حينما أشعلت مخابرات دمشق “الفتنة” في السويداء (1)

السويداء – نورث برس

مع بداية العام 2011، اتخذت الأحداث في سوريا شكلها نحو التصعيد، على عكس ما كان يُشاع بأن “الأزمة” سوف تنتهي قريباً.

وفي خضم هذا الواقع بدا الدروز في السويداء جنوبي البلاد يتحسسون خطورة القادم، خصوصاً أنهم يعيشون في منطقة يسودها التوتر والاضطرابات منذ عقود طويلة تعود إلى ما قبل استقلال سوريا كدولة.

واعتبر الدروز أن الذي بدأ في سوريا هو محنة، وعليهم الاستعداد للقادم المجهول، خاصة مع تطور الصراع وظهور السلاح والحشد الدولي لأطراف الصراع، وبروز تهديدات وجودية لمناطق بأكملها.

في البداية بدأوا بتشكيل مجموعات من رجال الدين، بهدف “حماية المجتمع والأرض” في حال حدوث هجوم من جهة ما، وكان مشايخ/رجال الكرامة من بين تلك المجموعات وأبرزها.

كيف بدأت القصة؟

في مطلع العام 2014، تعرض نورس سلام وهو من مشايخ الطائفة للاعتقال على يد مخابرات الأمن العسكري، بتهمة أنه حداد ويقوم بتصفيح سيارات وتجهيزها كي تحمل سلاح الدوشكا، وتم اعتقاله من محله في المنطقة الصناعية في مدينة السويداء.

حادثة الاعتقال هذه أدت إلى تجمع مجموعات المشايخ وقيامهم بالتهديد بمهاجمة فرع الأمن العسكري.

ومع هذا التجمع لم يكن أمام رئيس فرع الأمن العسكري حينها، العميد وفيق ناصر إلا “الاستجابة فوراً” وإطلاق سراح الشيخ “سلام” وإحضاره لمقر دار الطائفة “عين الزمان.”

ولم يكن حينها قد ظهرت أي بوادر لتشكيلات مسلحة منظمة تحت أية تسميات، لكن لمع اسم الشيخ وحيد البلعوس في ذلك اليوم، خصوصاً عندما تم حمله على الأكتاف وبدأ بالمطالبة برحيل العميد وفيق ناصر عن المدينة.

وبحسب مصادر مطلعة كان اعتقال الشيخ الحداد رداً من وفيق ناصر على ملاسنة جرت بينه وبين الشيخ وحيد البلعوس قبل ذلك بأيام.

وجرى ذلك حين طالب وفيق ناصر بنزع سلاح المشايخ، فواجهه “البلعوس” بالرفض، وقال “يجب أن يبقى السلاح معنا للحماية وهو غير موجه ضد الدولة.”

وجاءت خطوة اعتقال “الحداد” كنوع من التضييق عليه، وهنا جاء رد البلعوس بالمطالبة بالإفراج عنه تحت التهديد بمهاجمة فرع الأمن العسكري، وشكل ذلك التوجه بداية لظهور قوة رجال الكرامة وبداية تحديهم لقوى الأمن.

في العام ذاته وبتاريخ 16/8/2014، حصلت معركة داما في الريف الغربي لمحافظة السويداء، والتي دارت فيها مواجهات حقيقية إثر هجوم من جبهة النصرة على بلدة دير داما وقصف قرية داما بقذائف هاون.

وسقط في تلك المواجهات العشرات من القتلى والجرحى الدروز، وسميت تلك المعركة “بمعركة الكرامة.”

وأطلق لقب “رجال الكرامة” على الفصائل التي شاركت في المواجهات، ومن بين الضحايا كان شقيق الشيخ وحيد البلعوس.

وأثناء تشييع ضحايا معركة داما في الملعب البلدي في مدينة السويداء، ظهر الشيخ “البلعوس” كقائد لرجال الكرامة، وأطلق تصريحاً علنياً “خارجاً عن عباءة السلطة وخارج التصنيف السائد (موالي/معارض).”

وأعلن حينها أن ما يهمه هو “أمن السويداء وحمايتها دون التبعية لأحد”، وبدا واضحاً من حيث اتهامه “للأمن” بالتسبب باندلاع المعركة.

وكان ذلك الموقف وقتها بنظر السلطة تحدياً لها، وخروجاً عن سياستها التي “تطلب التأييد الأعمى.”

في مواجهة المخابرات

اعتبر الشيخ وحيد البلعوس، أن “الغدر” من الجهات الأمنية كان واضحاً في معركة داما، وردد حينها مراراً بأن الجهات الأمنية هي التي سهّلت دخول جبهة النصرة إلى بلدة دير داما.

واتهم وفيق ناصر بأنه “يقود حملة ممنهجة لتفتيت محافظة السويداء من الداخل، ويحاول زرع الفتنة بين محافظتي درعا والسويداء”، حيث كان “ناصر” مسؤولاً أمنياً في المخابرات العسكرية عن المحافظتين الجارتين.

وبعد هذه الأحداث برز البلعوس “كقوة لمواجهة الأجهزة الأمنية”، ورافضاً لسيطرتها وقمعها، بالإضافة إلى إسقاط ذلك الخطاب على عموم الأحداث في سوريا بموقفه المعارض لتصرفات وسلوك الأمن في سوريا عامةً ورفضه للحل الأمني المتبع.

وبالإضافة إلى ذلك اعتبرت حركة رجال الكرامة أن الالتحاق بالخدمة الإلزامية والجيش، هو قرار شخصي لكل فرد.

لكنها رفضت سوق الشباب بالقوة، كما رفضت محاولات تجنيد أبناء السويداء في مواجهة “إخوتهم في الوطن.”

وأصبحت الحركة ملاذاً لكل فرد يرفض الالتحاق بالجيش، وعند توقيف أي شخص بقصد إلحاقه بالخدمة العسكرية، وفي أي مكان ضمن المحافظة، كانت تستنفر وتحتجز عناصر للنظام بهدف الضغط عليه للإفراج عن الشخص الموقوف.

وعلى خلفية المستجدات بات الوضع آمناً بالنسبة “للشباب المطلوبين داخل المحافظة، وبات بإمكانهم التحرك دون خوف.” طبقاً لمصادر ناشطة في المدينة.

وفي ذلك الحين بات الانتساب لرجال الكرامة غير مقتصر على المشايخ فقط بل أصبح بإمكان أي شخص الانتماء للجماعة، فاحتوت الكثيرين من الرافضين للخدمة العسكرية.

القمح “خط أحمر”

رفض الشيخ وحيد البلعوس إخراج القمح الذي تتم زراعته في السويداء، إلى خارج المحافظة، وطلب من المزارعين عدم بيع محاصيلهم للصوامع الحكومية.

وردد مراراً تصريحاً أشتهر به “القمح خط أحمر، وسياسة التجويع تأتي من تفريغ السويداء من مخزونها الغذائي.”

 وشدَّد على ضرورة المحافظة على القمح والشعير، وملاحقة أي سيارة تُخرج القمح من المحافظة.

ودعا السكان للاهتمام بالزراعة وزراعة القمح خاصةً “استشعاراً منه للخوف من قطع السلطة لطريق دمشق عن محافظة السويداء في حال قررت معاقبة المحافظة أو محاصرتها.”

تطورات وخطاب جديد

في الذكرى الثالثة والثلاثين لرحيل القائد العام للثورة السورية الكبرى،26/3/2015، توجه رجال الكرامة إلى بلدة القريا، مسقط رأس سلطان باشا الأطرش.

وعند ضريح الأطرش، ألقى الشيخ “البلعوس” خطاباً وصف بـ”النوعي”، تطرق فيه للمرة الأولى للشأن العام السوري بشكل واضح، وتحدث عن العلاقة مع محافظة درعا، مما اعتبره متابعون بأنه “تطور في خطاب حركة رجال الكرامة”، وأبرز ما جاء في خطابه:

• سوريا بكل ألوانها هي، صالح العلي وإبراهيم هنانو وحسن الخراط وسلطان الأطرش وفارس الخوري.

• جبل العرب والسويداء، صورة مصغرة عن كل سوريا، ففيهما من كل الألوان، ويعيش فيهما المسلم والمسيحي، وليس فيهما طوائف.

• محافظة السويداء احتضنت ضيوفها النازحين من كل أنحاء سوريا، فأتاها المسلم السني كما أتاها المسلم الشيعي ولم تغلق الباب بوجه أحد.

• إن الدماء التي تُراق على الأرض السورية نحن أبرياء منها وليس لنا يد فيها، ولم يشاورنا أحد بما يجري، فأراده الأعداء صراعاً ” سنياً شيعياً”، وهي ليست معركتنا، ولو لم تكن كذلك لكنّا نتشرّف بأن نقاتل أعداء الوطن في الرقة ونستشهد في دير الزور.

• ندعو ومن هذا المكان المقدّس كل السوريين أن يعودوا إلى رشدهم، وندعو لعقد مؤتمر وطني لكل السوريين وعلى هذه الأرض السورية المباركة، وليكن مقر هذا المؤتمر هو هذا المكان، وفاءً لقادة التحرير والاستقلال.

• سمعنا كلاماً من أهل حوران الشرفاء بعدم التعرض للجبل، ولكن نريد أن يُقرنوا الأقوال بالأفعال، وإثبات حُسن النوايا وإطلاق سراح المخطوفين لديهم وعدم السماح للمسيئين بزرع الفتنة بين السهل والجبل.

ودعا إلى ضرورة إطلاق سراح المخطوفين من أهالي السويداء لدى محافظة درعا، والذين تم خطفهم في العام 2013، وكانوا سبعة عشر شخصاً وعلى رأسهم الوجيه الاجتماعي جمال عزالدين الحلبي، حيث تبين في وقت لاحق بأنه قد تمت تصفيتهم جميعاً، وقد تم إحضار جثامين أربعة أشخاص منهم في عملية تبادل جرت بين السويداء ودرعا في منتصف العام 2015.

وتصاعدت عمليات الخطف والخطف المُقابل بين السهل والجبل، وتستمر حتى الآن وكادت هذه الممارسات تشعل الفتنة بين المحافظتين الجارتين في أكثر من مناسبة.

إزالة حاجز “الجوية”

في هذه الأثناء وضعت المخابرات الجوية حاجزاً في المدخل الغربي لمدينة السويداء، وعلى الطريق الواصل بين مدينة السويداء وبلدة المزرعة (منزل الشيخ البلعوس ومقر حركة رجال الكرامة).

وعمد هذا الحاجز القيام بمضايقات للسيارات والحافلات الداخلة لمدينة السويداء والخارجة منها إلى الريف الغربي للمحافظة.

وأثارت هذه الممارسات استياءً شديداً لدى السكان، وكانوا قد أبلغوا الشيخ وحيد البلعوس مراراً بهذه المضايقات.

في غضون ذلك كان “البلعوس” يُرسل “تهديدات وتحذيرات للقوى الأمنية لعدم تكرار تلك المضايقات، ولكن دون جدوى.”

وهو ما أدى إلى إرسال الشيخ البلعوس مجموعة من حركة رجال الكرامة لمهاجمة الحاجز، وقامت بطرد العناصر منه، وحطمت كل الحاجز من غرف اسمنتية وغيرها.

وأثار الهجوم استياءً شديداً للنظام دفعه لإرسال رسائل تهديد للبلعوس بحسب مصادر مقربة من الشيخ.

وزارت عدة وفود وساطة منزل البلعوس، حيث أطلق بحضورهم مواقفاً وصفت بـ”الحازمة” تجاه السلطة. هدد خلالها بالانقلاب عليها ومهاجمتها في حال تمادت أكثر.

وبعد أيام قليلة حشدت السلطات باتجاه إعادة الحاجز وجمعت عدداً من مواليها عند الحاجز ومن بينهم بعض رجال الدين الموالين لها ومسلحين من لجان شعبية تابعة لها ومن الدفاع الوطني.

وتمكنت من إعادة النقطة العسكرية التي كانت تديره، في حين رد البلعوس وقتها بأنه لن يتحرك كي لا يريق الدماء وخاصة “أنها دماء أبناء المحافظة” وإن كانوا سيقفون مع السلطة ضده، خاصة وأن وعوداً وصلت إليه “بعدم تكرار المضايقات من قبل الحاجز.”

“مملوك” في السويداء 

بعد إزالة الحاجز، وكسر هيبة السلطات الأمنية على الرغم من إعادته لكن بحضورٍ أقل وبوعود بألا يتعرض الحاجز لأحد، حضر إلى السويداء اللواء علي مملوك رئيس مكتب الأمن الوطني واجتمع مع القادة الأمنيين والحزبيين في المحافظة.

وقرر الاجتماع أن حالة التمرد للبلعوس كما أسماها “مملوك” يجب أن تنتهي وبأي شكل.

وعندما علم الشيخ البلعوس بما جرى في الاجتماع، وبعد حضور المئات من مؤيديه إلى منزله في بلدة المزرعة وعبروا عن تأييدهم له ولمواقفه مع حركة رجال الكرامة.

وقالت مصادر حضرت ذلك اليوم إن “البلعوس” خطب في ذلك الجمع بأسلوب تصعيدي ضد “النظام”، وقال: “لقد علمنا قراركم بتصفيتنا.”

وحمّل في خطابه “رأس النظام بشكل مباشر كل المشاكل التي حدثت وتحدث في كل أنحاء البلاد.”

وأتهم “النظام” بأنه السبب فيما وصل إليه البلد إلى “الحالة الكارثية” التي هي عليها اليوم.

وأعلن أنه “لن يتراجع عن أيٍّ من مواقفه”، وقال حينها الجملة التي اشتهرت عنه “إما فوق الأرض بكرامة أو تحت الأرض بكرامة.”

في ظهر يوم الجمعة الرابع من أيلول/سبتمبر 2015، توجه موكب الشيخ البلعوس إلى قرية سالي، في الريف الشرقي لمحافظة السويداء، قاصداً زيارة إحدى المجموعات التابعة للحركة.

وعند منطقة عين المرج على طريق ظهر الجبل، كان هناك سيارة بيك آب واقفة إلى الجانب الأيمن للطريق، وما إن وصل موكب الشيخ البلعوس إلى السيارة حتى انفجرت وأنهت حياة الشيخ وعدداً من رفاقه.

إعداد: خالد معروف – تحرير: حمزة همكي