تعالت صرخات البشرية:
ـ أيّ وباء هذا الذي يحول بيننا وبين التقبيل ولو على درج السلّم.
سيبدو الأمر مضحكًا.
كما لو أن التقبيل يُحدث جلجلة كبرى في الحياة.
المراهقون، كانوا أقلّ احتجاجاً على القرارات الحكومية.. قرارات هيئة الأمم بالتوقف عن التقبيل، يحدث ذلك لأن الإصابة بالنسبة إليهم لن تكون قاتلة، فيما ستكون فتّاكة بالنسبة للكهول.
كهول الفلسفة كانوا أكثر حضوراً وتفانياً في الحضور.. فرنسيون وطليان وإنكليز، أما الفلاسفة العرب، فما زالوا.
ـ غوغاء الفلسفة.
ما زالوا أكثر من صحفيين وأقل من فلاسفة.
إن أمراً كهذا، يدعونا نحن رعايا الفلسفة (وربما رعاعها)، أن نتقصّى بأكبر قدر ممكن كيف سجّل الفلاسفة / الفلاسفة تاريخ الوباء.
سجّلوه، ومازال في أيّامه الأولى.. لم يزل يحبو ولم يصل بعد إلى مرحلة الفطام، فتنافس على فلسفة الوباء نعوم تشومسكي، والإسرائيلي يوفال نوح هراري، وجاك أتالي، وربما اتفق الجميع على:
ـ اغسل يديك بالماء والصابون.
ـ ولم يكن كافيًا ما حذرتنا منه الفيلسوفة الألمانية سفينيا فلسبولار: احذروا الفلاسفة.
قالتها مصاغة على نحو بالغ الوضوح: "من حسن الحظ أن أحداً لا يأتمن الفلاسفة على اتخاذ القرارات المصيرية، وأن درجت العادة على الحكم عليهم بالموت بتجرع السم وقد توقفت هذه العادة منذ زمن بعيد".
هو ما تقوله الفيلسوفة الألمانية، سفينيا فلسبولار، التي تشكر الله أنها لا تعمل بائعة في مخزن ولا ممرضة في مشافي الأوبئة الكبرى، ودون ريب، فقد تأملت الفيلسوفة الألمانية صورة ذاك الطبيب الصيني الذي وعد زوجته بأن يعود، ولم يعد، وكانت تعلم باليقين أنه لن يعود.
سفينيا فلسبولار، أقرّت ضمنياً بثانوية الدور الفلسفي في مواجهة السؤال الكبير، دون أن تنسى أن الفلسفة كانت قد تجرّعت السم، دفاعًا عن الفلسفة، وقد تذكّرت بالكثير من الإجلال، معلّم الفلسفة سقراط، وإن لم تكن قد وقعت على سيرته، فبلا ريب لا بد أنها تأملت تلك اللوحة العظيمة وقد رسمها الفرنسي، جاك لوي ديفيد، والتي تصوّر اللحظات الأخيرة من حياة سقراط، حين حكمت عليه الحكومة بأن يختار بين الموت بالسم أو النفي، عقاباً له على الدروس التي كان يعطيها ويحرض فيها على احتقار الآلهة.. ليختار سقراط الموت بالسم.
فلسبولار، باتت على يقين أنه ما من فيلسوف في زمن "كورونا" جاهز ليتجرع السمّ دفاعاً عن فكرته النبيلة، فالفلاسفة اليوم قد يرون منع التجوّل باعتباره "الشلل الكامل الذي جلبه كورونا يعطينا فرصة لنفكر"، وحين تقول لنا ذلك تستشهد بالرياضي والفيلسوف الفرنسي بليز باسكال: "معظم البؤس البشري ينبع من عدم قدرة الإنسان على الجلوس في غرفة لوحده هادئاً"، وبعدها تستشهد بهيدغر، فـ "في لحظة مثل تلك، حين يجلس المرء في حجرته "محاطاً بالموت"، يستطيع أن يكتشف طبيعته الحقيقية".
المراقبة والعقاب:
الفيلسوفة الألمانية، لابد وأنها بالغة التواضع، أقلّه لأن كلامها كاد يحفّزنا نحن (رعاع الرؤى) إلى البحث في أحوال أولئك العاملين في المشافي، وكان الأطباء والممرضون قد خاضوا تجربة الموت بكثافة، وفي كل مناطق الانتشار، وكانت صورهم قد احتلت منصات التواصل الاجتماعي ومن بين الصور صورة لـ "ليو جون"، وهو طبيب صيني، قرر أن يخوض تلك التجربة الخطرة من أجل أداء واجبه الإنساني والمهني، وقبل رحيله التقطت له صورة وهو يحتضن زوجته التي ودعته بالدموع، محاولًا تهدئتها بينما يعلم في قرارة نفسه أنه قد يكون آخر مرة يراها فيها، لكن زوجته قبلت بسرعة قرار زوجها بالخدمة في ووهان.
الفيلسوفة الألمانية ذهبت للاستعانة بفقرة عن تفشي الطاعون من كتاب ميشال فوكو "المراقبة والعقاب"، وهي تقول بأن هذه الفقرة كانت الأكثر ترداداً واقتباساً، وبالأخص ذلك المشهد الذي يغلق فيه السكان الأبواب على أنفسهم، ويسلمون المفاتيح إلى مسؤولي الأحياء، المعينين من حكومة المدينة.
غير أنها (الأبواب المغلقة)، لم تكن مغلقة على الكتّاب، ففي ذروة الوباء ستسارع وسائل الإعلام لاستشارتهم.. لا لشيء، ربما للإثارة، ففي حال وباء كما هذا الوباء، سيكون الفعل للخيميائي وليس للكاتب.. على الكاتب أن يكتب لا ليشفي.. ربما ليسلّي.
ـ نقول لـ (يسلّي).
ونقول ذلك لا إقلالاً من شأن التسلية، فالإنسان وما أن يعدم التسلية حتى يُعدِم الحياة.
التسلية فعل، بل وفعل عظيم، ولولاه لما كانت الثورات.. الثورات هي فعل تسلية مقابل ذاك السأم القاتل الذي توطّده الزعامات وقد نبتت الطحالب على جلودها.
التسلية اكتشفت ورق اللعب، الذي قد يكون مرتفع القيمة ويخسر قيمته حين يكون شريكك في اللعب مجرد حمار، والتسلية هي نحن حين نؤجل مقابرنا.. وحين:
ـ نلتقط لحظة خاطفة للتقبيل.
ولهذا وفي ذروة الوباء، سارعت وسائل الإعلام الجماهيرية والدوريات الفلسفية لاستكتاب المتخصصين، وإجراء الحوارات مع الأسماء اللامعة بينهم.
ـ استضافتهم لنتسلّى.
من بين هؤلاء كان سلافوي جيجيك، وهو الفيلسوف الاجتماعي والناقد الثقافي السلوفيني صاحب النزعة اليسارية، وقد سبق وكتب عن الإسلام والحداثة. وهو فوق ذلك تقول سيرته وفق ويكيبيديا إنه "صاحب مساهمات في النظرية السياسية، ونظرية التحليل النفسي والسينما النظرية، ويوصف بأنه "أخطر فيلسوف سياسي في الغرب".
سلافوي جيجيك، وخلال ذروة الوباء أعطى العدد الأكبر من التصريحات، وتوالت مقالاته عن الأمر حتى بات نجم فلاسفة "كورونا".
في حوار هاتفي مع الدويتشة فيلله، يعدد "ما يحبه بخصوص كورونا"، وفي مقال له يحكي عن "الحاجة للكارثة"، فبعد عامين من حضه للجميع على "شجاعة اليأس"، تبدو نبرته شديدة التفاؤل.
ـ سلافوي جيجيك يستدعي الكارثة، فالبشرية لن تصحو سوى على إيقاع الصدمة.. على الكارثة، وما دامت الكارثة قد أتت على قدميها إذن:
ـ إنه الوقت المناسب لاستعادة الشيوعية.
هذا ما يدعونا إليه الفيلسوف السلوفيني، ولكن عن أية شيوعية يحكي؟
ليست شيوعية الاتحاد السوفياتي بالطبع، لكنها نوع اشتراكي من التضامن في وجه الخطر الذي نواجهه.
الرجل يتكلم بلغة "نحن".
ـ أي نحن هذا؟
متابعو جيجيك ومحاوره تساءلوا عن ما يعنيه بـ"نحن".
أي نحن يا سيد جيجيك؟
ليس البشرية، بل أوروبا تحديداً، ويدعوها جيجيك للتعامل مع الأمر بصفته "حرباً"، ويضيف إن "موجة ثانية من اللاجئين" بالتوازي مع الوباء هي كل ما ستحتاجه أوروبا لتنهار.
ـ يا الله، ها أنذا، سأضاف إلى كورونا باعتباري لاجئاً (اختيارياً وأكرر اختيارياً) في أوربا.. سأضاف إلى لعنة العصر.. سأضاف إلى الوباء، غير أنني لم أبتئس من كلام الفيلسوف السلوفيني، ولم أبتئس لسبب بالغ التبسيط:
ـ لقد ارتفعت إلى مرتبة الوباء.. لقد أصبحت كائناً خطراً.. كائنًا فقرياً خطراً بالقدر الذي يمثله الكائن المجهري الذي يدعى الوباء.. لقد منحني شرف أن أكون خطراً، فيما لم أكن في واقع الحال أكثر من متسكع في محطات الميترو، ألوّح بكلتي يدي للقاطرة بأن تتوقف ظناً مني أن الميترو يستلزم أن ألوح له بيدي ليتوقف.
الفلاسفة الأوروبيون وصفوا جيجيك بأنه فيلسوف "يتبنى كعادته، الأفكار الأكثر إثارة للجدل، بلغة تقترب إلى الحماقة أكثر من أي شيء آخر، حماقة تضع الفيروسات في كفة مقابلة للاجئين، الاثنان كخطر وجودي على أوروبا، أحدهما عضوي والآخر ثقافي، وفي خضم الحرب الطارئة ضدهما، ومن وسط الكارثة، تبزع الشيوعية (بوصفها تضامناً أوروبياً حصرياً ".
الزوبعة العارية:
الزوبعة الأكبر يثيرها الفيلسوف الإيطالي، جورجيو أغامبين، نعم لقد وصفته الصحافة بـ "الزوبعة" وأضافوا إليها "العارية" مع أن سيرته تكشف عن كونه "صاحب كتاب الإنسان المستباح: السلطة السيادية والحياة العارية"، وها هو يستدعي العديد من التخصصات، تلك شهادة غوغل فهو "عالم الاجتماع والفلسفة والتاريخ والقانون".
هذا الرجل يرفض "كل إجراءات الحجر الصحي، في مواجهة كورونا، بوصفها "مسعورة، وغير عقلانية".
ببساطة ودون مواربة، يعيد لي ما أنا أفتقده الأن، فأنا أفتقد إلى التسكع في محطات الميترو.. أفتقد للنزول في محطّات يتسكع فيها مغاربة طيبون يبيعون الحشيش.. مغاربة جزائريون، ومغاربة توانسة، وحتى صحراويون غربيون، ومن بينهم الولي. وللضرورة المعرفية، وحده الولي من يمنحني أجود الحشيش، وأدنى الأسعار.
ـ بأسعار تقل عن التكلفة، فقد عرف أنني واحد من أصدقاء الولي مصطفى السيد أول أمين عام لجبهة البوليساريو وقد تتلمذ على يد كاسترو ثم قتل في معمعان الصحراء الكبير.
تجتذبني "إيضاحات" أغامبين وادعائه الأحمق بأن كورونا هي مجرد إنفلونزا عادية، كما أصفّق له حين يستنكر أن نتنازل عن كل حقوقنا، وكل ما هو اجتماعي، لصالح إنقاذ "حياة مجردة"، أي مجرد بقائنا العضوي.
وها أنذا وقد استعدت هدوئي، سأوافقه مغمض العينين على كلامه بالغ التأثير "أن الذعر المحيط بالوباء واستغلاله لصالح السلطات، تبدو تبعاته أكثر فداحة من انتشار الفيروس. ولا يمر الكثير من الوقت، حتى تمنح البرلمانات رؤساء الوزراء، سلطات مطلقة وطارئة، ومن دون سقف زمني".
ـ هو يقولها:
سيكون لرؤساء الوزراء الأوربيين ما هو لرؤساء العالم الثالث:
ـ الأبدية والخلود وانتزاع السلطات من الله.
أعرف معه بأن الاستثناء حقاً يضحى هو الطبيعي.
وبعد سأعود إلى الخوف..
ـ لم لا أعود إلى الخوف وأنا أقرأ سيرجي بينفنيتو ، وهو يقول "مرحباً بالعزلة"، ويقول: "في بعض الأحيان، نشر الذعر أكثر حكمة من النظر للأمور فلسفياً".
والأهم فيما يقوله هو: "الحماقة مهنة الفلسفة".
هو الأهم لأنه يشكل لي عزاء طيباً، فتاريخ الفلسفة بالنسبة لي هو:
ـ أكثر من صحافة وأقل من فلسفة.
وأعطوني اسماً واحداً لفيلسوف عربي يجدر به حمل لقب فيلسوف، اللهم سوى بين تلامذة مرغمين على مناداته بـ :"الفيلسوف".
تكتب لنا من مستقبلنا:
ما دام الأمر كذلك، وما دامت الفلسفة تساوي الحماقة، أهلاً بالروائيين، وبشكل خاص، أهلا بالروائية الطليانية فرانشسكا ميلاندري التي تكتب لنا من مستقبلنا "من إيطاليا، أعني أنني أكتب إليكم من مستقبلكم. نحن الآن حيثما ستكونون في غضون أيام قليلة. فمخططات الجائحة تبيِّن أننا جميعا متضافرون في رقصة متوازية".
وزادت: "كل ما في الأمر أننا متقدمون عليكم بخطوات قليلة على طريق الزمن، تماما كما أن ووهان متقدمة علينا ببضعة أسابيع. نشاهدكم إذ تتصرفون مثلما سبق أن تصرفنا تماماً. تتمسكون بالحجج التي تمسكنا بمثلها حتى وقت قريب، منقسمين بين من يقولون "ما هي إلا إنفلونزا عادية ففيم كل هذه الجلبة؟"، ومن فهموا بالفعل".
ـ بادئ ذي بدء، ستأكلون. وليس ذلك فقط لأن الأكل من الأشياء القليلة التي سيبقى بوسعكم ممارستها. تقول الروائية الطليانية ذلك.
وكذلك تقول: "ستجدون عشرات من مجموعات شبكات التواصل الاجتماعي تعلمكم كيف تنفقون أوقات فراغكم في ما هو مثمر. ستنضمون إليها جميعا، ثم تتجاهلونها تماماً بعد أيام قليلة".
وتقول في رسالتها: "ستتناولون أدب نهاية العالم من أرفف مكتباتكم، ولكن سرعان ما ستشعرون أنكم لا ترغبون حقا في قراءة أي منه".
ـ يا لها من أيام فظيعة نمضيها مع الأوراق الفلسفية ومع نشرات الأخبار.
أيام علينا أن لا ننسى معها نعمة:
ـ التقبيل.