عامان من الانتهاكات التركية وتغيير الهوية في سري كانيه وتل أبيض

الحسكة – نورث برس

أشار تقرير حديث نشرته رابطة “تآزر” لضحايا الاجتياح التركي لشمال شرقي سوريا، إلى أن أقل من 15% من سكان سري كانيه (رأس العين) عادوا إلى منازلهم بعد سيطرة تركيا وفصائل موالية لها على المنطقة.

ويصادف اليوم السبت التاسع من شهر تشرين الأول/ أكتوبر، الذكرى السنوية الثانية لاجتياح الجيش التركي بمشاركة فصائل سورية مسلحة موالية له، منطقتي سري كانيه (رأس العين)، وتل أبيض في شمال شرقي سوريا، بعملية عسكرية واسعة أطلق عليها “نبع السلام”.

ووفق تقارير حقوقية، دفعت العملية التركية في نزوح نحو 300 ألف شخص من ديارهم، بينهم تهجير ما يقارب 175 ألف شخص من المنطقة الممتدة بين سري كانيه وتل أبيض والتي كان يزعم الرئيس التركي بإنشاء “منطقة أمنة” فيها.

ووفقاً لمصادر خاصة لـنورث برس، من سري كانيه وهي ذات غالبية كردية، فإنه لم يتبقَّ من الكرد في المنطقة سوى نحو 50 شخصاً معظمهم مسنون.

بينما لم يعد للإيزيديين، والذين كان يبلغ عددهم نحو 600 شخص موزعين في 16 قرية بالإضافة إلى تواجدهم في المدينة، لهم وجود بعد الاجتياح التركي للمنطقة.

أما المسيحيين فيبلغ عددهم الحالي 14 شخصاً فقط في المدينة، بحسب ذات المصادر.

وفي التاسع من تشرين الأول/ أكتوبر 2019، سيطرت القوات التركية على المدينتين والشريط الحدودي بطول أكثر من 80 كم وبعمق 30 كم، بعد تسعة أيام من معارك دارت مع قوات سوريا الديمقراطية قبل أن تعلن الأخيرة استعدادها للانسحاب من مدينة سري كانيه بوساطة أميركية ـ روسية مع الجانب التركي، في إطار اتفاقية وقف إطلاق النار.

وعلى الرغم من إطلاق أنقرة التهديد والوعيد قبل العملية العسكرية بفترة وجيزة، لم تكن نذر الحرب بادية على أجواء المدينتين خاصة في ظل رفض شعبي لأي هجوم خارجي على المنطقة وسط تنظيمهم لاعتصامات واحتجاجات جماهيرية على الحدود بالقرب من مدينة سري كانيه.

ومنتصف آب/ أغسطس 2019، بدأت قوات سوريا الديمقراطية بردم أنفاقها الدفاعية والتي جهزتها، إثر التهديدات التركية، في المنطقة الممتدة ما بين مدينتي سري كانيه وتل أبيض في إطار “الآلية الأمنية” بناء على التفاهمات التي حصلت بين الولايات المتحدة الأميركية وتركيا.

وتضمنت التفاهمات، سحب قوات سوريا الديمقراطية لقواتها وأسلحتها الثقيلة من النقاط الحدودية مع تركيا بعمق 5 كم إلى 14 كم، واستلام المجالس العسكرية المحلية للمنطقة.

وعقب الانتهاء من ردم الأنفاق ورغم التطمينات الأميركية للمجالس العسكرية المحلية بحماية المدنيين من أي “غزو” تركي، وفي خطوة مفاجئة أعلنت واشنطن عن سحب قواتها من القواعد والنقاط العسكرية على الحدود في السابع من تشرين الأول / أكتوبر 2019، في خطوة وصفتها قسد حينها بالقول “القوات الأميركية لم تفي بالتزاماتها”.

انسحاب القوات الأميركية جاءت بعد أن أعلن الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، أن بلاده ستنفذ عملية جوية وبرية بشرق الفرات في سوريا، في الأيام أو الساعات القليلة القادمة.

وفي الساعة الرابعة عصراً في التاسع من تشرين الأول/ أكتوبر 2019، بدأت الغارات الجوية التركية بالتزامن مع قصف مدفعي على سري كانيه، تلتها مدينة تل أبيض وطول الشريط الحدودي بين المدينتين، لتبدأ معها حركة نزوح باتجاه المدن الحسكة والرقة وأريافهما.

سياسة تتريك

وبعد أيام من انتهاء العملية العسكرية، رفعت القوات التركية أعلامها فوق المباني والدوائر الرسمية ضمن المدينتين ولا زالت موجودة حتى يومنا هذا.

في حين هناك كتابات تركية على اللوحات التعريفية على كافة المؤسسات المدنية والمرافق الحيوية والتعليمية إلى جانب اللغة العربية، وذلك بعد سنوات من اعتماد الإدارة الذاتية للغات الثلاث (الكردية والعربية والسريانية) وهي اللغات الأساسية التي يتحدث فيها سكان المنطقة التي تشكل خليطاً من الكرد والعرب والشركس والتركمان والمسيحيين، وذلك وفق صور نشرتها وسائل إعلامية مقربة من أنقرة، اطلعت نورث برس على بعض منها.

وفي تمدد تركي واضح في شمال شرقي سوريا، تشرف حالياً ولاية “شانلي أورفا” التركية على الناحيتين الخدمية والإدارية في سري كانيه وتل أبيض.

وفي صور نشرتها مواقع إعلامية تابعة لتركيا، دشن عبدالله آرين، والي شانلي أورفا التركية في مدينة سري كانيه، عدداً من المؤسسات التي تتبع للمجلس المحلي، على فترات متفاوتة خلال العامين الفائتين.

كما عمدت السلطات التركية إلى أدلجت المناهج المدرسية واعتماد اللغة التركية من المواد الرئيسية ضمن المدارس.

تغيير ديمغرافي

ويقول عزالدين الصالح، وهو المدير التنفيذي لرابطة “تآزر” في تصريح لـنورث برس، إن تركيا عمدت بشكل واضح إلى تغيير ديمغرافي في المنطقة بالتنسيق مع الفصائل المعارضة، على غرار ما جرى في منطقة عفرين، “باستباحة ممتلكات السكان المهجرين وتقطين سكان من مناطق سورية أخرى بدلاً منهم”.

ورابطة “تآزر” تضم مجموعة من الصحفيين والحقوقيين والباحثين من سري كانيه و تل أبيض وتقوم بتوثيق الانتهاكات في المدينتين.

وبحسب “الصالح”، فإن القوات التركية منذ اجتياحها وحتى الآن، قامت “بتوطين أكثر من 2000 عائلة نازحة من مناطق سورية أخرى في منازل المدنيين المهجرين، بالإضافة إلى توطين أكثر من 55 من نساء وأطفال مقاتلي تنظيم داعش (معظمهم عراقيين) في منازل تم الاستيلاء عليها ضمن سري كانيه”.

ويضيف: “كما استولت على أكثر من 5500 منزل سكني، وأكثر من 1200 محل تجاري وصناعي، بالإضافة إلى إفراغ 55 قرية من سكانها الأصليين”.

ويرفض النازحون العودة إلى ديارهم في ظل السيطرة التركية خوفاً من الاعتقال والقتل وعدم الثقة بالفصائل المسلحة رغم محاولة السلطات التركية عبر الائتلاف السوري المعارض الذي يتخذ من تركيا مقراً له، بالعمل على إعادتهم.

ووفق المدير التنفيذي للرابطة، فإن “ما تم توثيقه ليس إلا جزءاً صغيراً من الانتهاكات الواسعة والممنهجة التي تُرتكب في سري كانيه وتل أبيض، بسبب المضايقات وحصر العمل الإعلامي على المقربين منهم فقط”.

انتهاكات لا تحصى

ورغم المزاعم التركية منذ سيطرتها على المنطقتين وتحويلهما إلى مناطق آمنة، لكن التقارير الواردة بشكل شبه يومي من المنطقتين تكشف حجم الانتهاكات وانعدام الأمان فيها.

وتقول رابطة “تآزر” بأن سري كانيه وتل أبيض ومنذ سيطرة تركيا عليها تعرضت لـ 56 تفجيراً على الأقل، راح ضحيتها أكثر من 135 مدنياً بينهم نساء وأطفال بالإضافة إلى أكثر من 300 جريح.

كما وثقت الرابطة 48 حالة قتل بحق المدنيين بينهم ثلاثة نساء، بالإضافة إلى قتل 11 شخصاً “تم تصفيتهم ميدانياً من قبل القوات التركية وفصائل المعارضة”.

فيما شهدت المنطقة 386 حالة اعتقال كان من ضمنها 48 امرأة و12 طفلاً، بينما تم إخفاء 152 شخصاً بشكل قسري.

وتشكل السجون في تلك المناطق “كابوساً” بالنسبة للسكان المحليين، حيث سجلت على مدار عامين نحو 232 حالة تعذيب داخل السجون (ثلاثة أشخاص على الأقل قضوا تحت التعذيب).

ولعل أبرز الملفات التي نددت بها المنظمات العالمية مثل منظمة (هيومن رايتس ووتش) هو نقل القوات التركية عشرات الأشخاص من سوريا إلى أراضيها.

وقالت المنظمة في تقرير صادر عنها في شباط / فبراير 2021، إن “تركيا والجيش الوطني السوري اعتقلا ونقلا بشكل غير شرعي 63 مواطناً سورياً على الأقل من شمال شرقي سوريا إلى تركيا لمحاكمتهم على خلفية تهم خطيرة قد تزجهم في السجن المؤبد”.

وقال مايكل بيج، نائب مدير قسم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا للمنظمة: “يُفترض بالسلطات التركية باعتبارها سلطة احتلال أن تحترم حقوق الشعب بموجب قانون الاحتلال في شمال شرقي سوريا، بما في ذلك حظر الاحتجاز التعسفي ونقل الناس إلى أراضيها”.

وأضاف حينها: “عوضاً عن ذلك، تنتهك تركيا التزاماتها من خلال اعتقال هؤلاء الرجال السوريين واقتيادهم إلى تركيا لمواجهة تهم مشكوك فيها وفي غاية الغموض متعلقة بنشاطهم المزعوم في سوريا”.

وبحسب تصريح سابق للناطق الرسمي باسم قوات سوريا الديمقراطية آرام حنا لنورث برس، فإن تركيا حكمت على ثلاثة من مقاتلي مجلس العسكري السرياني تم اعتقالهم أواخر عام 2019، بالسجن المؤبد بعد إجبارهم على التوقيع على أوراق باللغة التركية ضمن المحكمة دون ترجمتها إلى اللغة العربية.

وتنصّ المادة 49 من اتفاقية جنيف الرابعة على “حظر النقل الجبري الجماعي أو الفردي والترحيل للأشخاص المحميين من الأراضي المحتلة إلى أراضي دولة الاحتلال… أيّا كانت دواعيه”.

استيلاء على الممتلكات

وإلى جانب الفلتان الأمني المستمر، تشهد منطقتي سري كانيه وتل أبيض غلاءً معيشياً، وسط تردي الخدمات.

وذكرت مصادر مطلعة لـنورث برس، أن عائلات في تلك المناطق باتت تتجه للنبش بين القمامة بحثاً عن المعادن لبيعها في ظل عدم توفر فرص العمل وارتفاع فاحش في أسعار السلع الرئيسية.

ويصل سعر ربطة الخبز في المنطقتين إلى ألفي ليرة سورية لـ 10 أرغفة، بينما وصل لتر المازوت إلى أكثر من 2100 ليرة، في حين تباع أسطوانة الغاز بسعر بلغ أكثر من 60 ألف ليرة في الأسواق السوداء.

ومع هجرة السكان الأصليين، استولت القوات التركية برفقة الفصائل المسلحة على الممتلكات العامة والخاصة في المنطقتين، دون الاستئذان من أصحابها بذريعة تعاملهم مع قوات سوريا الديمقراطية.

وإلى جانب تحويل بعض المنازل إلى معاهد لتعليم الشريعة الإسلامية في سري كانيه، تم الاستيلاء على أكثر من مليون ونصف الدونم(150 ألف هكتار) من الأراضي الزراعية، بحسب مصادر خاصة لنورث برس.

وبحسب ذات المصادر، فإن القوات التركية وفصائل المعارضة، استولت على مخزن صوامع حبوب في (رأس العين وتل حلف والعالية والسفح ومبروكة والمناجير ودهليز والصخيرات)، ومحاصيل المزارعين عقب سيطرتهم على المنطقة.

ظهور “داعش”

وعلى ضوء ما سبق، وفي تطور لافت، رُفعت رايات تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) وسط سري كانيه أثناء خروج محتجين من موقف الرئاسة الفرنسية من رسوم كاريكاتيرية طالت النبي محمد في تشرين الأول / أكتوبر 2020.

وتداول نشطاء تسجيلات مصورة من المدينة تظهر عناصر من فصائل المعارضة في دوار الجوزة وسط المدينة وهم يرفعون علم التنظيم وينشدون أغانٍ جهادية.

وقالت مصادر مطلعة لـنورث برس، إن العشرات من عناصر التنظيم يتواجدون في مناطق سيطرة القوات التركية في شمال شرقي سوريا، وتحديداً في بلدة سلوك بريف تل أبيض.

وفي أواخر شهر تموز/ يوليو الفائت، أعلنت وزارة الخزانة الأميركية، فرض عقوبات على جماعة “أحرار الشرقية” واثنين من قادتها وضعوا على قائمة العقوبات لمسؤوليتهم عن انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان، بما في ذلك عمليات خطف وتعذيب.

ويعد فصيل “أحرار الشرقية” المقرب من تركيا، من أكبر الفصائل المسلحة وأكثرها ارتكاباً للجرائم، وينتشر ضمن مناطق سيطرة تركيا في شمال شرقي وشمال غربي سوريا.

وقالت وزارة الخزانة الأميركية، إن جماعة “أحرار الشرقية” قتلت مئات آخرين منذ العام 2018 في سجن خاضع لسيطرتها قرب حلب، ودمجت أعضاء سابقين في تنظيم “داعش”.

وفي بيان للخارجية الأميركية، أشارت فيه إلى أن “أحرار الشرقية” متورطة في قتل السياسية الكردية، هفرين خلف، في أكتوبر 2019، كما أن عناصرها مسؤولون عن نهب ممتلكات خاصة تابعة لمدنيين، ومنعوا نازحين سوريين من العودة إلى ديارهم.

إعداد: دلسوز يوسف- تحرير: سوزدار محمد