على نحوٍ غير متوقع، بدأ وزير الخارجية الأميركي، مايك بومبيو، منذ الأسبوع الماضي، يتصرف كوزير خارجية في إدارة جو بايدن، والمقياس هنا ليس شيئاً آخر سوى تركيا.
غير أن الركون إلى هذا التفسير يحجب الدافع وراء هذا التغير، فبومبيو من أكثر الوزراء المخلصين لترامب، وليس من الوارد أن يكون له مكان في الإدارة القادمة، وليس معنياً بتسهيل مهامها المقبلة عبر استباق سياساتها المتوقعة نظرياً تجاه تركيا. على أن انقلاب بومبيو على تركيا يستدعي الحذر من قبل أولئك الذين ينتظرون تغييراً كبيراً.
بعيداً عن “الدَجَل” التحليلي، المنتشر عربياً، في تقديم نسخة مزورة من الموقف الأميركي تجاه الملفات المتداخلة مع تركيا، حيث يتم تصوير الأمر وكأن الولايات المتحدة دولة مسيحية في النهاية، وأن تركيا دولة مسلمة في النهاية وداعمة للحركات الجهادية، وأن مهاجمة مسلحين موالين لتركيا كنيسةً، واعتلاء أحدهم سطحها ورفع الأذان، أو قلع جرس الكنيسة، هي أفعال ستدفع الولايات المتحدة لتصل إلى نقطة نفاد صبرها تجاه تركيا.
دائما كان أحد أنواع التحليلات المضللة تنتظر، بشيء من اليقين، التحول الأميركي لتأديب تركيا. حين تم إعادة افتتاح آيا صوفيا كمسجد، وكما كان متوقعاً، لم تظهر أي احتجاجات دولية حقيقية على الخطوة التركية التي لم تكن ستأتي لولا ضمانها صمت الجميع، بما في ذلك الشخص الذي يطرح نفسه زعيماً في بعض أيام الآحاد، للأرثوذكس، فلاديمير بوتين.
الأمر نفسه ينطبق على نوع من الدجل التحليلي تجاه علاقات روسيا وتركيا. ولم يهتز هذا “اليقين الزائف” حتى بعد تفرج روسيا على الجهاديين المرتزقة السوريين وهم يتوغلون في جبال قره باغ الوعرة لمواجهة القوات الأرمنية المنسحبة.
مع حرب قره باغ الأخيرة، انشغل بوتين بضغينته الأيديولوجية ضد ظلال الديمقراطية الغربية التي يحمل لواءها نيكول باشينيان، فكانت النتيجة عودة تركيا إلى القوقاز، عسكرياً، مهما كان العنوان موارباً ومضللاً سواء قوات حفظ سلام أو ضباط إسناد، هذا التواجد التركي في العام 2020 في قره باغ يأتي بعد 190 عاماً من آخر تواجد عسكري عثماني في تلك البقعة.
لذا، الحذر مطلوب من تحليلات الدجل القديم التي لا تصلح لمتغيرات اليوم. أحد هذه الأخطاء التي وقع فيها الكرد، جميعاً، كان خلال استفتاء استقلال إقليم كردستان العراق، في 2017، حين راهنوا على أن درجة التوافق بين إيران وتركيا ضد الكرد تقف عند نقطة محددة، ولا تصل إلى درجة أن إيران قد تتفهم أن تجتاح تركيا الإقليم، أو العكس. لكن تبين أن الطرفين يمكن أن يذهبا إلى آخر الممكنات في التوافق ضد تغيير الواقع السياسي القائم بخصوص الكرد.
حدود التفاؤل
مع تأكد المبعوث الأميركي إلى سوريا، جيمس جيفري، من هزيمة ترامب في الانتخابات الرئاسية، قدم الرجل استقالته بعد عامين من إدارته المصالح التركية، كجزء من حلف الأطلسي حسب قناعته.
في كل الأحوال، هناك أمثلة واضحة تؤكد معادلة أن تركيا لا تقوم بخطوة في مناطق متداخلة مع النفوذ الروسي بدون موافقة روسية، ولا تتحرك في مناطق متداخلة مع النفوذ الأميركي، بدون موافقة أميركا. هذا ما حدث في كل من عفرين (روسيا) ورأس العين وتل أبيض (أميركا). بدون الموافقة ستبقى تركيا تحشد قواتها وتُحرّكها على الحدود طيلة عامين، دون أن تتجاوز متراً إلى خارج أراضيها.
من الهوامش التركية المريحة في أي إدارة أميركية هو وجود شخصيات لا تزال تحت تأثير أجواء الحرب الباردة. مثلاً، في السيرة الذاتية الموسعة للمرشحة لمنصب وزارة الدفاع الأميركية، ميشيل فلورنوي، هناك تصريحات لديها توضح رؤيتها للعالم، منها أنها لا تؤمن بعقلية الحرب الباردة. مثل هذه القناعة مؤشر على أن تركيا لن تستطيع الاحتيال عبر هذه الجزئية على الأقل، وتكسب نقاطاً وحظوة لدى الإدارة الجديدة.
في الإدارة السابقة كان في صدارة المؤمنين بأشباح الحرب الباردة، جيمس جيفري، الذي لديه شعور كراهية واضحة – قد تكون ذات منشأ ديني (إنجيلي) أيضاً – ضد كل ما له صلة بالماركسية، حتى لو كان على سبيل المطالعة الاشتراكية فقط، كما حال حزب العمال الكردستاني، الذي لم تعد الماركسية جزءاً من التراث الفكري التحليلي لديه، مع تحول أيديولوجيا الحزب، سياسياً، نحو الديمقراطية الاجتماعية، وبقاء النزعة المحافظة لديه، اجتماعياً.
استقالة المبعوث جيفري علامة على تحول محتمل في إدارة الرئيس المنتخب، جو بايدن، وهو تحول يمكن أن يبلغ مستوى تصريحات بومبيو الأخيرة، حيث وصف السياسات التركية التدخلية، التي كانت تحظى بتفهم، وأحياناً تشجيعاً، من الولايات المتحدة، بأنها “أفعال عدوانية للغاية”، مشيراً بالخصوص إلى دعم تركيا لأذربيجان و”حقيقة أنّها زرعت قوات سورية في المنطقة أيضاً”، في إشارة إلى مرتزقة سوريين أرسلتهم لمؤازرة القوات الأذربيجانية في ناغورني قره باغ.
كما بحث بومبيو مع الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، “ما تقوم به تركيا في ليبيا حيث أدخلت أيضاً قوات من دول ثالثة، وأفعالها في شرق البحر المتوسط، والقائمة تطول”.
منذ تولي ترامب منصبه، مطلع 2017، تعد هذه المرة هي الأولى التي تنتقد فيها الخارجية الأميركية تواجداً تركياً في ساحة تتواجد فيها روسيا أيضاً. في كل السياسات السابقة، تبنى أنصار الحرب الباردة في الإدارة الأميركية، سياسة الزج بتركيا في أي ساحة نفوذ روسية في الشرق الأوسط، كمنافس ومفاوض، كما في سوريا، وقره باغ، وليبيا. وللمرة الأولى يقول الوزير بومبيو صيغة “طالبنا كلّ الدول بوقف تدخّلها في ليبيا، سواء أكانت روسيا أم تركيا أم سواهما.”
إذاً، بعد سنوات من انحياز وزارة الخارجية الأميركية لتركيا، بالضد في كثير من الأحيان من توجهات وزارة الدفاع (البنتاغون)، ينفذ بومبيو انقلاباً سريعاً وغامضاً في دوافعه. هذه الحدية تنتمي لإدارة بايدن المقبلة، نظرياً، لكن بومبيو لن يقوم بهذه الخطوات لحساب إدارة يشكك في فوزها بالانتخابات. وعليه، فإنه لا يمكن الحكم ما الذي يدفع إدارة ترامب، في الوقت بدل الضائع، إلى تبني “سياسة أوروبية” تجاه تركيا، وهل يحاول بومبيو إغلاق ثغرات في علاقة فريقه بإجراءات تركية، أو احتمال تستّر إدارة ترامب على انتهاكات أنقرة للعقوبات على طهران عبر بنك خلق.
في كل الأحوال، ما ينتهجه بومبيو سحب للغطاء الأميركي على كل عمليات التوسع التركي، وحين يتسلم بايدن إدارته، في 20 كانون الثاني/ يناير 2021، ستكون تركيا بدون غطاء غربي تماماً لهذا النوع من التوسع في المساحات الجيوسياسية التي تخليها واشنطن.
على أن التفاؤل حول أسلوب إدارة بايدن للسياسات التركية ينبغي أن لا يذهب بعيداً إلى درجة توقع انهيار حكومة السياسات التوسعية التركية، على حد ما صرح به القيادي في حزب العمال الكردستاني، دوران كالكان.
فما زالت العديد من الملفات الشائكة تصلح لأن تؤدي تركيا دورها كحل وسط بين روسيا والغرب، خصوصاً أن إدارة بايدن ستعيد التوازن إلى الاستراتيجية الأميركية التي غاب عنها التهديد الروسي في عهد ترامب، مقابل تركيز أكبر على مواجهة الصين. حين يقلّب فريق بايدن الخيارات المتاحة للحد من النفوذ الروسي، سيكون لتركيا مكان في هذه السياسات، إنما دون منحها شيكاً على بياض، كما فعلت إدارة ترامب. وربما تكون أنقرة قد حجزت مكانها في استراتيجية بايدن بالفعل، منذ الآن، وإلا ما كان بومبيو سينقلب على أنقرة بهذا الشكل لو أنه لم يكن غاضباً من العروض التركية لفريق بايدن. ويمكن أن تقدم أي شيء، حتى لو كان رأس ترامب، لو كان في مقدورها ذلك، لأن ساحات التدخل التركية في عموم المنطقة، ستصبح كابوساً، إذا سُحِب الغطاء الأميركي في هذا التوقيت.