سينما سلميَّة.. الذاكرة القديمة لسوريا

أحمد السح

تخبرني أمي في الكثير من ذكرياتها عن ذهابهم إلى السينما بإشراف المدرسة، وكيف أن هذه الظاهرة كانت تجد بعض الاعتراض من جدي، إلا أنه كان يوافق طالما أن الأمر تحت إشراف المعلمات اللواتي يحسنَّ اختيار الأفلام للطالبات اللواتي كنَّ يذهبن إلى السينما ليعرفن دنيا أخرى مختلفة عن بيئتهن الريفية، المليئة بالأحلام الواسعة نحو مستقبل واعد.

تقديرياً وحسب عمر والدتي، فإن السينما كانت في زهوتها إبان بداية السبعينات ونهاية الستينيات من القرن الماضي، السينما التي تقبع وسط شارع يتعارف عليه باسم (طريق حمص) وسط المدينة، قريبة جداً من الحمام الأثري الذي يمتد تاريخه حتى العصر الروماني الذي عاشت المدينة في كنفه.

أما بالنسبة لأبناء جيلي ومن هم أكبر مني فقد تحولت السينما إلى ظاهرة منبوذة شأنها في ذلك شأن الكثير من السينمات التي كانت منتشرة في أرجاء البلاد، لأنها تعرض أفلاماً رخيصة من حيث المحتوى، وكما أنها مكان مغلق ربما يحدث فيه الكثير من المشكلات أو لنقل بشيء من المبالغة إنها موبقات بالنسبة إلى مدينة صغيرة يعرف سكانها بعضهم بالمجمل، فكان من غير اللائق دخول الإناث وكان الأمر مقتصراً على الشبان، ويمكن القول على بعض الشبان غير الملتزمين الذي يمكن وصفهم بأوصاف غير لائقة أحياناً.

حسب الذاكرة فإن السينما في وصفها كانت تضم مقاعد خشبية وشاشة كبيرة، وكان سعر بطاقة الدخول حوالي نصف ليرة سورية (هذه مرحلة السبعينيات والثمانينات) وارتفعت إلى خمسة ليرات سورية في التسعينيات، وكانت الكراسي فيها من الخشب الفورميكا وكانت متلاصقة مع بعضها البعض، وكان يوجد فيها غرفة لبيع القضامة والحلويات.

أزيلت السينما القديمة التي كانت تقبع على طريق حماة، وأقيمت مكانها أبنية طابقية، وهذه السينما ذاتها كانت تلعب دور المسرح وتقام فيها الحفلات لكبار الفنانين، ويذكر أنها استقبلت الفنان الكبير وديع الصافي وأقيمت له حفلة لا تزال في ذاكرة من حضرها.

كانت ملكية هذه السينما تعود للسيد صادق الشيخ حسن (عواد) وكان يديرها المصور (بدر ديبو) الذي يترحم عليه الكثير من أبناء تلك المرحلة، لأن اسمه كان حاضراً في كل مرة يحدث فيها عطل في العرض، حيث ينادي الحضور (صوووت يا بدر… كهربا يا بدر) وكان يوما الأحد والاثنين مخصصين للفتيات بينما بقية الأيام مختلطة، وكثيراً ما كانت تعرض أفلام للفنانة سميرة توفيق التي كانت في أوج شهرتها.

أما أفلام سيدة الشاشة فاتن حمامة، وغيرها من أبناء جيلها من النجمات كماجدة الصباحي وشادية وصباح، ومريم فخر الدين، فقد كانت تلاقي إقبالاً شديداً خاصة بالنسبة للأفلام الرومانسية والقومية التي بدأت تنتشر بعد مرحلة المد القومي والاشتراكي التي كانت تلاقي حضوراً قوياً في البلاد كونها كانت تتناسب مع الأفكار والتطلعات، لا أحد ينسى مثلاً فيلم فادية كامل التي غنت أغنية (أم البطل) التي أبكت الكثير من أبناء سلمية وخاصة بعد نكسة حزيران 1967، والتي كانت تشد العصب القومي في وجدان جمعي يريد الخير لبلاده ولم يتوقع أن تندثر أحلامه كما اندثرت سينماه.

الكثير من أبناء تلك المرحلة غادروا الحياة أو صاروا اليوم في خريف العمر، وباتت السينما كمشروع ثقافي تنويري تقبع في الذاكرة المعتمة، وحتى أنها كمشروع اقتصادي لا يبدو أنها تنال الاهتمام كثيراً، فالسينمات في العاصمة دمشق شبه منقرضة فكيف في مدينة صغيرة مثل سلمية انتقلت من الريفية إلى المدنية منذ عدة عقود لا أكثر.

خلال الحرب الأخيرة نزح الكثير من سكان المدن القريبة والبعيدة إلى مدينة سلمية، وكانوا سبباً في بعض النشوة أو الحركة الاقتصادية والمجتمعية فيها، وكل منهم نقل حركته وطبيعة حياته فيها، وكانت سينما سلمية مغلقة منذ التسعينيات والناس فقط تستخدمها للدلالة عليها كمكان، أي أن تسأل أين محل فلان فيقال لك شرق السينما أو خلف السينما، على اعتبار السينما مكاناً متعارفاً عليه منذ عقود، ولم تغادر مكانها أو مكانتها رغم انعدام دورها كلياً.

خلال عامي 2015 و2016، رأيت مشهداً وقتها أثر بي بشكل واضح مع أنني لم أعاصر السينما أنا وكل أبناء جيلي، حينما وجدت رجلاً حلبياً كان قد نزح من مدينته واستأجر مدخل السينما وحولها إلى متجر صغير لبيع الخضروات، المشهد كان يعبر بشكل كامل عن الحالة التي آلت إليها البلاد، وإذا اعتبرنا السينما مرصداً لنراقب كيف كانت المعالم الثقافية تشهد حالة فكرية وثقافية وكيف أنها أغلقت ومن ثم تحولت إلى مكان لأكل العيش لا أكثر ولا أقل، يرسم لنا هذا المشهد كيف تضاءلت اهتمامات الناس وصارت السينما فكرة رفاهية لا يمكن العودة إليها.

من الملاحظ اليوم أن دُور السينما في العالم كله تشهد تراجعاً، وفكرة السينما المنزلية، ومنصات عرض الأفلام هي التي حلت محل فكرة التجمع المجتمعي لحضور فيلم سينمائي، ولكن التجربة العالمية مختلفة كلياً عن التجربة السينمائية في سوريا، وعنها في سينما سلمية المنقرضة، فالحالة السينمائية لم تبلغ ذروتها أكثر من مجرد عقد أو عقدين على أبعد تقدير ربما مرحلة الستينيات والسبعينيات كما أسلفنا ومن ثم تحولت إلى مكان مهجور لا يجد له من يهتم به حتى في الأحاديث اليومية.

حين التقيت عدداً من الرجال الجالسين قرب سينما سلمية وسألتهم عنها، ضحك رجلان هما الأكبر سناً بينهم، بينما لم يتذكرها من هم في الأربعينيات، أخبرني الرجلان أن السينما كانت حلوة، وباتا يذكران لي الكثير من القصص المليئة بالنوستالجيا عن السينما والذهاب إليها مع الأساتذة.

وكانوا يشكلون قطاراً من الشبان لحضور فيلم راج ذكره وزكته المدرسة وأشرفت وزارة التربية على حضوره، وبعدها كانوا يحاولن هم دخول السينما بأموالهم القليلة لحضور أفلام تبدو جريئة حينها، أفلام يرون فيها عالم مصر المشتهاة وقتها، وفناناتها الجميلات، ولكن الرجلين لا يتذكران أبداً أنهما شاهدا فيلماً سورياً فيها، فكما يصف الرجلان أن السينما في أواخر الثمانينات باتت “للزعران”.

مع أن كلمة الرجلين قد تبدو قاسية ولكنها في الحقيقة تعكس تحول النظرة المجتمعية تجاه الفن وتجاه المعالم الفنية والثقافية، وسينما سلمية هي نموذج قد يتكرر بحكايات مختلفة في مختلف المدن السورية التي فقدت معالمها الفنية، ولم يعد بالإمكان استعادتها، لا اقتصادياً ولا مجتمعياً، ولا يمكن أن نفكر إلا بأن نتذكرها في تقرير هنا أو حديث هناك، أو في وثائق أرشيفية تعمل عليها بعض الجمعيات المدنية التي تحاول خلق إرث مجتمعي وفكري يبقى في ذاكرة الناس مؤرشفاً في وثائق، بدل بقائه مجرد أحاديث يتم تناقلها كما نقلت لي أمي علاقتها مع السينما وعرفتني بها كحكاية من الماضي البعيد.