نهضة وخراب العمران في حلب

نهضة وخراب العمران في حلب

نقرأ في "خطط الشام" لمحمد كرد علي، أن حلب كان فيها قبل العثمانيين /3200/ قرية، فأصبحت (في القرن الثامن عشر) /400/ قرية. في ثنايا كتابه الضخم، وكذلك في مراجع أخرى تتناول الحقبة الأخيرة من انحطاط الريف العثماني، لا نعثر على متهم رئيسي لهذا الانحدار المريب، إنما يمكن استنتاج متوالية من الأسباب تقود بعضها إلى بعض، أولها عجز الدولة عن تمويل الجيش من مواردها الشرعية، وخوض الدولة حروباً تفوق طاقتها، اجتماعياً ومالياً. والأمر يتفاقم مع العلم بفساد الانكشارية الهائل طيلة القرن الثامن عشر، ما ساهم في اندثار قرى وحواضر مدنية، فتقلّصت الزراعة وهرب الفلاحون من السباهية (ميليشيات الإقطاع) وتعديات الجند.

 

ورغم النجاح الباهر لنموذج محمد علي باشا في حكم مصر، وتحديداً نهضة كل من الزراعة والتمدن، فإن استيلاء ابنه، إبراهيم باشا، على حواضر الشام، بين عامي 1831 – 1840، فترة غامضة من حيث التأثيرات وحتى المعالجة التاريخية. فقد مال أغلب معاصريه في حلب والشام إلى الحط من شأنه، خوفاً من رقابة بني عثمان، لكنه نال شيئاً من المديح بعد نهاية حكم هؤلاء. لكن يبدو أن إبراهيم باشا الذي تحول في بدايات تمدده في الشام إلى ما أصبح عليه نابليون بونابرت في الأرياف الفرنسية (بطل الفلاحين)، سرعان ما انفلتت الأمور من بين يديه، فرغم الإصلاحات الكبيرة له في الجانب الزراعي، وتقليل سلطة الإقطاع على الفلاحين، وميله إلى فكرة المساواة الاجتماعية في منطقة قائمة على التراتبية الطبقية تاريخياً، قد عمّقت أزمة الريف، بسبب النزاع الحاد بينه وبين النبلاء والإقطاعيين. فكانت الثورة المضادة، المدعومة بدسائس الباب العالي، معطّلة لكل إصلاح مرتقب، وما زاد من الأمر سوءاً في خراب العمران، هو التجنيد الإجباري الذي فرضه الحكم المصري والكارثة الأدهى أنه أمر بنزع السلاح من السكان في فترة كانت فيها حلب منهكة كلياً. ففي عام 1822 كان الزلزال الكبير قد أحال أجزاء كبيرة من المدينة وقراها إلى أنقاض، وقبلها كانت فتن الانكشارية في آستانا تلقى صداها سريعاً في حلب قبل غيرها من المدن.

 

في مجمل العوامل المؤدية لخراب العمران، يقدم محمد الطباخ الحلبي، في كتابه الموسوعي إعلام النبلاء في تاريخ حلب الشهباء، إيجازاً لهذه المرحلة الانتقالية القاسية، وحين يصل فترة الحكم المصري يكتب: ثم تبع ذلك الفتن التي حصلت في زمن احتلال إبراهيم باشا المصري لهذه البلاد فأثرت تلك العوامل تأثيرا كبيرا في الثروة والعمران وتفرق كثير من الناس في البلاد وتخربت أماكن كثيرة داخل الشهباء وخارجها. ولاستيلاء الفقر ونضوب منابع الثروة ومهاجرة الكثيرين قلت النفوس، وكنت تجد معظم الحوانيت في الأسواق مغلقة، ويقدر الخبيرون أن نفوس حلب بعد جلاء إبراهيم باشا عن هذه البلاد تقدر بخمسة وسبعين إلى ثمانين ألفا، وقد علمت في حوادث سنة 1682 م، أن شوفاديه دارفيو قدرها بـ/٢٨٠/ ألفا فلله الأمر من قبل ومن بعد". ولعل رسائل قنصل النمسا في عكا وصيدا، أنطون كتافاكو، المعاصر لاحتلال إبراهيم باشا بلاد الشام، من أكثر الشهادات المعاصرة الحيادية لهذه المرحلة، خصوصاً في توضيح  تفاصيل التعارض بين رغبة الباشا في الإصلاح والإجراءات الصادرة عنه والمعرقلة لذلك، مثل احتكار القطن ورفع الضرائب على الحرير ونزع السلاح وتنكيله بالتجار الأوروبيين. 

 

في هذه الفترة من الخراب الاجتماعي العميق، الممتد تقريباً بين الهزيمة الساحقة لمعركة فيينا (1683) وحتى الإسناد الأوروبي للعثمانية في حرب القرم (1856). هل هناك علامة عمرانية لهذا الخراب؟.

 

في شمال حلب، ظهرت مجموعة من القرى الجديدة في فترة متزامنة بشكل مذهل، وهي منتصف القرن التاسع عشر. شهدت هذه الفترة عمراناً في القرى والمدن، وساهم دخول بريطانيا السوق العثمانية وربطه بالرأسمالية إلى حدوث تنمية غير متوازنة، نهضت فيها مدن وتراجعت أخرى. حدث الأمر في القرى أيضاً بذات الاضطراب. كان حظ الريف في حلب أفضل من المدينة التي فقدت كثيراً من محوريتها التجارية على طريق الحرير التاريخي. وحتى مطلع القرن العشرين، كانت القرى التي ظهرت بشكل متزامن قبل سنوات، قد نمت ببطء وثبات.

 

تظهر "السالنامات" الخاصة بحلب تقديرات لعدد السكان، تبدو متقاربة نوعاً ما، بين /30/ إلى /400/ نسمة للقرى الممتدة من جبل سمعان وحتى الفرات. وفي حوض نهر قويق، رغم العمران التاريخي في ذلك المكان، بسبب وجود النهر، فقد كانت القرى حديثة النشأة، والسكان بين /100/ نسمة، وهي تلك الواقعة بعيداً عن الطريق المؤدية إلى حلب، و/200/ نسمة فأعلى للقرى الواقعة على الطريق العام.

 

كان الأمر أشبه بزرع البذار في موسم واحد، كذلك كان ظهور القرى بشكل متزامن على أطراف حلب، لا يفصل بين واحدها والآخر سوى سنوات قليلة، لا تتجاوز العشرة. وفي المثال ثلاثة قرى شقيقة، هي كفرصغير وتل عرن وتل حاصل. الأولى أكثر قدماً ببضع سنين، لكنها نمت بشكل أبطأ كونها قرية داخلية متوارية، بينما الأخيرتان على الطريق العام الذي يربط بين المدينة وجنوب شرق حلب، وكذلك تعد البلدتان المتلاصقتان مدخلاً للبدو القادمين من البادية إلى المدينة.

 

وجدت هذه البلدات، وغيرها، مثل المقبلة البدوية، وحليصة وفافين والمسلمية، أسبابها في العمران، بدرجات متفاوتة نسبياً. خلال مجاعة الحرب العالمية الأولى، كاد هذا العمران الناشئ على أطراف حلب، يختفي مجدداً، لولا سقوط دولة بني عثمان ودخول الأوربيين إلى سوريا.

 

اليوم، هذا العمران الذي نشأ مع بوادر الإصلاح الهشة في الدولة العثمانية، يواجه الاندثار مجدداً في معظمه. هناك بعض المناطق الناجية من الحرب الأهلية منذ 2011، مثل القرى التي تغذيها القناة المائية من نهر الفرات وحتى مشارف حلب، مثل تل حاصل وتل عرن، وهناك القرى التي اندثرت كلياً بسكانها وظهر سكان جدد لها من النازحين، وهي تجمع القرى الواقعة في الحوض الجاف لنهر قويق، فباتت قرى مثل تل شعير وحليصة وبابنس والناصرية والمقبلة والشيخ زيات، خالية تماماً من السكان، حيث أن مجموعة من العوامل أسست لهذا الإخلاء القاسي، والذي يعرفنا ربما على فهم أعمق لاندثار القرى عبر التاريخ، غير التدمير المباشر العسكري.

 

الواقع أن الانقسام الحاد بين القوى المتصارعة، منذ احتدام الحرب في صيف 2012، قد أدت إلى تفريغ جزئي للقرى. ففي البداية غادرها أنصار النظام حين باتت الغلبة للمعارضة، ثم حين عاد النظام إليها غادرها من كان باقياً فيها أيام المعارضة. بعض القرى حظها أسوأ بأن انتقلت بين ثلاث قوى، فإضافة إلى النظام والمعارضة، كان هناك تواجد قوي لفصائل كردية في شمال حلب. وفي نهاية العام 2016، كانت القرى خالية ونزح عنها حتى أنصار الطرف المنتصر. بعض القرى، مثل كفرصغير، لا هي اندثرت ولا عادت إلى الحياة. بقيت أشبه بجثة شخص ينازع الموت، ومثلها مئات القرى شمالاً وشرقاً وغرباً. فعدد سكانها اليوم هو نفس عدد سكانها قبل /120/ عاماً (118 نسمة)، بعد أن كان /6/ آلاف في عام 2011. وأسباب الخراب تفوق آمال العمران. فمن هاجر ونزح باتت لديه مصادر معيشة أفضل من تلك التي توفرها القرية اليوم. فلا مصلحة اقتصادية لأكثر من /500/ عائلة تقيم في إقليم كردستان، في العودة، كما أن الجندية كما كانت آفة الحضارة والعمران قبل آلاف السنين، ما زالت كذلك بنفس الدرجة من العطالة الفكرية وترهيب العوام والخواص. فالمنطقة الصناعية في شمال مدينة حلب، تفتقر اليوم إلى العمال، وتستقطب الأطفال بدلاً من الشباب، ذلك أن الفئة الأخيرة إما قتلت خلال القتال أو هربت من القتال والتجنيد. ولا عمران بدون شباب.

 

كما أنه لا خراب للعمران ما لم تكن للعسكر حصة فيه، مرة بالتخريب ومرة بالتجنيد. وليس على الحضر والبدو والفلّح أشق من أن يصبح أحدهم جندياً. هذا الكره للحياة العسكرية من الأمور النادرة التي لم تدرّس ولا وضعت في إطار بحث اجتماعي رصين. لذلك، لم يفهم إبراهيم باشا، وبقي مستغرباً، على ما وصف القنصل النمساوي كاتافكو، حين لحقت أم حلبية لأحد الشبان المجند إجبارياً بإبراهيم باشا في طرسوس قرب مرسين، وواجهته وجهاً لوجه وفي يدها أكياس من المال لرشوته. كان إبراهيم باشا ينظر إليها ويحدثها باستغراب عن سبب شعورها بالشفقة تجاه ابنها بينما ينبغي أنه – الابن – موضع حسد لأنه جندي!

 

هكذا يتراكم خراب فوق خراب بين كل عمران وآخر.