سماسرة الموت.. سوريون ضحايا مهربين بزي عسكري

نورث برس

عندما بدأ شيار رحلته نحو أوروبا، وضع في الحسبان بعض المتاعب، ولكنه لم يعلم أن عليه المرور بمناطق سيطرة جماعات “إرهابية” وأخرى تسعى للمتاجرة به للحصول على سيولة تجنيها عبر تهريب البشر، وعليه في لحظة ما الهروب بأقصى سرعته قبل أن تصله رصاصة من فوهة بندقية جندي.

طيلة أربعة أشهر بحث هذا التحقيق في طرق تهريب البشر الذي تمتهنه فصائل عسكرية منتشرة داخل الجغرافية السورية مقابل الحصول على مبالغ مالية طائلة مقارنة مع دخل الفرد في سوريا، ويوثق شهادات ضحايا شبكات تهريب ومهربين وطرقهم لإقناع الراغبين في الهروب من مرارة الحرب في سوريا.

طريق آمن بالرصاص

نهاية تشرين الأول/أكتوبر الفائت، بحث شيار عن مهرب يوصله إلى أوروبا، وسؤاله الدائم كان “هل الطريق آمن؟”، وبعدها بنحو أسبوع انطلق الشاب العشريني رفقة ابن عمه وآخرين، في رحلة لم يكن يتخيل نهايتها، حتى في أسوأ الأحوال.

المهرب أخبرهم أنهم سينتقلون من القامشلي إلى سري كانيه/رأس العين التي تسيطر عليها فصائل معارضة موالية لتركيا، وثم سيوصلهم لإسطنبول مقابل أربعة آلاف دولار أميركي، للشخص الواحد، والتي اشترط الحصول عليها مسبقاً، مكرراً أن الطريق آمن وسريع، ليوافق الشبان الذين حملوا القليل من الثياب والكثير من الآمال بحياة أفضل بعد 12 عاماً من الحرب.

قرية “صباح الخير” بريف الرقة، هي المحطة الأخيرة للشبان قبل دخولهم مناطق سيطرة فصائل المعارضة، لينطلقوا فجر اليوم التالي بسيارات مخصصة لنقل البضائع والتي حملت نحو 70 شخصاً سالكةً طريق التروازية بريف تل أبيض، ولتتوقف في موقع لم يعرفه شيار، لكنه أشبه بنقطة تجمع للمهاجرين ويحرسها مسلحون من “الجيش الوطني” الموالي لتركيا الذين طالبوا كل شخص بمبلغ 50 ألف ليرة سورية لما أسموه بـ”تأشيرة الدخول إلى مناطقهم”.

قسّم المسلحون المهاجرين لفرق أقل عدداً، ونقلت مجموعة “أبو الحسن” التابعة لفصيل أحرار الشرقية، المنضوي ضمن الجيش الوطني، شيار وابن عمه وسلمتهم لمجموعة أخرى ضمن الفصيل نفسه ويقودها “أبو همام الإدلبي”، في قرية العزيزية، جنوب سري كانيه بالقرب من الحدود السورية – التركية، ليشعر شيار حينها أنه لا طريق للعودة.

تدفع أو تُقتل

عندما بدأ شيار رحلته، كان سعيد قد أنهاها ولا ينفي أنه ضحية لمزاعم مهرب وتصارع فصائل المعارضة على تهريب البشر، وكادت تلك الرحلة أن تودي بحياته وتحرم طفليه من رؤيته مجدداً.

جالساً أمام محل لتصليح السيارات، ينفث سعيد (42 عاماً) دخان سيجارته، ويقول لمعد التحقيق، إنه وثق بمهرب وسلمه أمره لينطلق أواسط أيلول/ سبتمبر الماضي، مع ثلاثة شبان نحو سري كانيه، بعد أن أخبره المهرب بأن “الطريق مختصر وسهل العبور” ضمن مناطق نفوذ فصيل “السلطان مراد” التابع للجيش الوطني الموالي لتركيا.

الوالد الذي ترك طفليه وزوجته، سلمته الجندرمة التركية لفصيل معارض وذلك بعد فشل محاولتين لعبور الحدود السورية – التركية. لم يعرف سعيد اسم الفصيل لكنه تأكد من أمرين أحدهما أن الفصيل الذي احتجزه يتنافس مع بقية الفصائل ومنها “السلطان مراد” على عائدات تهريب البشر، والأمر الآخر أنه لا ثقة بالمهربين.

اقرأ أيضاً: “القوات الرديفة” من الفقر إلى القبر.. كيف عبث النظام بمصير الآلاف؟

أبو محمد الذي يتكلم بلهجة حلبية ويضع العلم التركي على زيه العسكري، طالب سعيد بخمسة آلاف دولار لإطلاق سراحه، وأخبره أنه سيُقتل إن لم يدفع، لينخفض المبلغ إلى النصف وبعد شهر من الاحتجاز وتحويل ذويه مبلغ 2500 دولار أميركي للفصيل، تمكن سعيد من العودة لمنزله.

رابطة “تآزر” التي توثق انتهاكات حقوق الإنسان، قالت في تقرير نشرته في السابع من آب/ أغسطس 2022، إن ما لا يقل عن تسع حالات اقتتال داخلي نشبت بين فصائل المعارضة في سري كانيه خلال النصف الأول من عام 2022، بسبب خلافات حول تقاسم واردات تهريب البشر إلى تركيا.

سماسرة بزي عسكري

ويسلك المهاجرون الراغبون بالوصول لأوروبا طريقين رئيسيين أحدهما المار عبر مناطق سيطرة فصائل المعارضة الموالية لتركيا، والآخر عبر مناطق الحكومة السورية ويشرف عليهما مجموعات تابعة لحزب الله اللبناني.

بينما كان شيار يحاول عبور الحدود السورية – التركية، سلك باران مسكو (38 عاماً) وهو صحفي كردي سوري طريق الهجرة عبر لبنان بواسطة مجموعات حزب الله اللبناني.

الحواجز الأمنية المنتشرة على طول الطريق إلى لبنان، كانت تقلق الصحفي المطلوب لـ “خدمة العلم” كما تطلق الحكومة السورية على التجنيد الإجباري الذي تفرضه على مواطنيها، لكن ما إن اجتازت العربة الحاجز الأول حتى شعر مسكو بنوع من الارتياح.

ومن رقمه الألماني الجديد أخبر “مسكو” معد التحقيق عبر تطبيق “واتس آب” عن تفاصيل رحلته، التي بدأها من الرقة ووصل لبنان بعد ساعات مقابل 200 دولار أميركي، وقال إن الحواجز الحكومية المنتشرة على طول الطريق إلى لبنان تقدم تسهيلات ولا تطلب البطاقات الشخصية من المطلوبين في السيارة، كون السائق يبرز مهمة عسكرية تظهر ارتباطهم بحزب الله اللبناني.

واعتبر الصحفي أن

“القوات الحكومية وعناصر الفرقة الرابعة وحزب الله اللبناني متورطون بهذه العملية، حيث ينتشر نحو عشرين حاجزاً بين الرقة ولبنان وذلك عبر رشاوى يدفعها المهرب مقابل غض الطرف عن ركابه”.

اقرأ أيضاً: سيارات الإدخال في شمال شرقي سوريا.. فوضى القرارات تنهك الاقتصاد وتنذر بمستقبل بيئي أسوأ

معد التحقيق تواصل مع خليل وهو مهرب يعمل على طريق الرقة – بيروت، وسأل عن الطريق كمسافر راغب في الوصول إلى أوروبا، خليل الذي يستخدم رقماً لبنانياً للتواصل معه عبر تطبيق واتس آب، رد واثقاً من نفسه أن “الطريق إلى لبنان آمن دون أية عراقيل”، ووصف مسار الرحلة بـ”الخطوة بخطوة”، حيث سيسلمه في لبنان لمهرب آخر ليكمل طريقه نحو أوروبا، وهو ما كرره مهرب آخر يتواجد في مدينة وهران الجزائرية.

لكن تكملة الرحلة ليست مثل بدايتها، فبعد لبنان يسافر هؤلاء المهاجرون إلى مصر وليبيا، ثم يكملون براً نحو الجزائر وللوصول إلى إسبانيا يضطرون لقطع البحر عبر قوارب مطاطية غالباً تكون لقمة سهلة لأمواج البحر إذا ما تعالت قليلاً.

ومطلع تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، وصلت جثامين 12 شخصاً، إلى كوباني، بريف حلب, ممن غرقوا خلال محاولتهم الوصول لأوروبا سالكين نفس طريق “مسكو” لكن بخاتمتين مختلفتين.

الصحفي لم يكن يملك جواز سفر، ليستخرجه في لبنان بنحو ألفي دولار، وأول رحلة بالجواز الجديد كانت إلى دبي ومنها إلى مصر ثم حطت طائرته في مطار بنغازي بليبيا، ليكمل بعدها رحلته براً إلى الجزائر ومن ثم سواحل وهران وبعدها نحو إسبانيا، وصولاً إلى ألمانيا بعد رحلة استغرقت شهرين وكلفته نحو 15 ألف دولار أميركي، بحسب قوله.

إرهابي وتوقيع

بعد فشل محاولتين لعبور الحدود، هدد المهرب المتعامل مع فصائل المعارضة شيار وفريقه بالعبور أو تركهم لمصيرهم، ليجتاز شيار الحدود بعد يومين، وبعد عبور الحدود اقتربت عربة للجندرمة التركية وأطلق جندي فيها الرصاص ليهرب شيار بأقصى سرعته، فيما اعتقلت الجندرمة ابن عمه وسلمته لفرقة “الحمزات” التي طالبت ذويه بسبعة آلاف دولار أميركي لإطلاق سراحه.

وفي طريقه نحو إسطنبول أوقفت الشرطة التركية شيار في آضنة، بينما طلبت “الحمزات” من ذوي ابن عمه تحويل المبلغ خلال 24 ساعة، لكن الطرف الآخر في التفاوض طلب إطلاق سراح ابنهم وإرسال المال فيما بعد وحتى طلب إيداع المال عند طرف ثالث رفضته الفرقة العسكرية، لتتريث العائلة في إرسال المبلغ اعتقاداً منها أن تحويل المال لن “يحرر ابنها”، كما يقول شيار الذي أرسلته الشرطة حينها إلى مخيم للاجئين في آضنة.

بعد ثلاثة أيام من الانتظار في المخيم، وقع شيار على ورقة لا يعرف مضمونها كونها مكتوبة بالتركية وطُلب منه ركوب حافلة دون معرفة الوجهة، ليقف بعد ساعات أمام مسلح ذو لحية كثة بعد عبور الحافلة لمعبر كتب عليه باب الهوى الواصل بين مناطق سيطرة هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً) والأراضي التركية، وشهد المعبر يومها حركة مرور طبيعية بين جانبي الحدود، بالرغم من تصنيف أنقرة للنصرة كمنظمة إرهابية، كما واشنطن وباريس ولندن وغيرها من عواصم القرار.

وتزامناً مع ذلك بقيت قنوات الاتصال مفتوحة بين الحمزات وذوي الشاب المحتجز، وأخبرهم المهرب أن محاولاته لإطلاق سراحه ستنجح قريباً، لكن حتى اليوم لا يزال الشاب محتجزاً، وتم تحويله لمحكمة تل أبيض بتهمة الانضمام لقوات سوريا الديمقراطية.

نورث برس تواصلت مع “الجيش الوطني” الموالي لتركيا للتعليق على دور فصائله في تهريب البشر وجني عائدات مالية، لينفي أيمن شرارة، وهو ناطقه الرسمي ضلوعهم في التهريب.

وقال شرارة إن “الجيش الوطني” يرفض هذه الإجراءات، وأضاف أن “الشرطة العسكرية” تتابع الملف الأمني في المناطق التابعة لها، وأشار خلال حديثه إلى أنهم سيصدرون بياناً حول عمليات التهريب والابتزاز المالي في المناطق الخاضعة لسيطرتهم، دون تسمية الجهة المسؤولة عن ذلك.

اقرأ أيضاً: الانتماء لــ”قسد” ذريعة الفصائل الموالية لتركيا لزج السكان في السجون

وبعد مرور نحو شهرين على تصريح شرارة، لم تصدر الفصائل أو الجيش الوطني أي تعليق حول عمليات التهريب الجارية في مناطقهم.

فيما لم ينفِ المكتب الإعلامي في فرقة “الحمزات” التابعة للجيش الوطني، في تصريح لنورث برس، ما أسماها “تجاوزات بعض الأشخاص المحسوبين على فرقة الحمزات”، وقال المكتب إن هذه “التجاوزات لا تمت لكيان الفرقة بأي صلة”.

شباك الموت

أواخر العام الفائت، رحلت السلطات الجزائرية نحو 60 مهاجراً غير شرعي إلى الحدود الصحراوية المحايدة مع النيجر، غالبيتهم من الكرد السوريين ممن سلكوا طريق الهجرة عبر لبنان، وبقوا عالقين هناك دون التمكن من العودة إلى سوريا أو حتى للجزائر بسبب فقدانهم المال ومنع القوات الجزائرية دخولهم البلاد، إضافة إلى عدم استجابة السفارة السورية في الجزائر لمناشداتهم.

وقال مسكو إن الكثير من العالقين يواجهون مصيراً مجهولاً في الصحارى، حيث تزج الحكومة الجزائرية السوريين في المناطق الصحراوية في النيجر، وبعضهم عالق هناك منذ سنة ولم يستطيعوا العبور نحو أوروبا بسبب ظروف الطريق واختلاف المهربين.

وينتشر نحو 124 معبراً غير شرعي على طول 375 كيلومتراً من الحدود السورية – اللبنانية، بحسب المجلس الأعلى للدفاع اللبنانية الذي يقول إنه يواجه صعوبة بضبط الحدود، بينما تقول تقارير أمنية لبنانية إن عدد المعابر أكثر وكل معبر يُطلق عليه اسم المهرب ونوع البضائع المهربة.

ضد التهريب

بعد نحو أسبوعين من وصول جثامين الغرقى إلى كوباني, أصدرت الإدارة الذاتية قانون “مكافحة تهريب الأشخاص”، المكوّن من اثنتي عشرة مادة، وقالت إنه يهدف لوقف عمليات تهريب البشر من وإلى مناطقها.

وقال فريد عطي، وهو الرئيس المشارك للمجلس العام في الإدارة الذاتية، لنورث برس، إن تهريب الأشخاص جريمة، والقانون سيحد من تفاقم أعداد ضحايا هذه الجريمة عبر فرض عقوبات شديدة قد تصل للسجن المؤبد في بعض الحالات على المتورطين بتهريب الأشخاص أو المتعاونين معهم.

وأشار عطي إلى توقيف “الأسايش” عدداً من المهربين بعد حادثة كوباني، دون أن يكشف عن أسمائهم وأعدادهم وارتباطاتهم، فيما لم تنشر “الأسايش” عبر معرفاتها أي بيانات منذ إصدار القانون.

مع وصوله إلى إدلب، تواصل شيار مع بعض معارفه لتأمين طريق يمكنه من العودة للمنزل، متراجعاً عن ما كان يحلم به كـ”نعيم أوربا” كما يسميها، ليسلك طرق تهريب مروراً بعفرين وسرمدا والباب ومن ثم منبج وصولاً إلى القامشلي، نادماً على رحلة أرجعته إلى نقطة البداية لكن مع فقدان ابن عمه وماله، واحتفاظه في تجربة ستبقى في ذاكرته طوال حياته.

بعض الأسماء الواردة في التحقيق مستعارة

إعداد: خلف معو

إشراف تحريري: هوشنك حسن