أثار الاتفاق الذي وقِّع بين بغداد وأربيل قبل نحو أسبوع بشأن قضاء شنكال (سنجار) الكثير من الردود والجدل، بين مرحِّبٍ وصفه بالتاريخي، ومتحفِّظٍ وجَّه له العديد من الانتقادات، ورافضٍ بوصف الاتفاق يتجاهل مشاركة أبناء شنكال في رسم المستقبل الأمني والسياسي والإداري لمنطقتهم، ومعظم الرافضين للاتفاق، كانوا من أهل شنكال الذين تعرضوا لأقصى أشكال الإبادة الجماعية خلال هجوم داعش على شنكال في الثالث من آب/أغسطس عام 2014، ولعلَّ هؤلاء يتذكرون جيداً، كيف أن القوات التابعة لبغداد وأربيل وقتها تركتهم لقدرهم أمام هجوم داعش الذي قتل قرابة ثلاثة آلاف إيزيدي، وهجَّر نحو أربعمائة ألف من ديارهم، وسبى آلاف النساء والفتيات، ووزعهم على مسلّحيه قبل أن يتاجر بهم في أسواق الرقيق… وقتها لم يهرع أحد لمساعدة الإيزيديين في وجه هجوم داعش سوى قوة عسكرية من حزب العمال الكردستاني قُدِّرت بمئات المقاتلين، ونجح هؤلاء بمساعدة أبناء شنكال في تشكيل مجموعات عسكرية لمواجهة داعش، وإفشال هجومه الذي كان مخططاً له أن يتوسّع ليشمل المناطق المحيطة بشنكال، قبل أن تتنظم هذه المجموعات في وحدت حماية شنكال وغيرها من القوات التي منعت من إبادة كاملة للإيزيديين، وقد بقيت الأمور هكذا إلى أواخر عام 2015 حين قَدِمت بيشمركة إقليم كردستان لتحرير شنكال من داعش، وهنا بدأ التنازع على الصلاحيات والإدارات، حيث بقيت الأمور هكذا إلى أن حصلت أحداث ما بعد الاستفتاء في إقليم كردستان العراق، عندما سيطرت القوات العراقية والحشد الشعبي على معظم المناطق المتنازع عليها مع الإقليم، ولا سيما شنكال وكركوك وخانقين ومخمور، وأمام استقرار الأوضاع نسبياً بعد الهزيمة التي ألحقت بداعش، أعلن حزب العمال الكردستاني في مارس/آذار عام 2018 عن سحب قواته من هناك، ولا سيما أن وجوده هناك بات حجةً دائمةً لتركيا في التصعيد ضد العراق، والاعتداء على المناطق الكردستانية، والقيام بعمليات اغتيال طالت العديد من القادة والمقاتلين الأكراد، ولا سيما من المرتبطين بالإدارة الذاتية التي تأسست في شنكال لإدارة أمور المنطقة.
تركيا وشنكال
تتمتع منطقة شنكال بأهمية استراتيجية كبيرة لكلٍّ من العراق وإيران وتركيا وسوريا وإقليم كردستان، إذ أنها منطقة تتوسط هذه الدول، وتشكِّل ممراً أمنيا وعسكرياً وتجارياً، وسط خصوصية قومية ودينية للمنطقة، فهي المعقل الأساسي للديانة الإيزيدية في العالم، حيث معبدهم التاريخي “لالش”، والمكان الوحيد تقريباً للحفاظ على تراث وثقافة وعادات أبناء هذه الديانة، ولعلَّ هذا ما جعل الدولة العثمانية تركّز على هذه المنطقة، إذ تقول الدراسات التاريخية إن الدولة العثمانية وضعت خطة في منتصف القرن الثامن عشر للقضاء على الإيزيديين في شنكال بعد أن حافظوا على هويتهم، حيث تمثلت الخطة في تنظيم حملات إبادة ضدهم، وإرسال حملات عسكرية إلى مناطقهم باستمرار للضغط عليهم، وإيفاد بعثات تبشيرية لإقناعهم بتغيير دينهم من الإيزيدية إلى الإسلام، وتحويل مراقدهم ومزاراتهم الدينية إلى مدارس عثمانية، وإحداث تغيير ديمغرافي من خلال إسكان قبائل وعشائر عربية وإغراء هذه القبائل والعشائر بمنحها أراضي الإيزيديين الذين كان يتم تهجيرهم، وفي كثير من الأحيان اعتبرتهم الدولة العثمانية مرتدّين عن الدين الإسلامي وجب قتالهم والقضاء عليهم، وكانت هذه السياسة سبباً في تعرض الأيزيديين إلى التقوقع والجوع والحصار والحرمان إلى أن أنهارت الدولة العثمانية عقب الحرب العالمية الأولى. ومع أن الدولة العثمانية انتهت إلا أن نظرة تركيا أردوغان لم تختلف كثيراً تجاه شنكال، حيث لم تتحرك تركيا لنجدة الإيزيديين في مواجهة هجوم داعش الدموي ضدهم، وحين تصدى حزب العمال الكردستاني لداعش، جعلت تركيا منه قضية للتصعيد والتهديد الدائم بالقيام بعملية عسكرية في شنكال وسط أعمال اغتيال وعمليات قصف استهدفت المنطقة طوال السنوات الماضية. وعليه لم يكن مستغرباً أن تكون تركيا من أوائل الدول التي أعلنت تأييدها لاتفاق بغداد-أربيل بشأن شنكال، بل أن سفيرها في بغداد، فاتح يلدز، سارع إلى القول إن الاتفاق يهدف بالدرجة الأولى إلى إخراج القوات الإرهابية من شنكال، وذلك في إشارة إلى حزب العمال الكردستاني، والاستعداد للتعاون مع بغداد لعقد اتفاقات مماثلة في شمالي العراق، وكأنه كان يقول بطريقة غير مباشرة إن تركيا هي جزء من الاتفاق، وإن تركيا هي صاحبة المصلحة الأولى منه، ولعلَّ هذا ما دفع بكثيرين إلى ربط هذا الاتفاق بالمحادثات التي جرت بين رئيس الوزراء العراقي، مصطفى الكاظمي، ورئيس الاستخبارات التركية، هاكان فيدان، خلال الزيارة الأخيرة التي قام بها الأخير قبل أشهر إلى بغداد. إذ أن ما يهمّ تركيا في هذا الاتفاق جملة مسائل أساسية:
الأولى: منع أيّ وجود لحزب العمال الكردستاني في منطقة شنكال.
الثانية: إبعاد الإدارة الذاتية التي تأسست في شنكال عن المشهد على اعتبار أنها تشكّل واجهة سياسية لحزب العمال.
الثالثة: إبقاء هذه المنطقة مفتوحة أمام تركيا بوصفها الجسر الذي يربطها بمناطق التواجد التركماني ولا سيما كركوك.
الرابعة: التطلّع إلى زيادة نفوذها هناك ولا سيما في ظل التنافس مع إيران على استقطاب القوى المحلية في الموصل وعموم شمالي العراق وإقليم كردستان.
الخامسة: تعزيز وجودها العسكري في المنطقة في إطار خطتها لإقامة العشرات من القواعد والنقاط العسكرية هناك، بما يشكّل كلّ ذلك دعماً لقاعدتها العسكرية في بعشيقة، وتعزيز شروطها مع بغداد التي تطالبها بسحب قواتها من بعيشقة.
السادسة: خلق واقع أمني وعسكري وسياسي جديد في شنكال، لا يكون على توافق مع الإدارة الذاتية في شرق الفرات بسوريا، حيث تراهن تركيا على محاصرة هذه الإدارة من كلّ الاتجاهات، وهي تدرك أهمية شنكال لشرق الفرات بحكم التجاور الحدودي.
انطلاقاً من هذه الأسباب وغيرها، بدت تركيا مؤيدةً بشدة لاتفاق شنكال، ومشجعة لتكرار هذا النموذج في أماكن أخرى.
امتحان الاتفاق
بدا اتفاق شنكال حصيلة رغبة مشتركة بين حكومتي بغداد وأربيل، ولكلِّ طرفٍ أهدافه وغاياته المختلفة، ورغم وجود بنود إيجابية كثيرة في الاتفاق، ولا سيما لجهة العمل على إعادة النازحين الإيزيديين إلى مناطقهم وتقديم الخدمات وإعادة الإعمار… إلا أن ثمة استفسارات وأسئلة كثيرة تطرح عن الغايات والتحديات، ولعلَّ في مقدمة هذه الأسئلة: أين دور المؤسسات المحلية القائمة في شنكال في الاتفاق؟ ماذا عن مشاركة أهالي سنجار في المؤسسات الأمنية والإدارية التي ستتشكّل لحماية شنكال وإداراتها؟ لماذا لم يتم التشاور معهم أساساً؟ هل سيتم إبعاد الحشد الشعبي عن شنكال؟ وهل سيقبل الحشد بذلك؟ ماذا عن موقف إيران التي لها جماعات مسلّحة هناك؟ ماذا عن الدور الحقيقي لتركيا في هذا الاتفاق في ظل التصريحات التركية التي نشهدها؟ والسؤال الأهم: ماذا لو صعّد أهل شنكال من رفضهم للاتفاق ومضت بغداد وأربيل في نهج تقاسم الأمور دون مشاركتهم؟ أسئلةٌ كثيرة، قد لا تتوفر إجابات شافية لها، لكنها تشكّل امتحاناً حقيقياً للاتفاق، وفيما إذا كان الاتفاق سيشكّل نموذجاً يتكرر في مناطق أخرى لحل القضايا الخلافية بين بغداد وأربيل أم أن ثمة بصمات إقليمية وحتى أميركية تقف وراء هذا الشكل من الاتفاق، وفي هذا التوقيت الحساس الذي يوحي بمحاولة إعادة ترسيم الخرائط وسط ترقّب لقدوم إدارة أميركية جديدة.