فائض الخبث والخرافة في الدولة القومية

حسين جمو

على عكس المحاولات الفرنسية الخجولة وغير الناجحة في جعل “الدولة الأمة” الشرقية، تعددية، إلى حدٍ ما، فإن بريطانيا لم تبذل أي جهد في هذا الإطار سوى مجاراة الهرطقات القومية التي ترجع إلى الجمعيات والنوادي القومية المطالبة باللامركزية في نهاية الدولة العثمانية، ومن بينها الجمعية الأكثر تطرفاً في دعوتها القومية العروبية، وهي العهد الوطني.

الحامل الأساسي للمداخلة الانتدابية البريطانية والفرنسية، شرقي المتوسط، هو تفكيك الدولة العثمانية بشكل منظّم، وبناء كيانات جديدة على أسس قومية، وضمان أن لا تلتقي هذه الكيانات مع إعادة إحياء الفكرة العثمانية الجامعة للشعوب، من حيث أنها قومية.

لم تكن بريطانيا معنيّة حينها بإنصاف وعودها للكرد بأن التصويت لضم الموصل للعراق الحديث سيكون مقابله منحهم حكماً ذاتياً في الكيان الجديد، ذلك أن الدستور التعددي لا يلائم “الدولة القومية العنصرية” التي لم تقف بريطانيا في وجهها، بل دعمتها بصيغة حكم ملكية دستورية سنّية، في وقت كانت الوطنية العراقية، على الرغم من هشاشتها، كانت قابلة لأن تتأطر على نماذج مؤسِسة للتعددية، والتعاضد الوطني.

لم تستثمر الإدارة البريطانية في تأسيس كيان تعددي لكل مواطني العراق، بل سهّلت تسليط فئة على أخرى، وهكذا تم تهميش الشمال الكردي والجنوب الشيعي منذ تأسيس الدولة العراقية. ومنذ هذا التأسيس، وبسبب هذه الصيغة القاصرة والتأزيمية لتأسيس الدولة، لم يهدأ العراق داخلياً، واستنزفت جلّ ثرواته في محاولة الاستمرار بهذا النهج الأحادي الاحتيالي.

في حالتين، شاركت الطائرات الحربية البريطانية في قصف تمردات محلية ضد الكرد والشيعة، في سبيل ترسيخ حكم الأقلية في بغداد، ذلك أن النخبة الحاكمة المتحدرة في معظمها من الضباط الهاشميين، وكوادر حزب العهد، لم تتبنى نهجاً وطنياً جامعاً، إنما فلسفة مكابرة وطنية، تقوم على احتكار تعريف الوطنية والقول إن هذا التعريف ينطبق على ما تنتهجه، بينما حكومات بغداد، ومثيلاتها في دمشق، كانت عبارة عن تعبيرات ما قبل بورجوازية حتى، فالثقافة السياسية المحرّكة لم تكن ذات أسس اقتصادية، ولم تكن البورجوازية السوقية مؤتلفة أساساً في أحزاب، وإن كانت حلب أقرب إلى أن تكون نموذجاً محدود الظهور، فالنخب الدمشقية ذات النزعة العروبية لم تكن تعبر عن حاجة لمصالح البورجوازية حقيقةً، رغم ما تظهره المظاهر الشكلية للطرابيش الحمراء على رؤوس نخب المدينة، بل عن تطلعات نظرية فكرية لأصحابها، منفصلة عن مصالح هذه الأمة التي يفترض أن تتشكل في الكيان السوري الجديد.

في بغداد ودمشق أضاعت هذه النخب، وهي وريثة للاستعمار، فرصة قيادة الكيانات الجديدة نحو توافق وطني، والتخلي عن هرطقات القوميات الخرافية، وهي تضم ائتلافاً يشمل مجموع القوميات المشرقية، العربية والتركية والكردية والفارسية والأرمنية، ارتقت ثلاث قوميات بفضل الاستعمار، وهي العربية والتركية والفارسية، فيما بقيت قوميتان تحت هيمنة هذه القوى، فأبيدت الأرمنية وكادت تزال من الوجود لولا الجزء الواقع في الاتحاد السوفييتي، وتعرضت الكردية لضربات هشّمت واقعها، رغم أن هذه الضربات، في المقابل، عززت من حضورها الخيالي.

كيف يمكن بناء دولة على أساس خرافة في القرن العشرين؟ حدث ذلك ودفعت أثمان باهظة لبقائها خرافية، مئات الآلاف من الجثث والضحايا والمقابر. إذاً، كيف لها أن تستمر في القرن الواحد والعشرين؟

الدولة قومية تعتبر بابك الخرمي جزءاً من السردية القومية الآذرية، وتضع الحثيين امتداداً للترك، والبابلية امتدادا لقبائل الجزيرة العربية، يضاف إلى ذلك النزاع الكردي الأرمني الجورجي على دول وامبراطوريات قديمة جنوب القفقاس وفي مدار بحيرتي وأن وأورميه.

 صحيح أن دساتير الدول القومية ليست روايات تاريخية، كما قد يتبادر لمن يريد إبقاء الوضع الحالي، لكن روح الدستور مستمد من هذه الخرافات التاريخية التي لم تعد مقبولة استمرارها في القرن الواحد والعشرين.

فمحاولات جيوش الدول القومية مواءمة الوقائع السكانية التعددية مع خرافات ضياء كوك ألب وساطع الحصري وعبدالرحمن الشهبندر وأكرم الحوراني، أدت إلى جرائم رهيبة ضد الإنسانية، ما زالت فصولها مستمرة في تفكيك الاجتماع السياسي الكردي، وتهشيم الحضور المديني والريفي، كليهما، عن طريق “فائض الخبث” و”فائض الخرافة” في الدولة القومية المنجزة، مثل إزالة مدينة بحجة مشروع تنموي، أو إزالة مدينة تاريخية، مثل آمد القديمة، بحجة تطويرها، في سبيل تأهيلها لتدخلها الدبابات في حال أي عصيان آخر داخلها.

وغالباً لا تحتاج الدولة القومية إلى استخدام “فائض الخبث” إلا في حالات عدم وجود مقاومة شاملة، لأن في الحالة الأخيرة يتم اللجوء إلى كل نتاجات عصر الحداثة العسكرية، فيتم تمكين دولة قومية عنصرية، مثل تركيا، من تصنيع طائرات مسيّرة فتاكة، بقطع مصنعة في النمسا وألمانيا وكندا، وهذه الدول تدعم صيغة متخلفة من الدولة القومية وليس فقط تبيع منتجات، لأن استخدامات الدولة التركية لهذه الطائرات، هي جدار يحمي الدولة الأحادية، الدولة التي لا تعترف بأي تنوع داخلها، الدولة التي تعتبر أقليتها المسيحية الصغيرة جالية أجنية وتحت المراقبة الدائمة، الدولة التي تريد ربط “العالم التركي” عبر إلغاء الجزء المتبقي من أرمينيا.

في القرن الواحد والعشرين، لم تعد الحياة تصلح للعيش في ظل هكذا دولة، حتى لو كانت هذه الدولة القومية الأحادية، القائمة على الخرافات وليس السوق، مدعومة تقانياً من نماذج الدولة الأمة الأكثر تحضراً، مثل ألمانيا وبريطانيا. لم تعد الدولة القومية صالحة سوى لإشعال الحروب.

لن تستطيع قوة مهما كانت متقدمة، ومهما امتلكت أسلحة فتاكة، أن تنهي المقاومة الكردية التاريخية، الحاضرة، المستقبلية، لأن هذه المقاومة هي نتاج بيئة وليس نتاج مجموعة أفراد منعزلين. بيئة تزيد الدولة القومية الخرافية من حيويتها وإصرارها، رغم الخسائر.

ما يجري بين أرمينيا وأذربيجان، نموذج فاضح لأزمة الدولة القومية. وأزمات هذه الدولة لا تتم مناقشتها بالوقائع غالباً، لأن الدولة القومية تحاصر إظهار الوقائع السكانية التي تظهرها ليس فقط كخرافة، بل إن استمرارها كل يوم جريمة جنائية طالما أنها أحادية وضيقة الأفق من نوع “الأحمق الذي يحمل رشاشاً”.

لا تتطابق الحقائق الديمغرافية مع أي طرح قومي، سواء كان لدولة أو لشعب ما زال في مرحلة المقاومة ضد الاحتلال القومي. التداخلات الموجودة لدى دول وشعوب شرقي المتوسط هي من التعقيد لدرجة أن أحد رحالة القرن التاسع عشر حين مر من شمال سوريا قال إن السكان متنوعون وكأن أحدهم خلط عدداً من أنواع الحبوب ونثرها عشوائياً. الواقع أن هذا حال كل المنطقة وليس فقط شمال سوريا. فالدولة القومية شرقي المتوسط، باعتبار أنها دول قومية “معكوسة”، قائمة على الإلغاء الاجتماعي، وليس مصالح السوق، هي دولة مصممة ليس لحكم أكثرية سكانية، بل لخلق أقليات داخلها. هكذا تصميمها وبنيتها، وهذا ما يفسر أن الأغلبية في هذه البلدان ليس ذات امتيازات خاصة، عدا تلك التي تمنحها الدولة القومية لهم تلقائياً، مثل هيمنة اللغة والثقافة والأجهزة الأمنية، لكن الطبقات الفقيرة تستمد قوتها أيضاً من هذه الأغلبية، إذا نظرنا في الأمر من زاوية طبقية عمالية وفلاحية.

 الدولة القومية في أزمة دائمة لأنها تصبح غطاء في العديد من الحالات. في سوريا، منذ هيمنة الرئيس حافظ الأسد على الحكم، والنزعة القومية تتصاعد في مناهج الدولة وأجهزتها الثقافية، من أجل إخفاء فئوية الطبقة الحاكمة، وحين تنشأ مقاومة من الأغلبية السنية، فإن المطروح أيضاً إعادة تصحيح للدولة القومية وليس تجاوزها، بنسخة أكثر تشوهاً، مطعّمة بفقه الفتاوى العائد للقرن الثاني عشر الميلادي.

رغم مرور عشر سنوات على الكارثة السورية، ما زال النظام لا يمتلك جرأة للخروج من القالب التاريخي للدولة القومية، وهذا سبب فشل الحوارات السابقة مع مجلس سوريا الديمقراطية، وكذلك تمسك المعارضة بالقالب القومي الخرافي أيضاً كفيل بإشعال حروب مستمرة عشر سنوات أخرى.

إذا كانت الدولة القومية استنزاف مستمر لكيان الدولة، سواء عبر مقاومة الفئات المطرودة، أو حروب الدولة القومية، ومعظمها قمع داخلي.. وإذا كانت الدولة القومية على هذه الدرجة من الفضيحة، لدرجة أن قلة من نخبها تجرؤوا على ترديد خرافاتها خارج أوطانها، فما الذي أبقى نموذج الدولة القومية صلبة، وحشية، عدوانية، طيلة القرن العشرين؟ ومن يساندها لتستمر في منع التعايش الدستوري بين الهويات، في القرن الواحد والعشرين؟