اجتياح سري كانيه.. حين قوضت أنقرة السلام وأدارت واشنطن ظهرها لـ”روجآفا” (1)

قامشلي – نورث برس

في خريف العام الماضي، كان السكان في شمال شرقي سوريا على وشك أن يتنفسوا الصعداء ويفكروا جديّاً باستقرار كان يمكن أن يكون مستداماً ويجنّب المنطقة أهوال الحرب، لولا أن قوضته أنقرة بهجوم خلَّف “كارثةً إنسانية”.

وتولّد الشعور بالاستقرار على وقع تزايد الحديث عن إمكانية خلق سيناريو أُطلِق عليه “المنطقة الآمنة/آلية أمنية” أعلن التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة حينها لعب دور الوسيط بين أنقرة وقوات سوريا الديمقراطية لصياغته وضمان استمرار تنفيذه.

لكن ذلك لم يدم طويلاً، إذ دقت تركيا طبول الحرب على الشريط الحدودي في سري كانيه (رأس العين) وتل أبيض، وهو ما دفع “بصورة فجّة” بانهيار الاتفاق الوليد بالتزامن مع تخلّي واشنطن عن تعهداتها وإدارة ظهرها لـ”روجآفا”.

كيف بدأت القصة؟

في الـ/29/ من تموز/يوليو 2019، أنهى وفد أميركي يترأسه مبعوث واشنطن إلى سوريا، جيمس جيفري، مباحثاته مع مسؤولين أتراك بمقرّ الخارجية التركية في أنقرة حول إنشاء “منطقة آمنة” في شمال شرقي سوريا.

وفي اليوم نفسه، كشف المبعوث الأميركي، جيمس جيفري، النقاب عن جزء من نتائج المباحثات، في إطار طمأنة حلفائه الكرد في سوريا، وقال “إن المباحثات مستمرة.”

المتحدث باسم الرئاسة التركية إبراهيم قالن والمبعوث الأمريكي الخاص إلى سوريا جيمس جيفري – 1 من أيار 2019 – الأناضول

في تلك التصريحات، أعلن جيفري أن العمق المناسب لهذه المنطقة يتراوح بين /5/ و/15/ كم، على أن يتم سحب الأسلحة الثقيلة إلى أبعد من ذلك.

وقال: “المشروع الجديد، يتضمّن أن تديره قوات أميركية وتركية مشتركة”.

لكنه لم يخفي حينها ما وصفه بـ”الموقف التركي المتشدد للغاية”، وعلى الرغم من ذلك شدد على أن بلاده ستواصل المباحثات على مختلف الأصعدة، ومنها المحادثات في الجانب العسكري.

وشابَ المحادثات “بعض الاختلاف في وجهات النظر بين أنقرة وواشنطن”، لكن الجانب الأميركي أعلن عن “عدم التركز عليها كثيراً.”

وعلى العكس من ذلك، أظهر الوفد الأميركي المزيد من المرونة في عمله مع الأتراك في هذه المنطقة.

وقال جيفري: “نحن نريد العمل معهم. هذا الاتفاق هو ما يمكن أن نقدّمه لسكان شمال شرقي سوريا، وهو مهمٌ جداً.”

لكن في شهر آب/أغسطس التالي، بدت الأمور تتجه نحو سيناريو مغاير تماماً، فقد حذرت الولايات المتحدة، في السادس من الشهر نفسه، من قيام تركيا بأي عملية عسكرية أحادية الجانب بمناطق شرق الفرات.

وجاء التحذير الأميركي عشية إعلان الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، أن بلاده ستشن عملية عسكرية ضد وحدات حماية الشعب. “لقد أبلغنا موسكو وواشنطن بخصوصها.” وهو ما أنذر بانهيار المحادثات.

وتلت هذه التصريحات بيومين إعلان وزير الدفاع الأميركي، مارك إسبر، أن بلاده ستمنع أي توغل أحادي الجانب شمالي سوريا، وأن أي عملية تركية هناك “غير مقبولة.”

وتتالت التصريحات من الجانبين في وقت كان فيه فريق جيفري يجري مباحثات مع ممثلي أنقرة بالتزامن مع محادثات جرت بين وفد عسكري أميركي مع مسؤولين أتراك في أنقرة، وكلّها كانت تهدف “للتوصل إلى اتفاق لإقامة منطقة آمنة.”

“تعبيد الطريق للكارثة”

وبعد حالة الشدّ والجذب والتصريحات، ذهبت الأطراف إلى المضي في اتفاق إنشاء منطقة أمنية.

وفي الـ”22″ من آب/أغسطس، حصلت نورث برس على تسجيل مصوّر لاجتماع جرى في ذلك اليوم بين وفد من التحالف الدولي ومسؤولين في المجلسين المدني والعسكري لمدينة سري كانيه.

وأظهر التسجيل ضباطاً من التحالف يناقشون قيادات من قسد حول “الآلية الأمنية” التي كان من المزمع إنشاؤها على الخط الحدودي بين سوريا وتركيا في المنطقة الممتدة بين مدينتي تل أبيض وسري كانيه.

وهدف الاجتماع إلى إطلاع الأطراف المسؤولة في المدينتين على الآلية المزمع إنشاؤها وكيفية ترجمة الخطط “التي كانت تهدف إلى حماية المدنيين من أي غزو تركي.”

وضمَّ الاجتماع مسؤول أمن الحدود من قبل القوات الأميركية والتحالف الدولي، إسكندر ديب “أليكس”، وممثلاً عن الخارجية الأميركية يدعى “جورج”.

كما ضمَّ الجنرال كارل، وهو مسؤول القوات الخاصة الأميركية في سوريا وأحد المفاوضين عن قوات سوريا الديمقراطية مع تركيا.

وعقب الاجتماع بيوم واحد، أعلنت القيادة المركزية الأميركية عبر حسابها على تويتر، أنه “في غضون /24/ ساعة مضت على اتصال هاتفي بين وزير الدفاع الأميركي ونظيره التركي، حول الأمن في شمال شرقي سوريا، قامت قوات سوريا الديمقراطية بتفكيك تحصيناتها”.

جندي من التحالف برفقة مقاتل من سري كانية أثناء تدمير التحصينات – محمد حبش – نورث برس

وبحسب البيان، فقد أثبتت قوات سوريا الديمقراطية بذلك تمسّكها بدعم تطبيق “الآلية الأمنية”، لتبدأ بعدها المرحلة الأولى من الاتفاق.

وفي الـ”24″ من آب/أغسطس، ظهر قائد قوات التحالف الدولي في سوريا ونائب قائد التحالف الدولي ضد تنظيم “الدولة الإسلامية”، نيكولاس بوند، في الاجتماع السنوي العام لقادة تشكيلات قوات سوريا الديمقراطية.

وقال فيه: “أي هجوم عسكري من قبل تركيا على مناطق شمال وشرقي سوريا سيؤثر على العلاقات والاتفاقيات مع أنقرة.”

وشدد على أن “قوات التحالف الدولي ستستمر في دعم قوات سوريا الديمقراطية لإحلال السلام والقضاء على داعش”.

وتزامن الاجتماع مع انسحاب أولى مجموعات وحدات حماية الشعب من الشريط الحدودي مع تركيا، قرب مدينة سري كانيه.

وسحبت الوحدات أسلحتها الثقيلة بالتزامن مع تحليق لطائرات تابعة للتحالف الدولي كانت تراقب عملية انسحاب الوحدات من النقطة الحدودية وتسليمها للقوات المحلية (المجلس العسكري).

وتمت عملية انسحاب الوحدات من نقاطها الحدودية في مدينة تل أبيض أيضاً بعد أن ردمت الأنفاق التي كانت قد جهزتها في وقت سابق على خلفية التهديدات التركية.

ولاحقاً، وصف مراقبون هذه الإجراءات بأنها كانت “لتعبيد الطريق أمام الجيش التركي والفصائل السورية الموالية له” إذ شكّلت هذه النقاط ثغرة لدخول القوات التركية برياً إلى المنطقة أثناء الهجوم.

تقويض لاتفاق هش

بعد هذه الجهود، بدت الأمور تسير نحو الأفضل بالنسبة لسكان المنطقة والقوات المحلية، لا سيما بعد انطلاق أول دورية أميركية-تركية مشتركة في الثامن من أيلول/سبتمبر 2019 شرق مدينة تل أبيض بالتنسيق مع مجلس تل أبيض العسكري.

دورية أميركية تركية أثناء تنفيذ اتفاق المنطقة الأمنة في سري كانية – محمد حبش – نورث برس

وفي هذه الأثناء، بدأت قوة المهام المشتركة لعملية العزم الصلب ضد تنظيم “الدولة الإسلامية” تثني على ما وصفته بـ”أهمية الدور الذي تلعبه قوات سوريا الديمقراطية شمالي سوريا.”

وجاء هذا الثناء إثر حديثٍ للرئيس التركي رجب طيب أردوغان هدد فيه وقتها بأن بلاده ستطلق عملية عسكرية أحادية شمالي سوريا، في حال لم تتمكن قواته من السيطرة على المنطقة الآمنة.

لكن ردود الأفعال التي ظهرت بعد تسيير الدورية المشتركة الأولى أنبأت بأن الاتفاق يمضي قدماً نحو الاستمرار وفسّرت تهديدات أردوغان في إطار التصريحات الإعلامية.

في غضون ذلك، عقدت قيادة التحالف الدولي اجتماعاً مع رئاسة مجلس تل أبيض العسكري ورئاسة الإدارة الذاتية في المدينة في الـ/ 15/ من أيلول/سبتمبر، لبحث آليات التنسيق الأميركي ضمن اتفاقية “الآلية الأمنية”.

وحضر الاجتماع العميد تورنر، نائب قائد القوات الخاصة لعملية العزم الصلب التي يخوضها التحالف الدولي ضدّ تنظيم “الدولة الإسلامية” في العراق وسوريا، والرئاسة المشتركة للإدارة الذاتية بتل أبيض والرئاسة المشتركة لمجلس تل أبيض العسكري.

وسلّط الاجتماع الضوء على آلية عودة اللاجئين في تركيا بحسب اتفاق “الآلية الأمنية”، وأكد على ضرورة أن تكون العودة طوعية.

من جانبه أصدر المتحدث باسم قوة العمليات المشتركة -عملية العزم الصلب، الكولونيل مايلز كاغينس، على هامش الاجتماع، تصريحاً قال فيه إن التحالف يجد نفسه “ملزماً بإنجاح الآلية الأمنية من أجل الشراكة القوية مع قوات سوريا الديمقراطية.”

كما أعلنت روسيل زنارين، الرئيسة المشاركة لمجلس تل أبيض العسكري، التزامهم الكامل ببنود الآلية الأمنية، وقالت: “نتعاون مع المجلس المدني وقوى الأمن الداخلي على تأمين المنطقة لتعزيز استقرارها.”

وفي اليوم التالي، كانت طائرات مروحية مشتركة أميركية-تركية تراقب عملية ردم الأنفاق في القرى الغربية لمدينة سري كانيه استكمالاً للمرحلة الأولى من تنفيذ الاتفاق.

وانسحبت آخر مجموعة لوحدات حماية الشعب من الشريط الحدودي بين سري كانيه وتل أبيض، في الـ/21/ من أيلول/سبتمبر.

وجرت عملية الانسحاب تلك بعد ردم خنادقها في ثلاث نقاط حدودية شرقي تل أبيض لتبدأ عملية تسيير الدورية الأميركية-التركية الثانية في الـ/24/ من الشهر ذاته.

رتل لانسحاب وحدات حماية الشعب من مدينة سري كانية تنفيذا لاتفاق المنطقة الأمنة – محمد حبش – نورث برس

وفي ظل استمرار التهديدات التركية بالهجوم على شرق الفرات، تم تسيير الدورية الثالثة والتي كانت الأخيرة في الرابع من تشرين الأول/أكتوبر، قبيل إعلان أنقرة الحرب بأيام.

وقابلت التهديدات التركية تصريحات لوزارتي الدفاع والخارجية الأميركيتين أكدتا فيها “استمرار عزم واشنطن على الالتزام بالآلية الأمنية” وهو ما لم يحصل على الأرض.

حرب وانسحاب أميركي

يبدو أن الاتفاق الأميركي-التركي لم يسِر وفق إعلان الدولتين، إذ أن تركيا التي كانت ترغب بـ”معالجة مخاوفها” على الحدود، والتي تصفها الأطراف الدولية بـ”المخاوف المشروعة”، قد بدأت هجماتها العسكرية في التاسع من تشرين الأول/أكتوبر بقصف جوي وتوغّل بري.

ولم تستهدف تركيا في ضرباتها هذه “المنطقة الآمنة” فحسب، بل تجاوزتها إلى كل مدن شمال شرقي سوريا المتاخمة للحدود.

وطال القصف مدينة ديرك (المالكية) في أقصى الشمال الشرقي، كما استهدف القصف مدينة قامشلي وبلداتها بالإضافة إلى استهداف مناطق في كوباني.

وتسبّب القصف بـ”جرائم حرب” لم تقتصر على التطهير العرقي من خلال إفراغ مدينتي سري كانيه وتل أبيض من سكانها فحسب، بل تجاوزتها إلى ارتكاب “جرائم ضد الإنسانية واستخدام أسلحة محرمة دولياً” طبقاً لمنظمات طبية.

وأمام فرض تركيا لهذا الواقع، بدت الولايات المتحدة مكتوفة الأيدي بالرغم من أن ممثل خارجتيها والذي يعرف بـ”جورج” قد أعلن ضمان بلاده تنفيذ اتفاق “الآلية الأمنية”، في الـ/22/ من آب/أغسطس الفائت، أثناء “الاجتماع المسرّب” مع قوات سوريا الديمقراطية.

كما أكد مسؤول القوات الخاصة، الجنرال كارل، في الاجتماع نفسه أن “القوات الأميركية ستبقى في المنطقة في حال جلب تركيا لقواتها العسكرية.”

وشدد “كارل” على أن اتفاق “الآلية الأمنية” لا يسمح بدخول تركيا وأن الاتفاق لا يشمل أي خطوة تسمح بالوجود الثابت لتركيا في سوريا، لكن كلَّ ذلك لم يثبت لساعات على أرض الواقع بعد إعلان أنقرة للحرب.

وعلى العكس من تعهدات الضباط الأميركيين، تزامن مع الهجمات التركية التي أعقبت مكالمة هاتفية جرت بين الرئيسين التركي والأميركي في السادس من تشرين الأول/أكتوبر، إعلان قرار انسحاب القوات الأميركية من المناطق الحدودية.

مدرعات أميركية تنسحب من قاعدة صرين في ريف كوباني أثناء الهجوم التركي – نورث برس

وانسحبت القوات الأميركية من نقاطها في قرية تل أرقم (/5/ كم غرب سري كانيه) بعد يومٍ من مكالمة أردوغان وترامب الأمر الذي ولّد حالة من الهلع لدى سكان المدينة التي فرغت من سكانها.

وخلال ساعات، تطور الأمر إلى انسحاب القوات الأميركية من معظم مناطق شمال شرقي سوريا، إذ شهد يوم الـ/21/ من تشرين الأول/أكتوبر خروج أول قافلة للقوات الأميركية من المنطقة باتجاه إقليم كردستان العراق.

وجرى ذلك أيضاً في وقت كان الجنرال كارل قد شدد خلال الاجتماع الذي سرّبته نورث برس حينها على أن “القوات الموجودة في النقاط القريبة من تل أرقم ستبقى في مكانها.”

وأكد على جلب قوات إضافية إلى المنطقة من أجل المساعدة في تسيير الدوريات.

وقال “كارل” خلال الاجتماع أيضاً إن علاقة الولايات المتحدة الأميركية مع قوات سوريا الديمقراطية “مبنيّة على الشفافية والصراحة”، وإن أي صراع كردي-تركي، يعرض موقف الولايات المتحدة من ملفي حفظ الاستقرار والقضاء على تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش) “للخطر.”

وأضاف: “موضوع خروج القوات الأميركية من سوريا لن يكون بالأمر القريب. الإدارة الأميركية بدأت بوضع استراتيجيات جديدة من أجل استمرار محاربة تنظيم داعش.”

لكن استمرار الهجمات التركية لأسبوعين متتالين كان كافياً “للتشكيك” بمدى جديّة مخاوف الولايات المتحدة حيال الحرص على عدم عودة التنظيم.

مدنيون يحتمون بقاعدة التحالف الدولي في خراب عشك التابعة لكوباني قبل انسحاب القوات الاميركية – محمد حبش – نورث برس

وتسبّب قصف الجيش التركي العشوائي وبعد توغله في محيط بلدة عين عيسى بريف الرقة بهروب عدد من عناصر تنظيم داعش.

كما قامت فصائل المعارضة المسلّحة التي شاركت في الهجوم إلى جانب تركيا بإخراج المئات من نساء وأطفال التنظيم من الجنسيات العربية والأجنبية من مخيم عين عيسى وساقتهم إلى أماكن مجهولة وفقاً لمصادر من قوات سوريا الديمقراطية.

وتسبّب الهجوم أيضاً بوقوع مئات الضحايا من المدنيين، ونزوح نحو /300/ ألف شخص من مناطق سري كانيه وتل أبيض، إلى مدينتي حسكة وقامشلي، وذلك بحسب المرصد السوري لحقوق الإنسان ومنظمات محلية.

مدنيون يفرون من القصف التركي على مدينة سري كانية – محمد حبش – نورث برس

ونجم عن القصف التركي تدمير مراكز حيوية كمحطة مياه علّوك ومرافق عامة، بالإضافة إلى عمليات قتل ونهب وتدمير واسعة قامت بها الفصائل المسلّحة التابعة لتركيا بحسب منظمات حقوقية دولية ومحلية.

إعداد: شيروان يوسف – تحرير: حمزة همكي