من أدبيات المشانق

في صبيحة أحد أيام شهر حزيران/يونيو 1926، شهدت ساحة محكمة الاستقلال بدياربكر لحظة تاريخية فارقة، وساخرة، هي لحظة درامية صادمة من واقع الحياة. كانت جثة جميل جتو، وهو شخصية كردية شهيرة، وكذلك جثة رفيقه الآغا قادر بيندور، تتأرجحان على خشبة الإعدام في باحة تنفيذ الحكم.

كان في السجن عشرات الكرد الذين ينتظرون أن تحدد المحكمة مصيرهم، وهذه المحكمة تأسست لاجتثاث ثورة كردية محيّرة في تركيبتها ومجرياتها وقيادتها، هي ثورة قادها الرمز السياسي الأكبر للطريقة النقشبندية، سعيد بالوي (بيران)، الذي أعدمته المحكمة ذاتها في حزيران 1925.

إذاً، نفّذت السلطات حكم الإعدام بحق اثنين من حلفاء الجمهورية، وليس أعدائها، وبقيت جثة الرجلين، جتّو وبيندور، معلّقة برهة من الزمن، فيما كان سجناء أكراد آخرون ينتظرون دورهم على الخشبة نفسها حين نظرت مجموعة منهم إلى الجثّتين، بشماتة، ليقول أحدهم: “ها هي جثّة الآغوات الأعداء”! فوافق الآخرون على قوله إيماءً.

كان جميع هؤلاء محكومون بالإعدام، لكن بعضهم يرى، في لحظة الهزيمة الكلية، أن في محكمة الاستقلال فائدة عبر عدم تركها “خونة الثورة الكردستانية” بدون حساب، أمثال الرجلين المعلّقين، رغم أن المحكمة شنقتهما بتهمة التآمر ضد الجمهورية وليس تحقيق العدالة لأنصار الشيخ سعيد، في مشهد عجائبي قلّما يسهل فيه تفكيك هذا الالتباس المدهش بدون فهم طبيعة “الجمهورية” في مرحلة التأسيس.

بعد انهيار ثورة الشيخ سعيد، قررت “الجمهورية” التخلص من جميع الوجهاء الكرد، بدون تمييز بين المتمرد عليها وبين المتعاون معها. فكان جتّو وبيندور من الصنف الثاني الذين كانوا في صف الحكومة خلال مجريات الثورة، فيما نجا بعض المتعاونين مع الحكومة عبر الهروب إلى منطقة الانتداب الفرنسي في سوريا، ومن بينهم شخصية ستقود الحركة الكردية في منطقة الجزيرة، وهي حاجو آغا. حيث قاتل هذا القائد ضد رجال الشيخ سعيد، على ما يروي كل من قائد ثورة آغري 1930، الجنرال إحسان نوري باشا، في مذكراته، والشاعر والسياسي جكرخوين، والسياسي الكردي الكبير أوصمان صبري.

الشاهد على هذا المشهد كان شاب معتقل لمشاركته في الثورة، وسيصبح لاحقاً من أبرز زعماء أكراد سوريا حيث عاش بقية حياته في دمشق ودفن فيها. كان هذا الشاب هو أوصمان صبري، العضو المؤسس لأول حزب كردي سوري، عام 1957.

 أوصمان صبري، الذي سيقترن اسمه بلقب “آبو”، إلى أن يظهر عبدالله أوجلان، بعد العام 1980، حاملاً اللقب نفسه، دوّن في مذكراته المنشورة بالكردية والعربية والتركية، وقائع حياته، ومنها مرحلة “محكمة الاستقلال”.

 تطرق صبري إلى وقائع الإعدام في المدة التي قضاها في سجن دياربكر حين حكم عليه بالسجن ست سنوات مع النفي وإعدام عمه شكري آغا. وكان مما دوّنه هو مشهد الجثتين وتشفّي المحكومين اللاحقين الذين سيعدمون خلال أيام في المكان نفسه، بطريقة موتهما.

 بحسب مذكرات أوصمان صبري، لا تبدو أن أياً من مشاهد الإعدام قد أثرت في شخصيته، لا الجثتين ولا بقية الشامتين، إلا أن هناك ندبة نفسية تركها لديه مشهد تعليق عمه شكري آغا، على المشنقة، وقد يكون من الملائم تناول هذا الأمر في دراسة شخصية أوصمان صبري القاسية بقية حياته.

وقائع الأحداث بين عامي 1925 و1928 (بين ثورتي الشيخ سعيد وثورة جبل آغري) تم تناولها بشكل انتقائي، ودخلت في المرويات القومية الكردية بعد تهذيبها. فمعظم ما كان ثورياً في عام 1928 كان يقاتل مع، أو يساند، الجيش التركي ضد الثورة الكردية في عام 1925.

لكن لم تتوفر لجميع هذه الشخصيات غير المشاركة في ثورة 1925، وهم أنفسهم أصبحوا قادة 1928 – 1930، الفرصة لتنظيف تاريخهم. بعضهم نجح في ذلك، مثل آل قدري جميل آغا، وحاجو آغا، وحسين باشا حيدران، وآل بدرخان الذين كانوا على الحياد. أما البقية فلم يحالفهم الحظ في تنظيف سمعتهم، إما لأنهم قتلوا مبكراً وإما لأنهم لم يعقبوا أبناءً يكون لهم تأثير على رواية الأحداث بحيث يتم إخفاء الجزء المخجل من هذا التاريخ.

من هؤلاء الذين لم يكونوا محظوظين جميل جتو نفسه، الذي لم يفعل شيئاً يزيد عما فعله حاجو آغا، من الوقوف ضد ثورة الشيخ سعيد. بل إن جميل جتّو، وهو آغا قبيلة بنجيناران في خرزان، كان على صلة قرابة مع مصطفى كمال باشا، بحسب شهادة نقلها نذير جبو في كتابه “صفحة من تاريخ الكرد” (148)، وقد يكون لحياده وقعاً أقل مقارنة مع أولئك الذين حملوا السلاح ضد الثورة، وباتوا قادة الكرد وكردستان لاحقاً.

في واحدة من المرويات الشائعة عن اللحظات الأخيرة من حياة جميل جتو، قبل اعتلائه منصة الإعدام، أنه أوصى بأن يكون قبره عند نقطة التقاء سبعة قرى كردية حتى يبصق الناس الذين يمرون من هناك على قبره ويقولوا: جميل جتو، أي حمار كنت”. هذه الصيغة وردت في كتاب نذير جبو (ص 149)، نقلاً عن دراسة لمحمود باكسي، كما ذكرها زكي بوز أرسلان أيضاً بصيغة قريبة. ويضيف إليها أن مصطفى كمال وعد جميل جتو أن يزوجه إحدى بناته.

 لكن عائلة جتّو نفت أن يكون جدهم قد أوصى أن يدفن في نقطة التقاء سبع قرى، وزعمت إن هذه الرواية مختلقة كلياً، وأن الصحيح هو أنه شعر بالندم بعد الحكم عليه بالإعدام، وقال إنه لو كان يعلم أن هذا ما سيحدث لما ترك جندياً تركيا واقفاً على قدميه من دياربكر إلى سيواس.

هذا النفي يذكره نذير جبو في أحد هوامش الكتاب. الواقع أن رواية العائلة تبدو أقل ركاكة من الحكاية القومية بخصوص جميل جتّو، وربما شعر الرجل في قلبه أنه يستحق أن يدفن بين سبع قرى كردية ليبصق عليه الجميع، لكن ليس خافياً أيضاً أن سير الآغوات الكرد تجعل من الصعب تصديق مثل هذه المراجعة المهينة. فالآغوات لم يكونوا مجرد مصفوفة استغلالية فلاحية، بل كانوا من الفرسان قبل كل شيء.