محمد شيخو.. مهجر من عفرين يروي آلام سجنٍ حفر في ذاكرته ندوباً لا تُمحى

ريف حلب الشمالي – نورث برس

سبعة أعوام، هي المدة التي قضاها محمد شيخو (40 عاماً)، من سكان عفرين، شمال غربي سوريا، في سجن حلب المركزي.

 كان خلالها شاهداً حيّاً على أحداث حصار فصائل المعارضة المسلّحة للسجن بين عامي 2013 و2014 والذي أسفر حينها عن سقوط مئات القتلى.

يقول “شيخو”: “كنا معزولين تماماً عما يحدث خارج أسوار السجن حتى ذلك اليوم من ربيع عام 2013 حين لمحنا عبر نوافذ السجن أعلاماً مختلفة لجماعات مسلّحة علمنا فيما بعد أنها فصائل من المعارضة عازمة على انتزاع السجن من يد الحكومة السورية”.  

استولت جبهة النصرة تساندها فصائل أخرى على “مدرسة المشاة” في أواخر كانون الأول/ديسمبر من عام 2012.

وكان حصار سجن حلب المركزي، الذي كان يضمّ حينها حوالي /4500/ سجين، هو خطوتها التالية.

“أكلنا الحشرات”

في صباح ذلك اليوم، استيقظ السجناء على صوت “صاروخ” أصاب الجناحين الأول والثاني من السجن وأسفر عن مقتل عددٍ كبير منهم.

وتسبب الحصار المفروض من قبل الفصائل بموت أكثر من /200/ سجين نتيجة منع تلك الفصائل دخول الطعام الى داخل السجن إلا بشرط الإفراج عن ثمانية سجناء مع كل وجبة، بحسب شهادات سجناء سابقين.  

ويضيف “شيخو” أنهم لم يكونوا يحصلون على طعام يأكلونه ولا ماء للاستحمام أو حتى للشرب.

“لقد تفشّت الأمراض بيننا وكان هناك في كل يوم وفيات جديدة (…) فقدنا القدرة على الحركة، جميع السجناء كانوا يزحفون ولا أحد بإمكانه الوقوف على قدميه باستثناء حرّاس السجن.”

وكانت مروحيات تابعة للحكومة السورية تلقي لحرّاس السجن بأكياس الطعام من الجو لأن الفصائل المسلّحة نادراً ما كانت تسمح للصليب الأحمر الدولي أو الهلال الأحمر العربي السوري بزيارة السجن، وهو ما فاقم أزمة الغذاء الحادة التي كان يعانيها السجناء.

اضطر السجناء، بسبب شح الطعام، إلى أكل القطط والجرذان والحشرات من أجل البقاء على قيد الحياة.

“أكل البعض منا حتى من البطانيات الموجودة في السجن، اضطررنا الى لفِّ الشاي الأسود لتدخينه بدلاً عن التبغ.”

وتسبب الحصار المُحكَم الذي استمر نحو /13/ شهراً كذلك بمنع إدارة السجن من الإفراج عمن انتهت مدة محكوميتهم.

“لقد كانت القوات الحكومية تعرض على السجناء المنتهية مدة محكوميتهم حمل السلاح إلى جانبها لقاء راتبٍ شهري.”

“كأننا أمتعة”

يتحدث “شيخو” عن الاستعصاء العام الذي نفذه سجناء في تموز/يوليو 2013، والذي بدأ بامتناع ثلاثة سجناء عن مغادرة الجامع (الغرفة 11) والعودة إلى مهاجعهم.

بدأ الاستعصاء في التاسعة مساءً واستمر حتى الخامسة من فجر اليوم التالي، كسر سجناء خلاله أقفال أبواب السجن وأشعلوا حريقاً داخله.

كان على السجناء اجتياز أربعة عشر باباً، “وقد اجتزنا بعضها بالفعل قبل أن يستخدم حرس السجن الغاز المسيّل للدموع والضرب المبرح لإيقاف تقدم السجناء.”

وكانت القوات الحكومية في السجن قد غيرت قواعد التخلص من الجثث بعد استيلاء الفصائل على الباحة، كانوا يرمونها عبر النوافذ الخارجية بدل دفنهم في الباحة. بحسب “شيخو”.

وتمكنت القوات الحكومية، بعد حوالي /13/ شهراً، من فك الحصار عن سجن حلب المركزي.

ويقول السجين إن مراسل قناة سوريا الإخبارية دخل عليهم، مساء أحد أيام أيار/مايو 2014، وأمرهم بالهتاف للرئيس السوري بشار الأسد.

كان الجوع والتعب والمرض قد أنهك السجناء الذين كانوا عاجزين حتى عن السير فاضطرت إدارة السجن إلى نقلهم بواسطة قاطرات إلى المشفى.

“رموا بنا في صناديق تلك القاطرات وكأننا أمتعة أو حيوانات.”

عاد حيّاً

بعد خروجه من المشفى وإطلاق سراحه، توجه محمد إلى حي الأشرفية بحلب، وقام بالتواصل هاتفياً مع أخته “إلهام شيخو” التي أصابها الذهول في بادئ الأمر وظنته ينتحل صفة أخيها.

وقالت إلهام، لنورث برس، أن الصدمة كانت قويةً جداً، “كنا نظنه ميتاً وتلقينا العزاء فيه قبل ستة أشهر.”

وأضافت: “سمعت عبر الهاتف صوت رجلٍ يدّعي أنه أخي محمد، لم أصدقه بالطبع، لكنه ذكر بالتفصيل أسماء أخوتنا ووالدينا.”

صُدم محمد كذلك، وهو على الطريق إلى عفرين، حين استغرقت الرحلة /12/ ساعة وقد كانت تستغرق أقلّ من ساعة قبيل دخوله السجن عام 2008.

“كل شيء كان يدهشني، لم أكن أعرف ما الذي حلَّ بالبلاد، ولكن كانت مفاجأة سارة حين وصلت إلى مدخل عفرين وشاهدت الأعلام الكردية وسمعت عناصر الحاجز وهم يتحدثون بالكردية.”

مخيم وسط سجون

لكن فرحة “شيخو” لم تكتمل بحريته، فقد كان عليه معايشة تجربة مريرة أخرى عقب اجتياح الجيش التركي لمدينته في آذار/مارس 2018، ما أجبره على مفارقة عفرين ثانيةً ولكن هذه المرة مع زوجته وأطفاله الثلاثة.

تسكن العائلة اليوم في أحد مخيمات مُهَجَّري عفرين بريف حلب الشمالي، حيث لا تفصله سوى بضعة كيلومترات عن سجن حلب المركزي؛ المكان الذي قضى فيه أسوأ سنوات حياته على الإطلاق.

وفي عودة اختيارية إلى قرية الأحداث حيث يقع سجن الأحداث الذي لا يبعد عن سجن حلب المركزي أكثر من ثلاث كيلومترات، يقترب محمد من سور السجن، ينظر إليه من بعيد وتدمع عيناه رغماً عنه: “لا أريد أن تقع عيناي على سور سجن ثانيةً.”

يعتمد على رؤوس أصابعه ليرفع نفسه مختلساً النظر من خلال الفتحات الموجودة بين قضبان الباب الحديدي نحو باحة السجن.

تبقى نظراته معلّقةً للحظات في خط الأفق دون أن ينبس ببنت شقة، يقترب من كوةٍ صغيرة في جدار السجن، “في سجن مسلميّة، كانت أمي تقف في مثل هذا المكان حين تأتي لزيارتي أيام الأعياد.”

يحاول محمد أن يشيح بوجهه كلما فاضت مشاعره ولكن ملامحه التي حفرت فيها المعاناة أخاديد عميقة لا يمكنها أبداً أن تخفي قضاءه سنوات طويلة خلف الأسوار التي ظنَّ أنه لن يرى الحياة خارجها مرةً أخرى.

إعداد: دجلة خليل – تحرير: إبراهيم خليل