ماذا وراء سحب تركيا نقاطها من إدلب؟

خلافاً لتأكيد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، ووزير دفاعه خلوصي أكار، مراراً، أن تركيا لن تسحب نقاطها العسكرية من شمال غربي سوريا؛ بدأت تركيا فجأة بسحب هذه النقاط، بدءاً من أكبرها في مورك بريف حماة، وسط صمت تركي تام، وهو ما دفع بالمراقبين إلى السؤال عن الأسباب التي دفعت تركيا إلى اتخاذ هذه الخطوة.

في محاولة للإجابة على هذا السؤال، يرى المحللون أن ثمة أسباب تقف وراء الخطوة التركية، لعل أبرزها:

  1. أن هذه النقاط باتت محاصرة من قبل الجيش السوري، وأصبح الوصول إليها صعباً، إذ أن امدادها منذ نحو سنة يتم حصراً بالتنسيق مع الجانب الروسي.
  2. أن هذه النقاط فقدت جدواها العسكرية، ولم تعد قادرةً على القيام بوظيفتها، وباتت تشكل عبئاً على تركيا
  3. أن روسيا، وبسبب إرسال تركيا مرتزقة من شمال غربي سوريا إلى القوقاز، صعّدت من ضغوطها على تركيا في إدلب، وباتت تطالبها بسحب هذه النقاط والأسلحة الثقيلة من إدلب، وبسبب ذلك فشلت المحادثات العسكرية بين الجانبين خلال الشهر الماضي في تركيا، في وقت باتت تركيا أمام ضغوط روسية هائلة.
  4. أن تركيا باتت تخشى بشكل حقيقي من هجوم للجيش السوري بمساعدة روسيا على هذه النقاط، وإن حصل هذا الهجوم، ووقع قتلى في صفوف الجنود الأتراك هناك، فإن ذلك سيكلّف أردوغان غالياً في الداخل، وهو ما دفعه إلى اتخاذ هذه الخطوة الاستباقية.
  5. أن الخطوة التركية هذه، جاءت بعد فشل أنقرة في إجبار الجانب السوري على سحب قواته من محيط هذا النقاط إلى حدود اتفاق سوتشي، كما جرى خلال تفاهم آذار/مارس الماضي بين الجانبين الروسي والتركي عقب الحرب العنيفة التي اندلعت بين الجيشين السوري والتركي.             

تنبثق هذه الأسباب من التحليل السياسي أكثر من الوقائع المُعلَنة، في ظل الصمت التركي والروسي، وهو صمت ترك الباب أمام الاستفهامات والأسئلة، ولا سيما في ظل نهج الصفقات التي عقدت بشأن مناطق شمالي سوريا وشرقها، بين تركيا والولايات المتحدة من جهة، وتركيا وروسيا من جهة ثانية، خاصةً وأن كل خطوة تركية في إدلب تجري بالتنسيق مع الجانب الروسي، الأمر الذي ترك الباب أمام ثلاث سيناريوهات أساسية بخصوص تفسير الخطوة التركية، وهذه السيناريوهات هي:

  1. سيناريو الصفقة، وهو سيناريو تروّج له الفصائل المسلّحة المرتبطة بتركيا، ومفاده حصول اتفاق جزئي بين روسيا وتركيا، يقوم الاتفاق على سحب تركيا نقاطها العسكرية، وتأمين محيط  الطريق الدولي (M4) من حلب إلى اللاذقية، ومن حلب إلى حماة، مقابل سماح روسيا لها بالقيام بعملية عسكرية في تل رفعت بعد أن رفضت روسيا العرض التركي الذي كان يشمل منبج وتل رفعت، وأصحاب هذه النظرية يروّجون أن العملية التركية ستلي عملية إتمام سحب النقاط العسكرية التركية، وهي مدة تقدّر بنحو شهرين على اعتبار أن تفكيك كل نقطة تستغرق أكثر من أسبوع.
  2. سيناريو الهزيمة تحت الضغط، وينبثق هذه السيناريو من حقيقة خسارة تركيا للرسالة العسكرية من وجود نقاطها العسكرية (ثماني نقاط عسكرية تتوزع بين محافظات حماة وحلب وإدلب واللاذقية)، وأن طريقة سحب هذه النقاط، والصمت التركي، وعدم الإعلان عن اتفاق بشأنه مع الروس، كلها مؤشرات تؤكد هذه الهزيمة التركية غير المُعلَنة.
  3. سيناريو العمل العسكري، وينبثق هذا السيناريو من أن تركيا تقوم بعملية إعادة انتشار لقواتها العسكرية، إذ أن النقاط التي سُحِبت، يتم نقلها إلى منطقة جنوب جبل الزاوية، وسط إقامة قواعد ونقاط عسكرية جديدة هناك، بالتزامن مع استمرار إدخال معدات عسكرية، وأسلحة ثقيلة ، ورادارات متطورة، وجنود إلى محافظة إدلب عبر معبر كفرلوسين. وعليه، يرى هؤلاء أن خطوة تركيا تأتي في إطار الاستعداد لجولة جديدة من الحرب في ظل إصرار الجيش السوري بدعم من روسيا وإيران على السيطرة على مناطق جديدة من إدلب، ويؤكد هؤلاء أن الرفض التركي لطلب روسيا سحب الأسلحة الثقيلة يأتي في هذا السياق.

في جميع الأحوال، يمكن التوقف عند ثلاث نقاط مهمة لدى الحديث عن أبعاد الخطوة التركية وتداعياتها:                                

الأولى: أن سحب تركيا لنقاطها العسكرية يجري بالتنسيق مع الجانب الروسي، وهو ما يعني أن الخرائط والتفاهمات التي جرت بين الجانبين ليست ثابتة، وإنما تخضع لاعتبارات الظروف في كلِّ مرحلة، كما أنها غير متوقفة على الوضع في سوريا فقط، بل لها علاقة بالأحداث الساخنة التي تجري في ليبيا وكذلك الحرب الجارية بين أرمينيا وأذربيجان في إقليم قره باغ/آرتساخ، والتصعيد التركي-اليوناني-الأوروبي في المتوسط.

الثانية: عدم وجود أي مصداقية للوعود التركية للسوريين، إذ أن خطوة تركيا سحب نقاطها، وضعت قرابة نصف مليون سوري في هذه المناطق أمام مصير مجهول، وبات عليهم إما قبول المصالحة مع النظام أو النزوح إلى مناطق في العمق الإدلبي، وهو ما سيزيد من معاناة الأهالي هناك، والأمر نفسه ينطبق على طريقة تعامل تركيا مع الفصائل المسلّحة، إذ باتت مجرّد أداة بيدها دون أي اعتبار لأي قيمة أو هدف أخلاقي، خاصةً وأن هذه الفصائل لا قرار لها، حيث باتت تأتمر بأمر التركي بشكل كامل، ولعلَّ ما يؤكد هذا الأمر، هو صمتها إزاء سحب تركيا نقاطها والذي يُعدُّ بمنزلة طعنة لهم.

الثالثة: أن إدلب ستتحوّل إلى ساحة تصفيات كبرى، ولعلَّ الأنباء التي تتحدث عن بدء جبهة النصرة بحملة لسحب السلاح من الأهالي، وقيامها بإجراءات عسكرية، يوحيان بأن الجبهة تحضّر لعمل عسكري ضد منظمة حرّاس الدين التي تغرّد خارج السرب التركي كما تقول التقارير، وهو ما يؤسس لمواجهات وتصفيات بين الفصائل المسيطرة على إدلب.

في جميع الأحوال، إلى حين اتضاح الأبعاد الكاملة لسحب تركيا لنقاطها العسكرية، من الواضح أنها فشلت في استخدام هذه النقاط ورقةً للمساومة مع الروسي لزيادة نفوذها في شمال غربي سوريا من جهة، ومن جهة ثانية استمرارها في المتاجرة بدماء السوريين وتحويلهم إلى مجرّد مرتزقة في حروبها، وثالثاً في تحويل شمالي سوريا وشرقها إلى ورقة للمساومات مع القوى الكبرى ولا سيما روسيا على الساحات الأخرى (القوقاز وليبيا) التي أشعلتها.

من دون شك، الوقائع السابقة تؤكد مدى خطأ الرهانات التركية على الحروب في تحقيق المشروع السياسي الإقليمي لأردوغان، ولا سيما بعد تحوّل الساحات المشتعلة إلى أعباء كبيرة على السياسة التركية في الداخل والخارج معاً، وهو ما يشير إلى أن أثمان هذه الرهانات ستكون مكلفة في المرحلة المقبلة، ولا سيما في ظل تداعياتها الاقتصادية والمالية على الداخل التركي الذي بدأ يئنُّ تحت وطأة سياسة أردوغان، وتورطه في حروب كثيرة، لا أحد يعرف كيف ستنتهي ومتى…