عالم الاجتماع والمستشرق “أردوغان”

حسن جمو, نورث برس,

في العام 2014عرفت شعوب المنطقة كيف كان يحكم أغلبية “ولاة الأمر” وذلك من خلال تنظيم “داعش”، الذي استعاد التاريخ وكأنه شاشة فيلم وثائقي، برومانسيته الشيزوفرينية وعقوباته ومجونه في السبي وخلق أسواق العبيد. وما إن تراجع التنظيم حتى ظهر ممثل آخر للتاريخ على مسرح الشعوب الناجية من أهوال الماضي، وهو الجمهورية التركية، ممثلة روح المغول في الجانب التدميري.

منذ عام أطلقت تركيا “الجمهورية” الحملة الحادية عشرة في تاريخها من حملات الإبادة والاقتلاع السكاني للشعوب. كانت هناك مدينتان هما الهدف، هما  سري كانيه (رأس العين) وتل أبيض. 

وسري كانيه (رأس العين) لها أسماء بعدد شعوبها، فهي كردياً “سري كانيه”، وسريانياً “راش عيناو”، ولها امتدادات في التاريخ تعاقبت عليها شعوب كما تشاركتها في الحاضر، فهي واشوكاني عاصمة الميتانيين و”غوزانا” الآشوريين و”راسين” الرومان و”كابارا” الآراميين، ولكل شعب منها نصيب في التاريخ والحاضر. هكذا كان منذ التمدد الإسلامي العسكري، بقيادة عياض بن غنم، وهي المدينة التي عصيت عليه حرباً، بقيت مركزاً حضَرياً إلى أن احتلها المغول، فدمروها بحيث تم دفنها وتدمير بنيتها، وبقيت ركاماً تنازع الحياة، فتدهورت من مدينة إلى قرية خربة، إلى أن أحيتها القبيلة الملّية الكردية في القرن التاسع عشر، ثم الانتداب الفرنسي في القرن العشرين. كذلك تل أبيض (كري سبي)، شقيقة سريكانيه، لم تكن مركزاً حضرياً قديماً حتى الحرب العالمية الأولى، وبقيت أراضيها ومعظم جوارها ممنوعة من الاستيطان الحضري فيها في فترة هيمنة القبيلة الملية حيث كانت مرعى لعشيرة إيزيدية مؤتلفة ضمن التحالف الملّي حتى عام 1908.

خلال الحملة العسكرية التركية على المدينتين، تعرّف العالم عن قرب على التعايش الذي كان يسود المنطقة، رغم التوترات السياسية، والانقسام بين الاتجاهات العسكرية، وعدم إجماع السكان على التوحد خلف قوة واحدة، سواء النظام أو المعارضة أو قوات سوريا الديمقراطية، لكن كان معروفاً على نطاق واسع أن فكرة التعايش تدهورت جراء التجارب الوحشية لكل من النظام وفصائل المعارضة. فحين يدخل أي منهما منطقة كانا قد طردا منها في السابق، يفر السكان قبل أن يصل أي من هذين الطرفين، لكن الوضع كان مختلفاً مع قوات سوريا الديمقراطية، رغم الدعاية الضخمة السلبية التي شاركت فيها مراكز دراسات “منهجية” وقنوات تلفزيونية ومواقع إخبارية كبيرة، على ضفتي النظام والمعارضة، لكن الكشف بالعين المجرّدة كان يناقض هذه الدعاية، فالسكان من أنصار النظام وأنصار المعارضة بقوا في المناطق التي تديرها الإدارة الذاتية، مع نسبة نزوح غير كارثية كما يجري الأمر عادة حين يكون الطرف المسيطر النظام أو المعارضة.

لكن العين المجرّدة لم تعد مصدراً للحقائق البديلة التي تصنعها مراكز دراسات وشهادات لضحايا “عن بُعد”، من دون نكران أن الأمور ليست وردية دائماً، وهناك انتهاكات موجودة في صفوف كافة القوات، بما في ذلك “سوريا الديمقراطية”، لكن لم تكن هناك أي خطة لاقتلاع سكاني، ولم ترصد حتى كاميرات المعارضين ومن والاهم نزوحاً جماعياً للسكان كما يحدث عادة حين تصل قوات معارضة أو نظامية إلى مدينة أو بلدة.

في خريف 2019، أطلقت تركيا حملة عسكرية على هذه المنطقة، وهي الحملة الثالثة لها في سوريا، بعد ريف حلب الشمالي 2016، ثم نموذج الغزو المغولي لعفرين 2018 حيث تحول مقاتلو فصائل الاحتلال، قبل أن يصبحوا مرتزقة تحت الطلب على جبهات تركيا الخارجية، إلى حطّابين، وتشير تقديرات إلى أن العدد المقدر لأشجار الزيتون والفواكه والغطاء الحراجي التي تم قطعها وبيعها حطباً من قبل هؤلاء في عفرين يصل إلى مليون شجرة. هذه الفصائل نفسها انضمت لعملية الاحتلال التركي لـ”سري كانيه” وتل أبيض، ولأنه لا أشجار هناك ولا سرقات زراعية كثيرة، فإن القتال كان عنيفاً فيما بينهم على مخزون القمح للفلاحين المهجرين، كما تقاسموا المنازل فيما بينهم، ونشأت حركة آجار للمنازل حيث يتصرف عناصر وقادة فصائل الاحتلال بالعقارات التي يقيم أصحابها في مخيمات قرب الحسكة وينتظرون العودة إلى بيوتهم، ويقومون بتأجيرها لسكان جدد يقوم الاحتلال التركي بجلبهم من المخيمات.

عام من الاحتلال تغيرت فيها معالم المدينتين حين يكون النظر بالعين المجرّدة، لكن عبر الفلتر الإعلامي المحترف للاحتلال ستكون عدسة لاصقة ملونة تروي قصة أخرى، قد لا تقول هذه العدسة اللاصقة أن الوضع أفضل الآن، لكنها مبرمجة ليس للمفاضلة الجيدة، بل للقول “كلنا سيئون”. بدلاً من تقديم تفسير مثلاً عن سبب خلو سري كانيه من /250/ ألفاً من سكانها، تكون الرواية المطلوبة القول “ولماذا أهل تل رفعت لا يستطيعون العودة إلى منازلهم؟”. هؤلاء الـ/250/ ألفاً هم فئات مدروسة نزحت استباقياً، لكن تبين أن قرارها كان صحيحاً. ففي الساعات الأولى من دخول الغزو التركي المدينة، قام هؤلاء المحتلون الجددد الذين قسم منهم يصف نفسه أنه من أهل المدينة وجوارها، بتقسيم العائدات الأولية، وهي المنازل والأحياء الكردية والمسيحية والإيزيدية، وتم حجزها عبر كتابة محجوز للفصيل الفلاني، من خلال “بخاخات” تبيّن أن كل قادة الفصائل ومساعديهم لديهم مخزون منها، لأنها أداة استيلاء على المنازل بعد أن كانت في بدايات الحراك المعارض أداة لكتابة الشعارات المناهضة للنظام.

لقد تم تحويل المدينة إلى نسخة من مدن الأناضول بعد طرد السكان اليونانيين، مدينة أحادية اللون واللغة واللباس والثقافة. مدينة يديرها مجلس احتلالي شكّل فريقاً لتدمير اللوحات الطرقية والإرشادية التي تحتوي على اللغة الكردية إلى جانب العربية والسريانية، وهو النموذج المعتمد لدى الإدارة الذاتية، بتبني ثلاث لغات عامة، لكن هذا الفريق الاحتلالي متسامح لإدخال لغة جديدة غريبة عن المدينة وأهلها، وهي التركية.

بالتأكيد هناك حسابات سياسية وأخرى حزبية عديدة ضمن ملابسات الاحتلال، ما قبله وما بعده، وهناك تنافس، وروايات لكل طرف، لكن هناك نتيجة تكشفها العين المجردة؛ هذا الشريط المحتل من سري كانيه إلى تل أبيض، لا يقبل الآن التنوع ولا التعددية ولا التشاركية. هذا هو النموذج التركي في أي توسع تقوم به الجمهورية منذ عام 1923. لم تطأ قدم تركيا أرضاً إلا وجعلته على صورتها؛ مكون واحد، لغة واحدة، أسماء واحدة، قبور واحدة للعصاة، إبادة ثقافية، إهانة السكان المغايرين وإجبارهم بطريقة ما، على طريقة الجمهورية المخضرمة في ترويع المستسلمين، على القول إنهم لا يريدو أن يكونوا أكراداً أو أي ملة تحاربها الجمهورية “الدونكيشوتية” في تخيل الأعداء ثم صناعتهم.

الرئيس عالم الاجتماع

حين نقارن حقبة “الاستعمار الأوروبي” لدول شرقي المتوسط، مع العمليات العسكرية الهمجية لدول المنطقة نفسها، داخلياً أو خارجياً، فإن اللافت قبل كل شيء أن هذه الهمجية العسكرية الوطنية المندفعة، لا تعاقب فقط، بل تعالج أيضاً أولئك الذين تهزمهم عبر نظريات علم اجتماع يمارسها معتوهون في هذا الجانب، أي الجانب العلمي، رغم كونهم ضباطاً وسياسيين لا غبار على مسيرتهم مهنياً. هكذا تحول الكرد الفيلية (اليارسانية – الاثني عشرية)، إلى فُرس، وفق رؤية صدام حسين ورفاقه البعثيين، فكان لا بد من معالجة هذا الخلل عبر اقتلاعهم وتهجيرهم من المدن الحدودية شرقي المدائن وحتى خانقين، من أجل جعلهم فرساً مرة أخرى، فتم نقل ما لا يقل عن /200/ ألف نسمة، عبر الحافلات والسير على الأقدام، إلى الجانب الإيراني، وهذا الإيراني لم يعترف بهم أيضاً وحاول إعادتهم، وهكذا نشأت قصة تتم روايتها، وفي أحداثها تدمرت حياة عشرات الآلاف بسبب تصور الحاكم نفسه عالم اجتماع، أو تصرفه على هذا النحو.

مارس حافظ الأسد أيضاً رؤيته الخاصة في الهندسة السكانية، عبر خلطة التذاكي الحداثوية والقبلية، فنقل آلاف العرب من المنخفض النهري الذي تحول إلى بحيرة حملت اسمه “بحيرة الأسد” إلى منطقة كردية على الشريط الحدودي مع تركيا، وأسس منهم قرى جديدة بعد منحهم أراضي الملاكين الكرد. خلق حافظ الأسد، بوصفه “عالم اجتماع سياسي” هذه المشكلة ورحل وقد باتت واقعاً منحرفاً تتطلب معالجته أكثر بكثير من صيغة التعويض.

شخصية الرئيس عالم الاجتماع استمرت في القرن الواحد والعشرين. مرّ عام على قول الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، أن المنطقة التي احتلتها القوات التركية على الشريط الحدودي من سري كانيه إلى تل أبيض، لا تناسب الكرد كمكان للسكن والعيش إنما العرب. سُئِل: لماذا؟ أجاب: لأنها صحراء.

هكذا تحول سكان هذه المنطقة المحتلة، إلى مادة لتجربة “علمية”، وعدد نفوسهم يربو على نصف مليون نسمة، رغم عدم وجود إحصاء رسمي للقوميات، لكن هناك مناصفة نسبية في العدد بين الكرد والعرب في عموم المنطقة المحتلة، مع حضور شركسي/ شيشاني، وأرمني، وآشوري.

باعتبار أن الرئيس التركي قد كشف عن موهبته في علوم التنمية والأجناس، على غرار معلميه يوسف أكجورا وضياء كوك ألب، فإنه تحدث عن أرض تناسب كل شعب، لذلك، في وجهة نظره تلك، فإن ما جرى ليس فقط لأهداف أمنية، بل لأن هذه الأراضي لا تناسب الكرد. لماذا؟ لأن العرب هم شعب الصحراء، ومثل هذه الأماكن تناسبهم. هذا الاستشراق العميق الذي يمثّله أردوغان تجاه العرب ليس وليد اليوم، إنما ترافقت مع حقبة تفكيك العثمانية على أيدي الاتحاد والترقي، حين سوّق منظروها لأوهام التفوق التركي، وعرقلة العرب، والألبان، لمسيرة التقدم الحضاري للدولة، وراجت حينها عبارة “شريعة الصحراء” من جانب كوك ألب الذي حاول أن يجعل الكرد في صف الترك، عبر فصلهم عن العرب البدو.

نظرة أردوغان للشريط المحتل على أنها صحراء، وهي ليست كذلك، ورؤيته في أنها تناسب العرب، مستمدة من كراسات الجناح العنصري من الاتحاد والترقي، الذي اندمج لاحقاً مع ما بات يعرف بـ”الحركة الكمالية”. هذه الصورة النمطية لم تتغير رغم أن سوريا وبلاد الشام، بعمقها العربي اليوم، من حلب إلى دمشق ثم عمّان، وكل ما غربها حتى البحر المتوسط، منطقة جبلية غير جرداء، كثيفة السكان، ذات كروم شاسعة، وبلدات وقصبات واسعة، لا بدو فيها، وهي منطقة تضاهي من الناحية الجمالية والطبيعية ما لدى الترك اليوم غربي منطقة إيجة.      

ينطوي كلام أردوغان على النظر إلى المجتمعات كمجموعات من الطيور والزواحف، يحدد لكل منها مكانها للعيش. يمكن لمالك سرب من البط أن يقرر نقل أماكن نشاطهم من منطقة لأخرى، وجلب قطيع من الغزلان محلّهم. لا يخرج توصيف أردوغان عن هذا المستوى من النظرة البهائمية لكل من العرب والكرد والأرمن والشيشان من بشر يقطنون معاً في تلك الأرض، ونقل بتصريحه هذا مستوى الصراع من حزبي- سياسي إلى هندسة اجتماعية، وراكم إرثاً من الكراهية، ونهاية لتعددية تعايشية، وضوء أخضر لتهجير السكان، وهو ما جرى على مدار عام كامل، حيث يقيم نحو /250/ ألف نسمة، آباء وأمهات وأطفال، في المخيمات، لا شيء معهم من بيوتهم سوى مفاتيح أبوابها.