فقط في مطلع القرن التاسع عشر، باتَ متاحاً حدوث اتصال مباشر بين أفراد من الغرب ورعايا الدولتين العثمانية والقاجارية. فجأةً، انفتحت أبواب الشرق أمام التدقيق المعرفي بعد انقطاع الاتصال الفعلي طيلة قرون، في موازاة اتساع المعرفة النظرية والأدبية عن الشرق المتخيَّل، وفقر في القدرة على اختبار صحة المتداول في الكتب أو الفرضيات الاجتماعية.
كان هذا الانفتاح هو كل ما يحتاجه المؤمنون البروتستانت في المجلس الأميركي للبعثات الخارجية، فتأسست البعثة البروتسانتية في أورميه بشرقي كردستان (في إيران الحالية) في تشرين الثاني/نوفمبر 1835 بجهود أربعة أشخاص، هم الدكتور أساهل غرانت مع زوجته جوديث غامبل، وجستن باركينز مع زوجته تشارلون باس.
قبل وصول هذه البعثة إلى أورميه، كان مبشّران أميركيان قد أصدرا أول كتاب عن النساطرة بعد رحلة قصيرة قاما بها في العام 1830. والبحيرة شكلت على مدى قرون إلهاماً لخيال الفلاحين المحيطين بها، الذين منحوها هيبة أسطورية مدعمة بـ 21 نهراً كان يغذي البحيرة حتى وقت تأسيس البعثة.
يوفر أرشيف الصحف البريطانية للعام 1841، بعضاً من جوانب هذا الخيال، وكيف انعكست الثورة الصناعية في أوروبا على المعرفة الإنسانية. في بعض الأحيان، كان الخيال الرومانسي لدى البحّاثة والمغامرين الغربيين، يغلب الدراسة الميدانية الجادة، مثل فرضية المبشّر الأميركي، أساهيل غرانت، في كتابه «النساطرة أو القبائل المفقودة» «The Nestorians or the Lost Tribes» أن طائفة النساطرة في الشرق هي ذاتها الأسباط اليهودية العشرة التائهة. وقد استعرضت صحف بريطانية، قراءات في الكتاب، من بينها صحيفة «أطلس» في عددها بتاريخ الحادي والعشرين من آب/أغسطس 1841، حيث تحدثت عن الكتاب الجديد أنه يتناول محورين، الأول التعريف بحياة النساطرة وظروفهم وواقع هذا الشعب المحاط بمن وصفتهم الصحيفة بـ«الغزاة الكرد». المحور الثاني هو الإثبات، بالأدلة القاطعة وفق المبشّر الأميركي، أن النساطرة هم ليسوا سوى الأسباط الإسرائيلية العشرة التائهة.
تروي الصحيفة جانباً من نجاحات غرانت، فقد عرض عليه الكرد أن يأتي للعيش بينهم للاستفادة من خدماته الطبية، من دون أن تنسى التبرير للطبيب رفضه مثل هذا العرض، فالكرد مجموعة من قطاع الطرق، وكيف أنهم يقتلون الأبرياء والأثرياء: «ففي حال قام الضحية بالمقاومة يقتلونه، وإذا لم يقاوم يقتلونه أيضاً. يهاجمون المسافرين أينما وجدوهم. هذه هي القبائل التي تحوم حول النساطرة من كل جانب، مثل السحب الموشكة على المطر.»
في مثل هذه البيئة، كان يعمل المبشّر غرانت. وزعمت صحيفة «أطلس» أنه نجا هو وأحد رفاقه بأعجوبة في ماردين، حيث شنَّ الكرد هجوماً وقتلوا المسؤول الحكومي، وعدداً من الوجهاء، وهاجموا محل إقامة الدكتور غرانت.
الواقع أنّ هناك مؤشرات خاطفة على أن الهجمات الكردية في ذلك الوقت استهدفت جوانب من نشاط البعثات التبشيرية بشكل منظم وعنيف. كما دفعت هذه الهجمات إلى تقليص البعثات نشاطها، ومغادرة عدد من المبشّرين مناطق التوتر الكردي-النسطوري.
لقد عمل غرانت، عن وعي، في وضع فرضية والجري وراء إثباتها، وهذه طريقة شائعة وهشة لعدد كبير من التصورات الخاطئة عن ظواهر ومفاهيم معاشة في كافة المجالات. فإثبات الأصول اليهودية للنساطرة يدخل في صلب العقيدة البروتستانتية حول الآخرة ونهاية العالم. يفترض غرانت في كتابه (ص 311-314) أن عودة الأسباط اليهود جزء أساسي من علامات القيامة نهاية هذه الألفية (أي عام 2000)، وهذه العودة تكون بإقناع النساطرة أنهم من الأسباط اليهود.
حقق كتاب غرانت صدى واسعاً في الأوساط البروتسانتية. تعليقاً على الكتاب، أعادت صحيفة تلغراف في سبتمبر من العام 1841، نشر مقالة كتبها مراسل صحيفة الغارديان الاسكتلندية في واشنطن، يسرد فيها ستة أدلة على أن مزاعم غرانت أن النساطرة هم من سلالة القبائل العشرة اليهودية، صحيحة، وتوّج احتفاءه بالقول إنه وأخيراً تم حلُّ لغز القبائل العشرة التي استوطنت «ميديا» ولم تغادرها، على حدِّ تعبيره. ميديا التاريخية هي معظم مساحة كردستان الحالية.
في بداية تأسيس البعثات، اتخذ المبشّرون من أورميه قاعدة لهم، وهي كانت ضمن التبعية القاجارية، حيث أن أورميه منطقة مأهولة دبلوماسياً من قبل القناصل الغربيين والروس عادةً، على عكس الجيب النسطوري الجبلي الواقع في عمق جبال هكاري، الواقعة ضمن التبعية العثمانية. لم يستطع غرانت توسيع حدود نشاطه إلى حيث كان يريد، إلى جبال هكاري، إلا بعد وفاة زوجته عام 1839. التقى هناك بالبطريرك الكبير، مار شمعون، وحصل على موافقة رسمية لافتتاح بعثة في قدشانس، معقل البطريرك النسطوري.
قبل أن يستقر هناك، ضَمِن غرانت موافقة أقوى زعيم كردي في هكاري، وهو نور الله بك. يَرِد اسم هذا الزعيم في عدد من وثائق القنصلية البريطانية في الموصل، خلال الحرب الكردية-التركية الكبرى ضمن الدولة العثمانية، عام 1847، حين تمكّن الجيش أخيراً من تركيع آخر إمارة كردستانية تحدّت المركزية الجديدة في ظل الإصلاحات العثمانية، وذلك بعد أن كانت هذه الإصلاحات معطّلة في كردستان قاطبةً.
تسبب كل من المبشّرين، غرانت وصديقه الآخر باركينز، في إفساد العلاقة المتوازنة بين النساطرة والكرد من خلال تحريضهما النصارى على فكِّ ارتباطهم، اقتصادياً وأمنياً، مع الجماعة الكردية القوية في تلك الأنحاء.
في 24 أبريل 1844، وهو اليوم المؤرَّخ بوفاة غرانت، نشرت صحيفةDumfries and Galloway Standardتحت عنوان «المذبحة النسطورية الثانية»، رسالةً للدكتور غرانت، الذي قدَّم تفاصيل عن وقائع المجزرة التي تعرّض لها النساطرة في آذار/مارس 1844 بحسب تاريخ الرسالة. ومن سردية الرسالة نفهم أن النساطرة تعرّضوا لهجومين وليس هجوم واحد من قبل حاكم الجزيرة، بدرخان بك، الذي كان يحكم المناطق الكردية في سوريا وجنوبي تركيا اليوم. غير أن من المحتمل أيضاً أن المبشّر الأميركي أعاد كتابة مشاهداته حول الهجوم الكردي على النساطرة، في العام السابق، أي 1843، لأن تفاصيل جديدة كانت تتكشف عن هذا الهجوم، حيث كان الأمر محطَّ اهتمام من قبل الأوساط الإعلامية الأوروبية، خصوصاً الدول ذات النفوذ البروتسانتي.
بحسب رواية غرانت، بدأت وقائع الهجوم إثر تعرّض الحاكم الكردي لمنطقة هكاري لاعتداء مسلّح شارك فيه النساطرة، وهاجموه في قصره، فاستنجد نور الله بك بالأمير بدرخان.
إلى هنا يسود الغموض رواية غرانت. هناك جزء لا يريد الكشف عنه حول ما جرى، وهو لماذا شنَّ النساطرة الهجوم على الحاكم؟ ولماذا حشدوا رجالهم مجدداً للهجوم بعد فرار الحاكم؟
الواقع أن هناك إحاطة موسّعة نشرتها صحيفة بريطانية في 23 يناير 1844، أي قبل ثلاثة شهور من نشر الدكتور غرانت شهادته للأحداث، فجاء في صحيفة The Dundee Warder السبب الغامض الذي كان السبب المباشر لأن يشنَّ بدرخان بك ونور الله بك، ذلك الهجوم الدامي، فالبطريرك مار شمعون، وفي حركة غير معهودة منه، تدخّل في عملية هندسة السلطة الكردية في هكاري. فبحسب تقرير الصحيفة التي لم تذكر مصدر روايتها، أو الجهة المرسلة للتفاصيل المترابطة، فإن مار شمعون ساند أحد منافسي زعيم هكاري (الأرجح ضد نور الله بك)، واستولى هذا المنافس الذي دعمه مار شمعون، على الزعامة الكردية، فيما اضطر الحاكم المخلوع إلى الفرار وطلب النجدة من بدرخان بك، في جزيرة بوطان. بحسب رواية الصحيفة، فإن الهجوم الأول دمَّر النساطرة، ونتجَ عنه سبيٌ للنساء واستعباد للأطفال. فثار النساطرة مرةً أخرى لتحرير أسراهم، لكن «المذبحة الثانية» كانت أشد هولاً.
يظهر أن الحملتين، الأولى والثانية، كانتا على فترة متقاربة، ضمن عام 1843. غير أن التفاصيل كانت شحيحة وتصل تباعاً. وليس مستبعداً أن الدكتور غرانت هو من حرّض البطريرك النسطوري على دخول لعبة السلطة الكردية، لأن مثل هذا الأمر غير مسبوق طيلة فترة التعايش الكردي-النسطوري. وبالفعل، هناك اتجاه دعم هذا التفسير. ألقت صحيفة The Dundee Warder باللوم على التنافس المسيحي التبشيري في تفجّر هذه الأحداث، واستغلال بعض المبشّرين موقعهم من أجل تسعير الخلافات. لا تتوقف الصحيفة عند هذا الحد، بل تسرد وقائع لم تكن معروفة كردياً ولا على مستوى ما علق في التاريخ المدوّن أو الشفاهي، من البيئة المضطربة التي سبقت انهيار العلاقات النسطورية-الكردية بهذا الحجم لأول مرة منذ قرون. فبينما كان الدكتور غرانت، البروتستانتي، يجول بين النساطرة، الذين يتبعون الأرثوذكسية، تسللت بعثة تابعة لرهبنة الدومينيكان الكاثوليكية، الفرنسية، إلى جبال هكاري وأورميه، وتتبعت خطى المبشّرين البروتسانت، وقامت هذه البعثة الكاثوليكية بـ«حثِّ النساطرة على اعتناق فساد روما، والخضوع لسيادة البابا» على حدِّ تعبير الصحيفة البريطانية. ثم تزدحم الصورة أكثر حين يظهر مبشّر بريطاني، يدعى بادجر Badger، تابع لأسقفية كانتربري الإنجيلية البروتستانتية، ويحاول هو الآخر تسيّد المشهد بين النساطرة، مستخدماً علاقاته المميزة مع القنصل البريطاني في الموصل.
لم تظهر تفاصيل عن مدرسة التبشير التي دفعت البطريرك إلى التمرّد على هرم السلطة الكردية في هكاري، التي تقطنها أقوى القبائل الكردية منذ أن رفدت هذه المنطقة الجبلية جيوش صلاح الدين الأيوبي بأقوى الفرسان. فالبعثات التبشيرية الثلاثة اخترقت نفوذه بقوة، والمُرجّح أنه شعر بنوعٍ من الحصانة الوهمية نتيجة الوعود المنهالة عليه من قبل الإرساليات الثلاثة، الفرنسية والبريطانية والأميركية.
توفي الدكتور غرانت في الموصل، عام 1844، بعد فترة قصيرة من النهاية المبكّرة لمشروع «الفتح البروتستانتي» في كردستان. لكن البعثة نفسها، بقيادة المبشّر الآخر، باركيز، قادت حملة تحريض كبيرة، وحشدت لهذا الغرض كافة الأصوات المسيحية داخل أوروبا وأميركا فضلاً عن النخبة الأرمنية في إسطنبول. تُوِّج هذا الحشد بحملة كبيرة شنّها الجيش العثماني عام 1847 على إمارة بوطان، وتمت الإطاحة بالزعيم الكردي بدرخان بك، وحلفائه. ومن هذا الحدث كتب المبشّر الأميركي، جستن باركيز: «إن الرب قد فتح الآن الجبال الكردية أمام الإنجيل». لكن، رغم هذه الهزيمة، لم تعد كردستان وأرمينيا منطقتين آمنتين للمبشّرين.
لقد رفدت هذه الأحلام الطوباوية المسارات الدافعة لانهيار التعايش في هذه المنطقة، بين المسلمين والمسيحيين، وبين الطوائف المسيحية ذاتها التي تفككت بشكل غير مسبوق.
واقع الحال أن هذه الرؤى الحالمة الإنجيلية التبشيرية ما زالت تحوم، من حين لآخر، حول ميديا القديمة.