أيضاً أن تبقى في حالة تعقّب دائم للمجموعات الموالية لإيران في سوريا والعراق، فالأمر أشبه بقتال ظلال إيران، واطمئنان الأخيرة بأن الحرب لن تطالها وستبقى في نطاق الاستهدافات المتبادلة بين وكلائها والقواعد الأميركية، لكنّ بقاء الولايات المتحدة في حالة تأهب واستنفارٍ دائمين في الشرق الأوسط قد يدفعها للتخلّص من هذا القلق عبر اعتماد الصيغة الترامبية في التعامل مع “الشغب” الإيراني، فمقاربة ترامب اعتمدت على توجيه الضربات للرؤوس الكبار في النظام الإيراني وملحقاته، ولعل اغتيالها قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس، مثّل ذروة التصعيد الذي أقلق طهران وعطّل من كثافة استهدافاتها لفترة وجيزة.
ثمة احتمال في أن تنزاح إدارة بايدن لهذا المنحى، وهو الأقرب للتصوّر، بمعنى أنها قد ترد على طريقة ترامب وإسرائيل، حيث سيصبح القادة الإيرانيون الكبار في مرمى الأهداف الأميركية، ورغم أن هذا التصوّر قد يدفع بواشنطن لأن تسير أيضاً، حالها حال إيران، على حافة الهاوية، إلا أن هذا النموذج في التعامل مع إيران يبدو أكثر نجاعةً من محاربة الظلال والإبقاء على المبادرة بيد الإيرانيين.
بداية الانزياح الأميركي للتصعيد حصل ليلة أمس، مع ضرب القوات الأميركية لقرابة 60 هدفاً إيرانياً وتابعاً للمليشيات الموالية لها، داخل سوريا والعراق، ولعل توعّد بايدن بأن هذه الضربات ستكون “متواصلة” يعكس استراتيجية جديدة للتعامل مع الحرس الثوري الإيراني و”فيلق القدس” مفاده: أن واشنطن لن تنتظر تلقي الضربات حتى تشرع في تنفيذ ضربات انتقامية، بل إن ملامح العقيدة الجديدة لإدارة بايدن بدأت بالتبلور بحيث تكون القوات الأميركية هي المبادرة من الآن وصاعداً.
لكن، مع كل ما سبق، ثمة جانب غير مفهوم في سلوك إيران التصادميّ، ربما هو الذي يكشف معنى الانقسام في مراكز اتخاذ القرار بطهران، فمن جهة بدت إدارة بايدن جادّة في رغبتها تطويق الحرب الإسرائيلية وتحذيرها لحكومة الحرب الإسرائيلية من مغبّة جرّ حزب الله لحرب مفتوحة لا يمكن التكهّن بمداها، ومكاشفة طهران في الوقت عينه بوجوب عدم استفزاز تل أبيب؛ فواشنطن التي تركّز على أهدافها في مواجهة بكين وموسكو لا تريد أن تنزاح لمواجهة طرفيّة أقل أهمية في الأجندة الأميركية، علاوةً على أن الشرط الانتخابيّ الأميركي يدفع إدارة بايدن للتريّث وشراء الوقت قبل الخوض في حرب مديدة لا يمكن تحقيق الانتصار فيها دون أكلافٍ عالية، ودون وقت كافٍ، أما وقد أخلّت إيران بالميزان الذي كانت تكيل به الإدارة الأميركية في الشرق الأوسط، فإن محاسبة إيران باتت في سلّم أولويات البيت الأبيض.
بلغة مجازية ومكثّفة، يمكن القول إن لاعبَي الشطرنج الماهرين، أميركا وإيران، قد يهجران هذه اللعبة الرتيبة وقد يختاران المواجهة العنفيّة على ما تقوله وقائع الاستهدافات التي لا تهدأ، خاصة أن تذرّع إيران بأنها غير مسؤولة عن أفعال المجموعات الموالية لها، لم تعد مقنعة للكتلة الغاضبة في البيت الأبيض والكونغرس والبنتاغون، وهو ما أكّدته الطائرات الأميركية ليلة أمس.