مدمنون على تكسير أصابع رسامي الكاريكاتير، لا لشيء، سوى لتكسير أصابع العين التي ترى ما لا تراه أعيننا، وكان المطلوب من الحكومة الفرنسية، تكسير شارلي إيبدو، كلُّ شارلي إيبدو، ففي المواجهة قطّاع رؤوس، وبطبيعة الحال، ليس هذا دفاعاً عن الإسلام، بل هو دفاع عن الموروث من الذبح في الإسلام، ليكون الموروث، قفزةً باتجاه الاستيلاء.
الاستيلاء على “الوعد”، وعد الاستيلاء على القارة الأوروبية، وكان الباحثان ألكسندر فيل، وإيمانويل رضوي، قد وثقا ما هو بالغ الخطورة، فالقيادي الإخواني يوسف ندا كان قد حمل “المشروع الكبير”، وكانت تلك الوثيقة بالغة الأهمية قد خرجت من خزانته المصفحّة.. وثيقة ليست بنت اليوم، سيعود تاريخها إلى عشرين سنة مضت.
إنها الاستيلاء على أوروبا، وكان وعداً أطلقه الشيخ يوسف القرضاوي (كانون الأول/ديسمبر 2002)، مع ظهوره على شاشة الجزيرة وهو يردد على مسامع مريديه ومناصريه: “إن الإسلام سيعود إلى أوروبا فاتحاً ومنتصراً بعد طرده مرتين؛ الأولى من جنوب القارة في الأندلس، والثانية من شرقيّها في أثينا، لكن هذه المرة، لن يكون الفتح بالسيف وإنما بالدعوة والفكر.”
– الدعوة والفكر!
لن يكون الأمر كذلك، وهذه تجلياته تظهر اليوم، ليس في فرنسا وحدها بل تجتاح معظم العواصم الأوروبية، ففي “زون آلي” البرليني، وهو شارع أكثريته من الأتراك والعرب، نسمع هتافات:
– خيبر .. خيبر يا يهود، جيش محمد سوف يعود.
وبالفعل فثمة جيش هنا، وهو جيش اشتغل على “النبوءة القرضاوية”، هو جيش الجيل الرابع من المهاجرين الإسلاميين.. من شباب، لم تكن معضلتهم سوى أن الاندماج كفر، وكانت هذه إحدى فتاوى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، يوم زار كولونيا الألمانية في فبراير/شباط 2018 مفتتحاً واحداً من مساجدها، فكليهما (القرضاوي وأردوغان)، اشتغلا على وجوبية “أن يكون للمسلمين مجتمعاتهم الصغيرة ضمن المجتمع الكبير، وإلا ذابوا فيه كالملح في الماء”، ولهذه الغاية يقترح القرضاوي على المسلمين الاستفادة من خبرة اليهود التاريخية، إذ يتساءل: “ما الذي حافظ على الخصوصية اليهودية طيلة القرون الأخيرة في المجتمعات الأوروبية؟”
يقولها القرضاوي وبكلِّ فمه الواسع وشفاهه بالغة الضخامة: “إنّ ما حافظ على الأفكار والعادات هو العصبة الصغيرة التي تسمّى ‘الغيتو اليهودي’.”. ويتابع: “فلتسعوا إذن إلى إقامة ‘الغيتو الإسلامي’ الخاص بكم في أوروبا.” وبحسب القرضاوي، فإن الإدارة الداخلية لهذا “الغيتو الإسلامي” يجب أن تقوم على أساس مبادئ الشريعة، لذا يتوجب أن يكون لـ”جُزُر الإسلام” هذه علماء خاصّون بها يتصدون للتحديات التي تطرحها متطلّبات حياة المسلمين اليومية داخل هذه الجزر.
– حسنًا.
إنه الجيتو الذي لا يعني سوى:
– الانعزالية، التمايز عن الآخر، وبالنتيجة، رفض الآخر، وهذا واحد من مريدي القرضاوي، يدعو الله أن تمطر على الأمة الإسلامية ويكرر:
– فقط الأمة لإسلامية، أما ما عداها فليكن القحط والجفاف..
يقول ذلك مع أن غيوم الله واسعة وأمطاره لا تنضب.
وسيكون من بالغ التجاهل والغباء، الظن بأن ما يحدث، يحدث خارج المنهج.. منهج التمكين، فقد وجدت قيادة تنظيم الإخوان القائمة على تنفيذ هذه الاستراتيجية في المظلومية الاقتصادية -الاجتماعية لمسلمي ضواحي المدن الأوروبية الكبرى، وتحديداً أبناء المهاجرين من الجيلين الثاني والثالث، الأرضية المناسبة للبدء في تحشيد أنصارها، ليخرج من “المعزل” ملتهمو الفتاوى وسكاكينهم بين أسنانهم، وباحترافية مذهلة يقطعون رأس سيدة فرنسية بلغت السبعين من عمرها في مدينة نيس، ومن ثم يطلقون النار وببندقية صيد على كاهن مسيحي في ليون، ولا بأس أن يستند التونسي ابن الـ/23/ عاماً إلى المظلومية، فالمظلومية وعاءٌ يتّسع للثأر، وللكراهية، ليبدأ الإسلام مسيرته الظافرة، نحو بقية القارة الأوربية، بعد أن سجنوا أنفسهم في جزر العزلة، وهي ما أطلق عليه الشيخ القرضاوي “جزر الإسلام”، المطوقة بغير المسلمين، ومن الجزر لا بد من توطيد الاعتقاد باقتراب “الثأر التاريخي”، من بلد، ليس مسيحياً ولا بحال من الأحوال، فالكنائس الفرنسية شبه مهجورة، وليس ثمة من يتبخّر ببخورها، سوى العجائز المهددون بكورونا، فمئة عام وربع من ولادة الدستور الفرنسي كانت كافية لخلق الإنسان المواطن.. دافع الضريبة، قوّة العمل، لا الإنسان الديني وقوّة الوعد الإلهي، تلك القوّة التي احتكرها الرئيس أردوغان، كما لو أنه “ظل الله على الأرض وصهر رسوله”، وهو الذي يردد موجهاً كلامه لأتراك ألمانيا، وبالحرف الواحد: “الاندماج أو الاستيعاب جريمة ضدَّ الإنسانية.”
كانت استراتيجية الإخوان لغزو أوروبا تعني:
– الجيتو بما يستتبع من تغذية التطرّف وخلق مظهر خارجي يميّز المسلم عن غيره، ثم “أنا الحق”، والغير “كافر”.
كل ذلك، والمال السياسي يتدفق، وليس أعلاها شأناً بنك التقوى، أو جمع التبرعات والصدقات والزكاة، لاقتناء السكاكين.
واليوم، ما الذي بمقدور أوروبا أن تفعله، والحالة تتخطى سذاجة الاعتقاد بأنها زوبعة (عابرة)؟
إنها المعضلة الكبرى التي تواجه الحكومات الأوروبية، وتحديداً الحكومة الفرنسية، فإما أن تُجهِز فرنسا على نضال تاريخي دفعت أثمانه دماءً ودموعاً، حتى تكتب على جدرانها:
– Freedom.
وينهض يمينها المتطرف ببعده اللاهوتي، ويستولي على كلِّ الأصابع بما فيها أصابع رسامي الكاريكاتير، وقد صوّروا يسوع بما يكفي لأطنان من الضحكات.
وإما أن يستمرّ الفرنسيون بنشيد الحرية الذي لا بد ويصعد قاطرته الأخيرة الإسلاميون، ليستثمروا التطرّف في مركب الحرية.
تلك هي المعادلة، بحدّيها الجارحين.
إنها السكين التي ليس بالوسع ابتلاعها، وإذا كان بالوسع ابتلاعها، فليس بالوسع إخراجها.