سيارات الإدخال في شمال شرقي سوريا.. فوضى القرارات تنهك الاقتصاد وتنذر بمستقبل بيئي أسوأ
تحقيق: هوشنك حسن – محمد حبش
في أواخر تشرين الثاني/نوفمبر عام 2020، أعلنت الإدارة الذاتية التي تبسط نفوذها على مساحات واسعة في شمال وشرقي سوريا، بداية العام المقبل تاريخاً لمنع دخول أي مركبة أوروبية مستعملة تم تصنيعها قبل عام 2012 إلى هذه المناطق.
وسبق القرار الأخير بنحو عام قرار آخر “مدته شهران” لتسجيل كافة المركبات التي يعود تاريخ تصنيعها إلى ما قبل عام 2000.
لكن المثير في الأمر هو استمرار سريان القرار لعشرة أشهر متواصلة دخلت خلالها إلى هذه المناطق آلاف المركبات التي يعود تاريخ تصنيعها إلى ما قبل عام 2012.
ووفقاً لتقديرات حصرية فإن تكلفة هذه السيارات بلغت عشرات ملايين الدولارات، ومقابل ذلك جنت الجمارك الملايين أيضاً.
قبل كل ذلك وتحديداً في كانون الثاني/يناير عام 2018، صدر قرار كان الأول من نوعه حينها منع دخول وتسجيل أي سيارة يعود تاريخ تصنيعها إلى ما قبل 2012 لكنه لم يجد طريقه إلى التطبيق.
في هذا التحقيق نكشف هشاشة السياسات المحلية وفوضاها حيال ملف سيارات “الإدخال”، في ظل إسهامها جدياً بتدمير جزء كبير من الاقتصاد المحلي إلى جانب المخاطر الحقيقية على الصحة والبيئة الآن ومستقبلاً.
قطاعات متضررة وسكان ضحايا
في حي وسط مدينة الرقة شمالي البلاد، يجلس “أبو مصعب” أمام مكتبه العقاري الذي يقضي فيه معظم أيامه بالجلوس وتأمل المارة بسبب تراجع تجارته.
ويقول بلهجته المحلية:
“الجيبات خربت بيوت العالم، الي عندو شقفة أرض باعها واشترى جيب، ما ضل مصاري بجيوب الناس”.
ويدعم ما يقوله”أبو مصعب” ما شهدته أسواق السيارات خلال الأشهر الماضية من زيادة لافتة في العرض والطلب.
ويرى “أبو مصعب” أن دخول هذه السيارات أفرغ جيوب السكان، وبناءً على حركة دخول السيارات “غير المحدود” منيت سوق العقارات بخسارات فادحة وشلت حركتها.
ففي السابق كان الرجل يبيع أربع أو خمس شقق في الشهر الواحد، لكنه لم يبع أي واحدة منذ شهرين.
يوسف محمد (37 عاماً)، أحد المتضررين من “الدخول الجنوني” لهذه السيارات. فقبل أشهر اشترى واحدة من نوع هيونداي طراز “جيب سنتافي 2008″، بقيمة 10500 دولارٍ أميركي.
ولكن بسبب ازدياد عرض هذه الفئة في الأسواق انخفض سعر سيارته ما اضطره للبيع بـ8500 دولار.
ويقول: “الناس تحب تشتري سيارات الإدخال الجديدة. أنا خسرت ألفين دولار بتلات أشهر”.
عودة إلى بداية القصة
ظهرت سيارات الإدخال في سوريا، عقب اندلاع الاحتجاجات الشعبية عام 2011، وتحولها لاحقاً لمواجهات مسلحة خرجت خلالها مناطق واسعة من سيطرة حكومة دمشق وخاصة في العام 2015.
وتدخل هذه السيارات إلى مناطق الإدارة الذاتية عبر معبرين رئيسين، هما معبر سيمالكا الحدودي مع إقليم كردستان العراق، ومعبر عون الدادات في منبج، مع مناطق سيطرة فصائل المعارضة الموالية لتركيا.
وبالرغم من أن بعضها تصل المنطقة وهي في حالة جيدة إلا أن معظمها تعاني مشاكل مختلفة قد لا تظهر في الفترة الأولى من استخدامها.
في حين أنها غير صالحة للاستخدام في بلدانها الأصلية، وتُلزم تلك الدول شركات تصنيعها بالتخلص منها.
ويشجع على اقتنائها محلياً تميزها بانخفاض سعرها مقارنة مع السيارات النظامية المسجلة لدى حكومة دمشق.
لكن المشكلات التي بدأت تظهر بسببها مع احتمالات المخاطر المستقبلية في ظل تدفقها بأعداد هائلة تزيد من حدة المخاوف والتفكير الجدي بما هو آت، لا سيما مع تضافر الانتقادات التي تطال السلطات المحلية.
الجمارك تجني ملايين الدولارات
تشير إحصائية رسمية غير معلنة حصلت عليها نورث برس من مصدر مسؤول في الإدارة الذاتية، إلى أنه منذ مطلع هذا العام وحتى نهاية تشرين الأول/أكتوبر الماضي فقط، دخلت 18,467مركبة إلى المنطقة.
مقابل استيراد هذا العدد خلال العشرة أشهر الفائتة، جنت السلطات المحلية نحو 27.5 مليون دولار من الرسوم الجمركية، وفقاً لأرقام كشفها مصدر مسؤول في هيئة المالية.
والسيارات من طراز “الجيب” كما يطلق عليها محلياً الأكثر طلباً، ودخل 9989 منها خلال الفترة نفسها، ويعود تاريخ تصنيع معظمها إلى السنوات ما بين 2002 – 2008، في حين يتراوح سعر الواحدة منها بين 6500 – 10500 دولار أميركي.
كما أن 1454 سيارة يعود تاريخ تصنيعها إلى ما قبل عام 2000 دخلت إلى المنطقة أي ما يعادل نحو 7.8 بالمئة من مجموع المركبات التي دخلت خلال الأشهر العشرة الفائتة.
وتماشياً مع اختلاف سنة التصنيع والنوع تختلف قيمة التعرفة الجمركية، إذ تتراوح تعرفة السيارات من طراز “تكسي” ما بين 1,200 – 1,600 دولار.
أما سيارات “الجيب” فتتراوح تعرفتها بين 1,300 – 2,400 دولار، بحسب جداول التعرفة لدى الجمارك.
ويصعب معرفة المبالغ الحقيقية التي أنفقها السكان على شراء هذه السيارات، لكن إذا افترضنا ثمن السيارة الواحدة 9,000 دولار وسطياً يكون إجمالي المبلغ 166 مليون و203 ألف دولار مقابل عدد السيارات التي دخلت المنطقة خلال عشرة أشهر فقط.
الخردة مقابل رؤوس الأموال المحلية
يقول عبدالله يوسف، وهو محلل اقتصادي، إن خروج هذه الأموال أثر على اقتصاد المنطقة، وحركة الأسواق، ما أنتج شللاً اقتصادياً نراه اليوم بشكل واضح.
ويضيف: “لا يمكن اعتبار هذه السياسة ناجحة، حيث فتحت الإدارة أبواب المنطقة لدخول كميات هائلة من الخردة، مقابل خروج الرأس المال المحلي”.
ويفضل “يوسف” استثمار هذه الأموال في مشاريع محلية “لرفع مستوى دخل الفرد وإنعاش الاقتصاد”.
ويحذر من أن الاستمرار في هذه السياسة سيؤدي إلى أزمة اقتصادية، وأن الإدارة في غنى عنها، خاصة أنها تواجه “حصاراً اقتصادياً من جهات عدة”.
ويتفق “أبو جميل” وهو تاجر سيارات في القامشلي، مع المحلل الاقتصادي في أن دخول السيارات بشكل “غير مدروس” أثر بشكل كبير على حركة الأسواق.
ويقول: “حتى حركة بيع وشراء السيارات تراجعت بشكل كبير خلال الشهرين الأخيرين بالمقارنة مع الفترات السابقة”.
ويربط ذلك بسد حاجة المنطقة من السيارات نتيجة توسع دائرة العرض، بالإضافة إلى الخسائر التي يتعرض لها مالكو السيارات أثناء بيعها.
وكان أبو جميل (كما يُعرف نفسه)، من بين التجار الذين يستوردون هذه السيارات من كوريا الجنوبية قبل اندلاع الحرب في البلاد، للاستفادة منها في قطع الغيار.
في ذلك الحين كان سعر أفضل سيارة يستوردها “أبو جميل” وغيره من التجار لا يتجاوز 500 دولار، لأنها لم تكن صالحة للاستخدام في بلدانها الأصلية التي كان هدفها التخلص منها بأي ثمن.
لكن يقول التاجر إنه يشتري الآن السيارة الواحدة بأكثر من خمسة آلاف دولار، وذلك نتيجة تكاليف الشحن وازدياد الطلب عليها.
ثمة متنصلون من المسؤولية
الملفت هنا هو أن المؤسسات ذات الشأن تنفي أي علاقة لها بالسياسة المتبعة، خاصة حيال القرار الذي سمح بتسجيل هذه المركبات وتجاوز المدة المحددة له بسبعة أشهر كاملة.
يقول صلاح عبدو، مستشار مديرية الجمارك: “لسنا نحن المسؤولين عن قرار السماح بتسجيل هذه المركبات”.
لكنه يعتقد أن قرار المنع الصادر خلال عام 2018 نشط حركة التهريب ودخول السيارات بطرق غير نظامية، “ما أغرق المنطقة بالسيارات”.
وهو ما دفع الإدارة الذاتية في مطلع كانون الثاني/ديسمبر من العام الفائت، إلى منح مدة شهرين لتسجيل جميع المركبات التي يعود تاريخ تصنيعها إلى ما قبل عام 2000 بناء على كتاب مرسل من رئاسة لجنة السياسات الجمركية.
وبحسب الكتاب فإن
“كل سيارة لا تسجل ضمن تلك المدة تعتبر مهربة حكماً وتصادر بعد انتهاء المدة المذكورة”.
ويعلق مستشار مديرية الجمارك “القرار حدد شهرين فقط لتسجيل المركبات الموجودة في الداخل فقط، والتي تعود إلى ما قبل عام 2000 لكنه بقي ساري المفعول حتى الآن”.
لكنه لم يعلق على أسباب بقاء القرار سارياً بالرغم من تجاوزه المدة المحددة.
وبالرغم من اقتناعه بالبنية التحتية غير المساعدة في المنطقة لتحمل هذا العدد الهائل من السيارات، إلا أنه يعتبر عددها “طبيعياً بالمقارنة مع عدد السكان والمساحة الجغرافية”.
أما بالنسبة للإجراءات العملية فإن مهمة الجمارك تبدأ بدخول السيارة إلى “الحرم الجمركي” حيث يتم تحديد سنة الصنع ونوعها إذا ما كانت عادية أو رباعية الدفع.
لكن مستشار مديرية الجمارك يلقي بالمسؤولية على عاتق مديرية المواصلات: “المواصلات هي التي تعاين الحالة الفنية للسيارة وتسمح أو تمنع دخولها”.
بينما يقول إسماعيل أحمي، الرئيس المشارك لمكتب مواصلات الرقة إن “الجمارك هي المسؤولة عن إدخال المركبات، لأنها هي من تدير المعابر، ولا تهتم الجمارك بكمية السيارات الداخلة لأنها تنتفع من الرسوم الجمركية”.
ويضيف: “وظيفتنا فحص هيكل المركبة بشكل كامل فنياً للتأكد من سلامتها وجودتها”.
ويعتقد أحمي، أن سيارات الإدخال القديمة تفتقر إلى وسائل الأمان الحديثة، وعند سؤالنا عن سبب إدخالها، قال: “نفتقر إلى وسائل الفحص الحديثة”.
ويقول خبراء في هذا المجال إنه لا حاجة لأجهزة فحص حديثة، لأن السيارات الأوروبية تتميز بوجود “كود” يمكن البحث من خلاله في محرك البحث غوغل حتى يظهر لك الملف الكامل لأي سيارة.
إلا أن “أحمي” يرى نفسه “مجبراً على تسجيل السيارات بعد دخولها، كي لا يواجه أصحابها مشاكل قانونية”.
طبقات من السموم وكوارث صحية
في ساعات الصباح الأولى وأثناء اقترابك من مدخل أي مدينة رئيسية ستلاحظ بشكل واضح طبقات تشكل ما يشبه غيوماً سوداء فوقها نتيجة تصاعد عوادم السيارات.
وتتميز السيارات التي يعود تاريخ تصنيعها إلى ما قبل 2012 وخاصة التي يعود تصنيعها إلى ما قبل العام 2000 بتوليد غازات كثيرة مختلفة في ظل عدم توفر وقود نظيف في هذه المنطقة التي تعتمد حتى الآن في إنتاج الوقود على طرق بدائية للغاية.
يقول خالد سليمان وهو صحفي متخصص في شؤون البيئة والمناخ، إن هذه السيارات تولد “الغاز العادم” وهو عنصر مهم في تلويث الهواء، وبذلك تواجه المنطقة كارثة بيئية.
ويشدد الصحفي: “على كل حكومة محلية، إذا كان لديها حس المسؤولية، أن تمنع دخول مثل هذه السيارات”.
ووفقاً لدراسة أجراها معهد ماساتشوستس للتقنية عام 2013، فإن الأبخرة الناجمة عن حركة المرور وحدها تتسبب في وفاة 5000 شخص سنوياً في المملكة المتحدة فقط.
وبحسب إحصائية رسمية لكنها غير دقيقة من هيئة الصحة في الإدارة الذاتية، فإن الهيئة وثقت حتى الآن أكثر من 3700 إصابة بمرض السرطان، ونحو 31 ألفاً بأمراض تنفسية.
وبحسب الهيئة فإن العدد “أكبر” لأن هناك نسبة كبيرة من السكان يتوجهون إلى مشافي العاصمة دمشق، وهؤلاء غير موثقين لديها.
بنية تحتية متهالكة وعبء لا يطاق
نجم عن الدخول غير المحدود والمدروس لهذه السيارات اختناقات مرورية شديدة في مراكز مدن، الرقة، الحسكة، القامشلي ومنبج.
وتستمر هذه الاختناقات طوال اليوم في وقت يقضي السكان أوقاتاً أطول للوصول إلى أعمالهم ناهيك عن عدم توفر مساحات لركن العربات.
يعلق فيصل عثمان، وهو مسؤول في مديرية المرور في شمال شرقي سوريا، على دخول هذه السيارات بالقول: “لم نعد نتحمل هذا العبء”.
وكشف عثمان عن أن مدينة القامشلي وحدها تحوي نحو 53 ألف سيارة، بينما أقصى حد للاستيعاب فيها يتراوح بين ستة إلى سبعة آلاف. حيث يعود مخططها العمراني وبنيتها التحتية إلى الربع الأول من القرن الماضي، إبان الوجود الفرنسي في سوريا.
في حين ثمة تقديرات غير رسمية تقول إنه خلال سنوات الحرب دخل نحو نصف مليون سيارة إلى مناطق شمال شرقي سوريا.
ويربط المسؤول المروي الازدحام في مراكز المدن، بعدم توفر الأنفاق والجسور والكراجات الخاصة بركن السيارات.
ولم تنكر نائبة رئاسة هيئة الإدارات المحلية والبلديات، ميديا بوزان، التقصير من جهة عدم إنشاء كراجات ومواقف لركن السيارات، رغم إنهم خصصوا أكثر من نصف مليون دولار هذا العام لإنشاءها.
وتقول المسؤولة إن البنية التحتية في المنطقة “منتهية الصلاحية من الناحية الفنية”.
وتقول أيضاً:
“عندما صدر قرار فتح باب الجمركة، لم تكن هيئة البلديات على علم بها، وإلا كنا سنحذر من أن البنية التحتية لا تتحمل هذا الكم”.
بجانب مبانٍ دمرتها الحرب في مركز مدينة الرقة، تحاول عشرات السيارات النفاذ من الزحام الخانق، وسط صخب عارم وارتفاع أصوات الزمامير وتصاعد أدخنة العوادم.
وأمام هذا الواقع المثير للضجر يحاول شرطي للمرور جاهداً فك الاختناق لكن دون جدوى، فما أن يفتح الطريق حتى يعود مجدداً في مشهد يشي باختناقات مستدامة قد تدمر مستقبل قطاعات مختلفة في هذه المناطق.