“أبو الوفا”.. المعتَقَل السابق الذي رفض أن يكون “علوياً” في داريّا

دمشق – نورث برس

اختار أن ندعوه باسمه الحركي أيام الملاحقة الأمنية والعمل السري في سبعينيات القرن الماضي، “أبو الوفا”، اليساري العتيق والذي يكمل في خريف هذا العام “الخامسة والستين خيبة” كما يقول، إلا أنه ما زال يحلم “بانقشاع غيمة الاستبداد والظلم عن وجه هذه البلاد التعيسة.”

يختزل حياته قبل وأثناء وبعد الاعتقال بثلاث عبارات هي كنايةً عن ثلاث مراحل مفصلية: “جنون الطموح” و”وعي الطموح”، والثالثة “اليأس والخيبة”.

هذا التكثيف الشديد لما يزيد عن نصف قرن من الزمن ببضع كلمات يتقنه مدرّس اللغة العربية المخضرم “أبو الوفا”، كما يتقن تماماً تعليم المنهاج المعقّد لطلابه، عبر تقديم قاعدة ميسّرة وبسيطة، ليقينه أن العربية باتت “قديمة ولا تصلح للحياة والتطور” كما يقول.

يسارية “طفولية”

تمثّل تجربته في “النضال” والاعتقال حال آلاف السوريين الذين وهبوا سنوات من أعمارهم لقضية آمنوا بها، قضية وطن تسوده العدالة والمساواة، فكانوا القافلة الأضخم ضمن ضحايا نظام الأسد الذي بطش بعنف مع كل حركة معارضة أو فكر مختلف.

يقول عن هذه التجربة: “كنا نحلم بالديمقراطية، وكان النموذج الشيوعي هو منتهى الحلم حينها، في جانبه الاجتماعي خاصةً، العدل والمساواة.”

لكن هذه الأحلام سرعان ما تبخرت داخل أسوار السجن “أحسستُ بحجم الخطأ الذي ارتكبته بعد الأسبوع الأول لاعتقالي، ليس تحت ضغط التعذيب والتنكيل، وإنما بعد رؤية رفاقي واكتشافي للحقيقة، تحطمت هالة الرموز مرةً واحدة وإلى الأبد أمام عينيّ.”

المعتقًل السابق الذي تنقّل بين مجموعة من أكثر سجون الأسد رعباً، بدءاً بفرع فلسطين، أول محطات “استقبال” المعتقلين، مروراً بسجن المزة، فسجن تدمر سيء الصيت، وصولاً إلى سجن صيدنايا الفظيع، يصف تجربة “النضال” ضمن صفوف رابطة العمل الشيوعي بأنها “يسارية طفولية وطوباوية لا تمت للواقع على الأرض بصلة.”

ويقول: “لم يكن لهذه التجربة حامل أو رافعة على الأرض، كان عملاً سريّاً محصوراً ضمن أطر محددة على عكس تنظيمات السلطة وحلفائها التي كانت تعمل على الأرض عبر جمعيات ومنتديات ومنظمات علنية ومعترَف بها.”

لكن أكثر ما جعل من التجربة بعيدة عن الواقع وفقاً لأبو الوفا هي “حدّة الطرح الذي تبنته الحركة، والهدف المستحيل لنضالها، وهو إسقاط رأس النظام بناءً على أسس غير واقعية.”

لا يحمّل المعتقًل السابق المجتمع أي مسؤولية عما طاله ورفاقه، عبر صمت هذا المجتمع على ما ارتكبه النظام بحق معارضيه، ومن ضمنهم معتقلو حزب العمل الشيوعي، فـ”المسؤولية الأولى والأخيرة تقع على عاتق النظام الذي اعتمد سياسة القمع بوحشية ضد معارضيه، والترهيب والرعب تجاه مجمل الشعب السوري.”

السجّانون.. نموذجان

يتذكّر الشيوعي السابق تجربة الاعتقال بكثيرٍ من الألم، لكنه يعتقد أن بعض مفرداتها، بما فيهم السجّانين، لا تختلف عما نشهده في الحياة خارج السجن “خلال فترة اعتقالي كان ثمّة نموذجان للسجّانين، أحدهما متوحش ومرّوع يستمتع بالتنكيل، والآخر إنساني إلى الحد الذي يمكن أن يُسمح فيه للإنسانية أن تنبت في مكان مماثل.”

ويروي كيف التقى سجّانه “المتوحّش” عقب خروجه من السجن “بعد مرور عامين على خروجي من السجن، وكنت قد عدتُ إلى مهنتي في التدريس في إحدى المدارس الخاصة باللاذقية، جاء السجّان “المتقاعد” لتسجيل ابنته في المدرسة، كنت حاضراً عندما رفض مدير المدرسة تسجيلها بسبب عدم وجود شواغر، إلا أنني تدخلت لثنيه عن قراره، وقبول الفتاة في صفوفي، وهو ما حصل بالفعل.”

لكن المدير “استغرب تدخّلي، وسألني عن السبب، أجبته: على الأقل لن تكون قذرة كوالدها. حينها تعرّف السجّان السابق عليّ، حاول تبرير وحشيته السابقة بأنه كان عبداً مأموراً، مقدّماً اعتذاره عما فعل.”

الحرية.. بدون مقدمات

تسع سنوات، هي المدة التي دفعها “أبو الوفا” من عمره في سجون “النظام”، كان ورفاقه يتوقعون المزيد، لكن قراراً مفاجئاً بالإفراج عنه والعشرات من رفاقه صدر من دون أي مقدمات.

“لم يكن ثمّة مؤشرات توحي باقتراب موعد حريتنا. لا ضابط لسلوك النظام ولا توقعات يمكن استخلاصها.”

خرج من السجن وفوجئ بكم التغيرات التي حدثت خارجه “لم أعرف حتى طريق العودة إلى قريتي.”

ومع قراره النهائي بعدم العودة إلى العمل السياسي، كان خيار السفر وارداً وممكناً، إلا أن عاطفة البقاء مع الأهل تغلبت لديه على قرار السفر.

عاد مدرّس اللغة العربية إلى التدريس، ولم تمضِ سنتان حتى لمع نجمه وأصبح أحد أكثر الأسماء المطلوبة من قبل المدارس الخاصة والمعاهد وطلاب الشهادات في اللاذقية، ولاحقاً في دمشق التي تزوج فيها من شقيقة أحد “الرفاق” وأنجبا ابنتين تقيمان اليوم مع أمهما في هولندا.

لاحقاً، التحق الوالد بعائلته، لكنه لم يستطع إكمال حتى شهر واحد في بلاد اللجوء “لم أستطع الانسجام مع الحياة في تلك البلاد الباردة اجتماعياً.”

قرر العودة إلى اللاذقية ومتابعة العمل في مهنته الشاقة، وأغرق نفسه في ساعات طويلة من العمل علّه يستطيع مواكبة تكاليف المعيشة المرهِقة حد الألم، ونسيان الخطأ الجسيم برفض اللجوء.

استيقاظ الأمل من جديد

مع مرور 21 عاماً على خروجه من المعتقًل، ومن ثم زواجه وتأسيس أسرة وحياة كانت على وشك أن تصبح رتيبة، يتحدّث السجين السياسي السابق عن “عودة الروح واستيقاظ الأمل من جديد” في الخامس عشر من آذار/ مارس 2011، مع خروج أولى المظاهرات ضمن ما عُرف لاحقاً بـ “الربيع العربي” الذي امتد من تونس إلى مصر فالبحرين واليمن وليبيا وسوريا.

يقول: “انتابني شعور لا يوصف، عاد الأمل واعتقدت بأن ما دُفع من أثمان قد يثمر.”

انخرط “الثائر العتيق” في صفوف الثوار الجدد، شارك في العديد من المظاهرات، وتفاعل مع الحدث الكبير.

لكن، “بعد بضعة أشهر انتابتني مشاعر مختلفة، كنت أرقب كيف أن النظام يستدعي المعارضة إلى ساحته عبر السلاح، وقد نجح في ذلك.”

ويروي كيف تمت دعوته لإلقاء خطاب في إحدى الفعاليات الموازية للمظاهرات في مدينة داريا بريف دمشق. وافق، لكن المنظمين أصرّوا على تقديمه للجمهور باعتباره “علوياً”، إلا أنه رفض هذا التصنيف، فرفضوا تقديمه!

ورغم التعويل على “الجيش الحر” في البداية، كونه خرج من جيش النظام، يقول أبو الوفا “إلا أن الآمال سرعان ما تبخرت، مع بدء التدخل الدولي.”


اقرأ ايضاً


واليوم “لن يتغير النظام لعوامل داخلية، وإنما عبر قوة عظمى (أميركا تحديداً) وهذا حلم إبليس في الجنة، فأميركا لن تتدخل، لأن الخدمات التي يقدمها هذا النظام كفيلة ببقائه، كما أن لا قوة بديلة لديها القدرة الكافية للحلول مكانه.” كما يرى أبو الوفا.

المعارض السابق والحالي يعتقد أن الدعم الروسي – الأميركي للنظام متناسق، وقواعد الاشتباك متفق عليها بينهما، حيث يُعلم كل طرف الآخر بتحركاته.”

ويستدل على مدى التنسيق والتفاهم بين القوتين العظيمتين بأنه “لم يحدث في العصر الحديث أن تجاورت قاعدتان عسكريتان روسية وأميركية في بلد واحد، بل في مدينة واحدة إلا في سوريا.”

يقول: “نحن الآن في مرحلة انتظار، ننتظر اتفاق الكبار، النظام تدعمه دولة عظمى وأخرى إقليمية (روسيا وإيران)، والمعارضة ملحقة بدول أخرى.

تقسيم سوريا إلى دويلات غير وارد كما يقرأ أبو الوفا، لأنه “يضر بالقوى الكبرى نفسها.”

ومهما يكن من أمر فإن “أبو الوفا” يتابع حياته اليوم مدرّساً في مدينته اللاذقية لكنه يقول: “أشعر بالحماقة في كل شيء، لكن الحماقة الكبرى هي عودتي من هولندا بالرغم من أنهم خيّروني بين اللجوء السياسي أو الاجتماعي.”

وفي هذا الجحيم السوري الذي يعيش “أبو الوفا” تفاصيله كغيره من السوريين، يعترف بأن “معادل الفرح المتبقي لديّ اليوم هو اتصال من ابنتيّ، والاطمئنان النفسي بأنهما لا تعانيان ما يعانيه السوريون اليوم من ذل وامتهان، إضافة لنجاتهما من القمع الاجتماعي والقهر النفسي الذي تعانيه الفتيات السوريات من مثل عمرهما هنا.”

إعداد وتحرير: رافي طعمة