وقفت تركيا قرابة سبعة عقود على أبواب أوروبا، تنشد الانضمام إلى مؤسساتها الاقتصادية والأمنية والسياسية، قبل أن تقدّم عام 1987 طلباً رسمياً لنيل عضويتها الكاملة عبر تطبيق معايير كوبنهاغن الأوروبية.
طوال هذه الفترة، أدارت تركيا ظهرها للشرق من باب أنها دولة أوروبية تنشد الحداثة والعصرنة والقيم الأوروبية… قبل أن تنقلب في عهد أردوغان على خيارها السياسي وتصبح على حافة الصدام مع أوروبا! فما الذي جرى حتى وصلت الأمور إلى هذه النقطة؟ وإلى أين تتجه العلاقات التركية-الأوروبية في ظل تفاقم الخلافات بين الجانبين؟
بدايةَ، لا بد من القول إن النظرة الأوروبية لتركيا انطلقت من أنها دولة مهمة لأمن أوروبا والغرب عموماً، وهي نظرة ترسخت بعد الحرب العالمية الثانية بسبب موقع تركيا الهام في إطار الصراع السابق مع الاتحاد السوفييتي والمستمر في عهد روسيا بوتين، ورغم هذه النظرة فإن أوروبا ظلت تنظر إلى تركيا على أنها دولة مختلفة عنها حضارياً، خاصةً وأنها تمثل إرث دولة شنت أقسى الحروب ضد الأوروببين، فما زالت الذاكرة الأوروبية تقف عند لحظة دكِّ العثمانيين للعديد من دولهم، وحصار فيينا وتجويع سكانها، بل إن إسطنبول ما زالت في نظر الكثير من التيارات المسيحية (الأرثوذكسية) مغتصبةً من قبل تركيا، نظراً لأنها كانت مركز الكنيسة الأرثوذكسية ولا سيما آيا صوفيا التي كانت من أقدم الكنائس قبل أن يحوّلها “الفاتح” العثماني إلى مسجد، ومن ثم إلى متحف في عهد أتاتورك، قبل أن يحوّله أردوغان مؤخراً إلى مسجد من جديد… وعليه فإن التعاطي الأوروبي مع المسعى التركي لنيل العضوية قام على معادلة دقيقة، وهي معادلة عدم قول نعم كاملة لعضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي وفي الوقت نفسه عدم قول لا نهائية لطلبها، وهي معادلة جعلت مسار العلاقة بينهما محفوفاً بالصعوبات والمخاطر وغياب الثقة، فالقضية بالنسبة لأوروبا كانت مساراً وامتحاناً لتركيا من أجل الإصلاح والديمقراطية والحريات والحقوق، فيما كانت بالنسبة لتركيا تطلعاً إلى الامتيازات الأوروبية الكثيرة، وفي النهاية لم يحقق أي طرف هدفه، فلا أوروبا نجحت في جعل تركيا دولة ديمقراطية وفق المقاييس الأوروبية، ولا تركيا تمكنت من الانضمام إلى العضوية الأوروبية، بل إن المفاوضات بهذا الخصوص تجمدت، والخلافات بين الجانبين تراكمت وتفاقمت، وخطوط الصدام بينهما باتت أكثر من نقاط التلاقي والتوافق، وثمة مؤشرات توحي بأن مشروع كل طرف بات يتمحور حول العداء للآخر ويتجه نحو صدام أكيد.
في محاولةٍ لفهم ما جرى، ثمة من يرى أن تركيا في عهد أردوغان لم تعد تركيا السابقة في خياراتها السياسية والحضارية، وأن مشروع أردوغان الإسلامي-العثماني غيَّر من أولويات السياسة التركية، وهو في الطريق إلى مشروعه هذا عرفَ كيف ينتهج سياسةٍ تقوّي موقفه تجاه أوروبا المنقسمة والضعفية والمتراخية، وهكذا استخدم قضية اللاجئين سلاحاً ضد الدول الأوروبية، كما عرف كيف يستهدف البنية الاجتماعية الأوروبية من خلال الجاليات التركية الكبيرة في أوروبا، حيث زرع شبكات تجسس في قلب المدن الأوروبية، ومارس نفوذاً كبيراً عبر الأفراد والجمعيات والمساجد التركية في الدول الأوروبية، بل أن أردوغان أظهر نفسه زعيماً مدافعاً عن حقوق المسلمين في أوروبا وكذلك في العديد من المناطق الأخرى، وهو ما حوّل تركيا إلى قبلة للمنظمات الإسلامية المتشددة ولا سيما جماعات الإخوان المسلمين التي تتمتع بنفوذ كبير في أوروبا بل وحتى الجماعات الإرهابية، ولعلَّ هذا ما يفسر كيف هددت تركيا أوروبا بالدواعش بعد قضية اللاجئين، وفوق كل ذلك عرف أردوغان كيف يستغل علاقته بالولايات المتحدة لابتزاز الأوروبيين في القضايا الخلافية معها… في مقابل كل ذلك، بدا الموقف الأوروبي وكأنه غير مدرك لما يقوم به أردوغان وما يشكّل ذلك من خطر كبير على أمن أوربا، وعدا ذلك، انتهجت الدول الأوروبية سياسة قامت على مهادنة أردوغان واستفزازاته وتهديداته الدائمة لها، سواءً لأسباب مصلحية تتعلق بالعلاقات التجارية والاقتصادية كما هو حال الموقف الألماني، أو لأسباب تتعلق بالحرص على عدم الصدام معها ومحاولة حل الخلافات معها عبر الحوار، وهو ما اعتبره أردوغان ضعفاً أوروبياً واستغلّه للانتقال إلى مرحلة جديدة من التصعيد، وهكذا بدأ يتجه إلى عسكرة الوضع في ليبيا تمهيداً لفرض أمر واقع على المتوسط من خلال مذكرات تفاهم مع السرّاج، فظهرت نظرية (الوطن الأزرق)، كما بدأ ينتهك السيادة اليونانية ويرسل القوات والسفن إلى جزرها في بحري المتوسط وإيجه بحثاً عن الطاقة، ورفع العلم التركي هناك، فظهرت الدعوات المطالبة بالتخلّص من اتفاقية لوزان والعودة إلى الميثاق الملّي، ومن وحي كل ذلك بدأت تيارات تركية تنشر خرائط وتتحدث عن تركيا الكبرى التي تتطلع إلى ضم أراضٍ من سوريا والعراق واليونان وقبرص وأرمينيا وجورجيا وبلغاريا… على اعتبار أنها اُقتطعت من تركيا عقب انهيار الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى… وهكذا باتت تركيا التي كانت تقف على باب أوربا من أجل نيل العضوية، ترفع بدلاً من ذلك سيف السلطان أردوغان الذي يهدد خرائط أوربا وأمنها وحدودها وشعوبها وهويتها، دون أن تستطيع الدول الأوربية رفع العصا الغليظة في وجهه، لكن سياسة أردوغان هذه وضعت دول أوروبا في امتحان مصيري، إذ تحركت اليونان بحكم الجوار الجغرافي تستعد للحرب وتشحذ الهمم من أجل موقف أوروبي بمستوى الخطر التركي، فيما ذهبت فرنسا تنسج موقفاً موحداً يحسم التراخي الأوروبي في وجه أردوغان، وفي الوقت نفسه تعالت الأصوات في العديد من العواصم الأوروبية مطالبة بالتصدي لابتزاز تركيا، والتصدي لسياساتها، وعدم السماح لها بالتوسع، ووضع حدٍّ لنفوذها ولا سيما شبكاتها التجسسية في قلب الدول الأوروبية… وهكذا لم تعد العلاقة بين تركيا وأوروبا علاقة السعي للعضوية الأوروبية بل علاقة التوتر والصدام.
والسؤال هنا، إلى متى ستهادن أوروبا أردوغان على ابتزازه لها؟ ثمة قناعة بأنه حان وقت رفع العصا الغليظة في وجهه، فالرجل لا يفهم إلا لغة القوة، ومن دون ذلك لن يتراجع عن نهجه التصعيدي، خاصةً وأن هذا النهج يحقق له أهدافه الداخلية، وعلى رأسها الحفاظ على شعبيته التي تنهار.
أوروبا، ولأسباب كثيرة، صبرت كثيراً على أردوغان، وثمة من يقول إن تكلفة هذا الصبر باتت أكبر من تكلفة التحرك ضده، وإنه لم يعد من الممكن التغاضي عن تصعيده إلى ما لا نهاية… والسؤال هنا، متى ستتخذ الدول الأوروبية إجراءات رادعة توقف السلطان العثماني الجديد عند حدّه؟ سؤال إن بقي من دون جواب، فلا شيء سيمنع أردوغان عن مواصلة ممارسة لعبة ابتزاز الأوروبيين بحثاً عن تطلعاته الجامحة التي تمتد من البحر الأدرياتيكي إلى سور الصين.