حينما أشعلت مخابرات دمشق “الفتنة” في السويداء (2)
السويداء – نورث برس
ظهور شخصية “البلعوس” في السويداء اكتسب طابعاً فريداً من نوعه في عموم سوريا، خصوصاً أن المحافظة بدت بعده خارجة عن سيطرة حكومة دمشق، ذلك بالرغم من بقاء جميع مؤسسات الدولة على رأس عملها.
ولكن الأجهزة الأمنية شعرت بـ”الشلل” نتيجة تعاظم شعبية حركة رجال الكرامة، فلم يعد بإمكان تلك الأجهزة أن “تقتحم منزلاً أو تحتجز مطلوباً لأي سبب كان.” وفق ما ذكرت مصار مطلعة في السويداء.
وتذهب المصادر إلى أكثر من ذلك إذ لم تتمكن القوات الإيرانية أو حزب الله من اختراق المجتمع، ولم يعد بمقدورهم “تمرير شحنات المخدرات التي كان حزب الله يعمل على تمريرها من أراضي السويداء باتجاه الأردن ودول الخليج العربي.”
هذا الأمر زاد من النقمة على الشيخ وحيد البلعوس وكل عناصر وقيادات حركة رجال الكرامة، حتى “تمت تصفيته إلى جانب عدد من رفاقه بطريقة مدروسة وبإحكام شديدين.”
اغتيال وتفجيرات دموية
في ظهيرة يوم الجمعة الرابع من أيلول/سبتمبر 2015، توجه موكب الشيخ البلعوس إلى بلدة سالي، في الريف الشرقي لمحافظة السويداء، في زيارة تفقدية لـ”مجموعة قائد البيرق”.
وعند منطقة عين المرج على طريق ظهر الجبل، كان بانتظاره سيارة بيك آب بيضاء اللون تعمدت الوقوف في الجانب الأيمن للطريق، وما أن وصل موكب الشيخ إلى موازاتها حتى انفجرت وأنهت حياته وحياة ثلاثة شبان كانوا يرافقونه بالإضافة إلى إصابة آخرين.
ويتحدث سكان المنطقة عن أن دويّ الانفجار سمع إلى مسافة عدة كيلومترات من هوله وضخامته.
كما أحدث التفجير حفرة في الطريق المعبد بعمق ثلاثة أمتار تقريباً، في وقت تعرضت سيارة “البلعوس” لصهر شبه كامل.
وتعرض الموكب أيضاً لإطلاق نار كثيف من مجموعة كانت تمركزت بالقرب من مكان الانفجار، “كي يتأكدوا من أن عملية الاغتيال قد تمّت، وللقضاء على أكبر عدد من مرافقي الشيخ.”
وأصيب في التفجير رأفت البلعوس شقيق الشيخ وحيد بشظية في فكّه الأيمن، وأصابت رصاصة رقبته، حيث كان يستقل سيارة كانت تسير خلف سيارة الشيخ وحيد.
اقرأ ايضا: حينما أشعلت مخابرات دمشق “الفتنة” في السويداء (1)
وكذلك أصيب ولدا الشيخ وحيد، فهد وليث البلعوس، إلى جانب مقتل عدد من أفراد الموكب.
ولدى إسعاف الجرحى إلى المشفى الوطني في مدينة السويداء، وتجمع المئات من الأهالي وعناصر حركة رجال الكرامة، أي بعد مضي نصف ساعة من عملية الاغتيال، انفجرت عدة عبوات ناسفة كانت موضوعة بسيارات مركونة أمام مدخل المشفى الوطني.
وأدت سلسلة التفجيرات إلى مقتل العشرات من الأهالي الذين تجمعوا أمام المشفى الوطني.
وفي حمأة هذه الأحداث تعالت أصوات محتجين نددت بأجهزة الأمن العسكري وحملتها مسؤولية التفجيرات.
في ذلك اليوم وقف أحد الشبان “المشايخ” على مكان مرتفع في ساحة المشفى وصرخ قائلاً “لقد شاهدنا سيارات الأمن العسكري تراقب الطريق.”
وبعد أربعة أيام من التفجيرات تم تشييع جثمان الشيخ وحيد البلعوس مع جثامين العشرات من الضحايا المدنيين، في الملعب البلدي في المدينة بحضور جماهيري قُدّر بعشرات الآلاف.
هجمات وإسقاط تمثال
في ليلة الاغتيال والتفجيرات، توجهت أصابع الاتهام لأجهزة المخابرات، ويرى مطلعون على تفاصيل تلك المرحلة أن ذلك “كان متوقعاً للقضاء على حركة رجال الكرامة ومؤسِسها الشيخ وحيد البلعوس.”
وهاجمت مجموعات من الحركة المقرات الأمنية وأطلقت النار على عناصرها، ولكن “النظام” كان قد استعد لخطوة من هذا القبيل، وقام بإفراغ المقرات الأمنية من العناصر.
كما هاجم مسلحون من الحركة مبنى المحافظة وسط السويداء، لكنه كان خالياً باستثناء حارس كان على الباب الرئيسي، ولقي مصرعه أثناء مداهمة المبنى.
وتوجهت مجموعة مسلحة إلى ساحة الأسد في المدينة، حيث تمثال الرئيس السابق حافظ الأسد.
وقام شبان حركة رجال الكرامة بإسقاط التمثال، وعمدوا إلى جرّه خارج الساحة ورميه على أطرافها بالقرب من حاوية قمامة، وتم تغيير اسم الساحة إلى ساحة الكرامة.
فبركة الجريمة وسخرية
لم يتمكن معظم سكان السويداء من النوم، فقد كانت أصوات إطلاق النار تُسمع حتى وقت متأخر من الليل، خصوصاً أن “حجم الجريمة كان مؤلماً للغاية.”
وفي صبيحة اليوم التالي كان الاستنفار الأمني شديداً في كل أرجاء المحافظة من الفصائل المحلية، مع غياب كامل للسلطة والدوائر الحكومية والأجهزة الأمنية.
في ذلك اليوم بدأ الترويج لرواية نشرتها الأجهزة الأمنية مفادها أنه تم “كشفت خفايا العمل الإرهابي، وألقي القبض على الفاعل.”
لكن حالة الغليان كانت كبيرة جداً في الشارع، وكانت النقمة شديدة على “النظام وأجهزته الأمنية، واستنفر أبناء الطائفة الدرزية في كل أنحاء البلاد، وكذلك تلقى وجهاء الطائفة اتصالات من دروز لبنان عبروا فيها عن “استعدادهم للحضور إلى السويداء والوقوف مع أهلهم”، وكذلك الحال فعل دروز الجولان وفلسطين الذين “عبروا عن استيائهم من تلك التفجيرات.”
لذلك كان على الأجهزة الأمنية أن يجدوا “كبشاً أو قرباناً لتقديمه على أنه الفاعل والعمل على تبرئة أنفسهم من تلك الجريمة.”
وظهر على التلفزيون الرسمي شخص يُدعى “وافد أبو ترابة”، كان مختفياً عن الأنظار منذ فترة قبل ظهوره لاتهامه بعلاقته مع “الجيش الحر”، حيث قيل حينها إنه سافر إلى الأردن ومن ثم إلى تركيا، ليظهر فجأة على الإعلام الرسمي.
وقدم “أبو ترابة” اعترافات أقرّ فيها بأنه المخطط والمدبر والفاعل “للتفجيرين الإرهابيين”.
وأنه قام بالتنسيق مع المعارضة السورية في الخارج للقضاء على الشيخ وحيد البلعوس وحركة رجال الكرامة، بهدف “السيطرة على محافظة السويداء بعد طرد النظام منها.”
لكن الشارع المحلي في السويداء تلقف هذه الاعترافات بـ”سخرية ولم يقتنع بها أحد”، ولكن السكان قرروا التهدئة وعدم مواجهة “النظام”، لأن الثمن هو “البراميل المتفجرة التي كان النظام يهدد بها دائماً.”
وجاء قرار التهدئة على اعتبار أن حركة رجال الكرامة تلقت “ضربة موجعة، لا سيما أن معظم قادة الحركة أصيبوا خلال التفجيرين، كما أن شقيق الشيخ وحيد البلعوس، الشيخ رأفت البلعوس قد أصيب إصابة بليغة، ولم يكن قادراً على إبداء أي تصرف حينها.”
عائلة في قفص الاتهام
ضمن استكمال مخطط “النظام” وأجهزته الأمنية للقضاء على حركة رجال الكرامة كاملة، قام عناصر مجهولون بخطف شبلي جنود، أمين فرع حزب البعث، ورئيس اللجنة الأمنية حينها.
وجرت عملية الخطف بعد نحو 20 يوماً من التفجيرات، وعلى الفور توجهت أصابع الاتهام لعائلة البلعوس ورجال الكرامة، خاصة الأجهزة الأمنية كانت تستخدم “جنود” في إيصال رسائلها إلى السكان عموماً و إلى حركة رجال الكرامة خصوصاً.
ولذلك لم يكن شبلي جنود يتمتع بسمعة جيدة لدى رجال الحركة، فاستغل “النظام هذا الأمر، وقام بخطف الرجل من أمام منزل ابنته جنوب المدينة باتجاه بلدة الرحى.”
وأشاعت الأجهزة الأمنية بأن شبلي جنود موجود في بلدة المزرعة حيث عائلة البلعوس، وذلك “انتقاماً من العائلة والشيخ وحيد البلعوس ورفاقه.”
واستغل “النظام” حينها وجود مجموعة اسمها مجموعة “لونا”، برئاسة كمال جنود، وهذه المجموعة كانت تُعتبر من الفصائل الرديفة لحكومة دمشق.
وأرسل “جنود” هذه المجموعة إلى بلدة المزرعة للبحث عن شبلي جنود، وكان “هدف النظام من إرسال المجموعة هو للاشتباك مع مجموعات حركة رجال الكرامة الموجودين في بلدة المزرعة.”
وكان الهدف أيضاً “زرع الفتنة” في النسيج الاجتماعي لسكان الجبل، ولكن “محاولاتهم بائت بالفشل.”
ولم يتعرض لمجموعة “لونا” أحد من رجال الشيخ البلعوس، “منعاً للفتنة والاقتتال الداخلي، وخرجوا من بلدة المزرعة خائبين.”
“إجبار شاهد على الإعتراف“
إمعاناً من “النظام” في زرع الفتنة بالسويداء، ولكي “يُثبت عملية” خطف أمين فرع حزب البعث، من قِبَل مجموعة رجال الكرامة، قامت الأجهزة الأمنية باعتقال الطبيب عاطف ملاك، من أمام عيادته في شارع البلدية، “وإجباره على الاعتراف بأنه قد عاين شبلي جنود الذي كان يعاني من مرض شديد.”
وزعمت الأجهزة الأمنية إنها حصلت على تسجيل لمكالمة هاتفية بين الطبيب عاطف ملاك، والشيخ رأفت البلعوس يطلب منه معاينة شخص مريض لديه.
وفي مكالمة ثانية بحسب زعم أجهزة المخابرات فإن الطبيب “ملاك” قال للشيخ رأفت إن “المريض بحالة حرجة ويجب نقله إلى العناية المركزة المشددة لأن المريض دخل في غيبوبة.”
وبعد إلقاء القبض على الطبيب تم “إجباره على الاعتراف بأنه قد عاين شبلي جنود في منزل البلعوس، ليتم بعدها تحويل الملف إلى القضاء، وأصبح الشيخ رأفت البلعوس مطلوباً لمحكمة الجنايات.”
وتم اعتقال الطبيب عاطف ملاك لمدة تجاوزت العام، ليخرج بعدها من الاعتقال مريضاً، ولم يستطع الكلام بعد الإفراج عنه، لفارق الحياة متأثراً بمرض السرطان الذي أصيب به فترة الاعتقال.
ولا تزال القضية ضد الشيخ رأفت البلعوس في القضاء، بالرغم من رفض عائلة شبلي جنود الادعاء الشخصي ضد أحد لعدم توافر الأدلة لديهم.
وطالبت عائلة “جنود” الحكومة بضرورة إعادة “شبلي” حياً أو ميتاً. وإلى اليوم لا يزال ملفه عالقاً باعتباره “مُغَيَب”.
رجال الكرامة ولملمة الجراح
بعد مضي شهرين على حادثة، تم الإعلان في بلدة المزرعة، وأمام حشد كبير، من مجموعات رجال الكرامة عن تنصيب الشيخ رأفت البلعوس كقائد لحركة رجال الكرامة.
لكن الحركة لم تقم بأي عمل سوى لملمة الجراح، والمطالبة بالثأر “للشهداء ومؤسس الحركة الشيخ وحيد البلعوس.”
ومع رفض الشيخ رأفت القيام بأي عمل ضد مؤسسات الدولة، حتى “لا يكون أي عمل ضدها، ذريعة للبطش بمحافظة السويداء، خاصة مع غياب أي دعم للحركة على كل المستويات الداخلية والخارجية.” بحسب مقربين من الشيخ.
ومع تأزم الوضع الصحي للشيخ رأفت البلعوس نتيجة إصابته بتفجير ظهر الجبل، قرر التنحي، وتسليم الشيخ أبو حسن يحيى الحجار قيادة الحركة، حيث كان الشيخ الحجار من مؤسسي الحركة مع الشيخ البلعوس، ومن أبرز مرافقيه، وقائداً لأحد بيارق الحركة البارزين. وتبدأ بعد ذلك مرحلة جديدة.