الحديث عن “مشاريع تقسيم” بلد مقسّم!

بدى أمين الريحاني متألماً عند وصفه أحوال سوريا في عشرينيات القرن الماضي حيث يصفها بـ”سبية الأمم” و”نهب الملوك الفاتحين”، فيما أطلق سؤالاً استنكارياً يحاول من خلاله نفض اللامبالاة عن وعي السوريين في نهاية ما كتبه بشكل موجز عمّا أسماه “تاريخ سوريا”: متى يكتب أبناؤك أول صفحة من تاريخك الجديد؟

يبدو سؤال الريحاني الرومنسيّ مفتوحاً وصالحاً لكل الأوقات، على ما يعكسه من صورة الأقدار المكررة التي مرّ بها هذا البلد المحطّم والقلِق والمسبيّ.

ففي الأثناء يجري الحديث عن “تقسيم سوريا” في صورةٍ لا تقلّ اعتباطاً عن تصورات الجنرال غورو حين شرع بتقسيم البلد، مطلع حكم الانتداب الفرنسيّ، إلى دويلات متحاجزة قائمة على أسسٍ جهوية متنافسة (دولتي حلب ودمشق)، أو على أساسٍ طائفي (دولتي الدروز والعلويين). ولئن كان مشروع غورو قد تقرر بموجب “الإرادة السامية” للانتداب، فإن ما يجري الحديث عنه من تقسيم بناءً على تقارير إعلامية صفراء، وينخرط سوريون في شرحها أو التعليق عليها، لا يقلّ خفّة واعتباطاً لجهة جعل هذا التقسيم حصصاً للدول المشاركة في السيطرة على سوريا: حصّة لتركيا وأخرى لروسيا وكذا لإيران، وحصة في الجنوب لا يُعلم لمن ستؤول.

في عمقه يبدو موضوع التقسيم القائم على مناطق السيطرة الراهنة الشكل الأكثر ابتذالاً لحل الأزمة السورية، ويحمل بداخله مشاريع حروب أهلية، وصراعات سيطرة لا متناهية، وتنافساً بين الدول المسيطرة، وقد تكون الغاية من الترويج لدعاية التقسيم وفق هذا المنحى هو إغراء الدول المتورطة في الأزمة السورية بالتوقّف عن توسيع رقعة سيطرتها، والإقرار لهذه الدول بحقوق امتياز داخل مناطق سيطرتهم. يمكن النظر إلى “مسار أستانا” مثلاً بأنه الشكل المثالي لتبادل الاعتراف بالدول المسيطرة ومناطق نفوذها.  

لكن موضوع التقسيم المتداول يضمر أيضاً غاية لا يمكن النظر إليها بحسن نية، ذلك أن معظم السوريين يبدون قلقاً إزاء مستقبل وحدة سوريا الترابية، وبالتالي تصبح اللعبة الإعلامية التي تتحدّث عن تقسيم البلد أقرب لصيغة تخويف لأجل رفض مطالب السوريين الذين يطمحون لشكل حكم حداثيّ يتمثّل باللامركزية الموسّعة، واللامركزية هنا هي نقيض التقسيم، بل هي المضاد النوعيّ له في الحالة السورية.

إن التمييز بين مساعي إنهاء الحكم المركزي والانتقال إلى حكم لامركزي، وبين تقسيم سوريا، يمرّ بخطوة رئيسية وهي وجوب إنهاء كافة أشكال الاحتلال والطبقات المسلّحة والسياسية المرتبطة به، ومن ثم الشروع بتنفيذ سياسات وطنية رشيدة تضع مصالح المجتمعات المحلية فوق مصلحة النظام الحاكم أيّاً كان، وفوق مصالح الجوار حتى وإن لم تعجبه طُرق تسوية الصراع السوري.

من الصعب إنكار أن السوريين أنفسهم باتوا مقسّمين  بطريقة تتجاوز التقسيم الطائفي أو القومي أو الجهويّ أو حتى العشائري، إذ بلغ التقسيم مستوىً أدنى من ذلك، إذ إنهم باتوا مقسّمين لجماعاتٍ تتبع كل منها لدولة دون أخرى. وعائدية السوري هذه تجعل من كل دولةٍ مسيطرةٍ سلطةَ انتداب موصوفة، مهمتها إعادة تأهيل السوريّ ليصبح مسنناً صغيراً في آلة الدولة المنتدبة، وبحسب واحدنا أن يلحظ نجاح مشاريع تطويع السوريين في أن يصبحوا ملتصقين بمشاريع الآخرين.

ومن الصعب أيضاً إنكار أن سوريا الراهنة مقسّمة أيضاً إلى خطوط تماس الدول المتدخلة وإن كان يحرس ثغورها أو يحكم مدنها وقراها سوريون، وهو ما يستوجب إعادة النظر بمعاني الاستقلال الثاني للجمهورية، إذ ليست مزحة ما تقوله طهران عن أنها باتت تحكم سوريا وتتطلّع لأن تصل إيران بالبحر الأبيض المتوسط، كما أنها ليست زلة لسان ماتقوله أنقرة عن أنها إنما استردت شيئاً من ميراث الأسلاف الذي لم تتخلَّ عنه إبّان إقرارها ميثاقها الملّي، وليست إلى ذلك مجرّد حفنة أوراق تلك التي وقّعتها موسكو مع دمشق بل هي مواثيق وعقود مسجّلة وممهورة جاءت على معظم الأصول المملوكة للدولة السورية بعضها يمتد لأكثر من نصف قرن قادمة، فيما على الضفّة الأخرى للفرات باتت الولايات المتحدة تربط بقاءها ببقاء الآخرين، تحديداً بقاء إيران على الأراضي السورية.

ساهم تعفّن مسار جنيف وترسيمات أستانا الحادّة لخرائط السيطرة والتفاهم، في قلب مسار الحل الحقيقي في سوريا، فلا حل أصلاً دون انسحاب القوات الأجنبية وامتلاك السوريين لقرارهم والوصول لحدود دنيا من الاستقلال السياسي، وإذا كان التواجد الأميركي والروسي يمثّل وجهي تدخّل قابل للأخذ والرد حال الوصول إلى صيغ مقبولة للانسحاب أو تنظيم التواجد على الأراضي السورية، وربما بما يتضمن حفظ مصالح موسكو في سوريا، فإن الجانب الشاق هو إقناع تركيا وإيران بالانسحاب، ذلك أن البلدين يتصرّفان كدول كولونيالية وجدت في سوريا المهشّمة ومجتمعها المقسم مجالها الحيوي الذي يمنحها تفوقاً إقليمياً، فوق أن وجودها رهين بأوضاعها الداخلية، وهو ما يعني أن تحرر سوريا من ثقل التواجد الإيراني والتركي لن يُحدث نتيجة حصول تغيّر مفاجئ في سلوك أنظمة هذين البلدين، بل بتغيّر أنظمة هذين البلدين وهي مسألة على صعوبة تحقّقها فإنها خارج إرادة السوريين.

 الحديث عن التقسيم لا يستحضر شياطينه، بقدر ما بات يمثّل توصيفاً للمشهد بعيداً عن المكابرة أو التبرير لهذه الدولة أو تلك وحقّها في أن تكون موجودة على الأراضي السورية، فما يبعث على الأسى هي طاقة التدمير الذاتي التي باتت تتحكّم بالسوريين أنفسهم. حين يصبح شكل الخلاص مبتذلاً وقاسياً لدرجة أن يقبل السوريون هذه الاحتلالات بوصفها صيغة حماية مثالية تقيهم شرور السوري الآخر.