واشنطن إذ تسرّع الاتفاق الكردي

رشحَ القليل من الزيارة الخاطفة التي قام بها المبعوث الأميركي الخاص إلى سوريا، جيمس جيفري، رغم أن استشراف أسباب الزيارة كان ممكناً ويسيراً، ذلك أنّ الغاية من الزيارة جاءت لدفع الطرفين الكرديين إلى تسريع إبرام اتفاقهما، فضلاً عن إبداء شيء من الثبات في مواجهة النفوذ الروسي المتنامي شرق الفرات، لا سيّما في دير الزور.

يؤمّن الاتفاق الكردي الحجج الموضوعيّة للولايات المتحدة لاحتواء الاعتراضات التركية المستمرّة، ويعكس إلى ذلك أهمية المنطقة ومقدّراتها في أي تسوية سياسيّة تكون واشنطن حاضرةً من خلالها، الأهم أن مشروع احتواء إيران في سوريا والعراق يمرّ بالمنطقة الكردية وشمال شرق سوريا وهذا الأمر حاضر بقوّة في الاستراتيجية الأميركية على الرغم من تشديد الخطاب الأميركي على مهمّة تعقّب خلايا داعش وإنهاء وجودها أو الخشية من إمكانية تجدّد التنظيم حال غياب التحالف الدولي.  

يذهب مراقبون إلى حدّ القول بأن الإلحاح الأميركي للوصول إلى تسوية سياسية بين المجلس الوطني الكردي وأحزاب الوحدة الوطنية الكردية مردّه أن الانتخابات الأميركية في حال خسارة ترامب قد تدفع بالرئيس في الفترة الوجيزة قبل تسليم السلطة إلى اتخاذ قرار “انتقامي” بالانسحاب من سوريا ينال من رؤية الاستراتيجيين الأميركيين في الكونغرس والبنتاغون، إذ يطمح هؤلاء البقاء في سوريا والعراق، ويسعون إلى مضاعفة عديد القوّات الأميركية على الأرض، خاصةً وأن فكرة مجابهة إيران تبدو أساس مشروع جو بايدن وفريقه الديمقراطيّ في الشرق الأوسط، بذا تصبح مسألة إنجاز الاتفاق الكردي، الذي لم تُعِره الولايات المتحدة أدنى اهتمام في مراحل سابقة، مهمّة أميركية مستعجلة للحفاظ على موطئ قدم في منطقةٍ تعجّ بالخصوم حال قرّر الرئيس الأميركي الانسحاب أو تخفيض عديد القوّات أو منح أنقرة حق اقتطاع مساحات حدودية إضافيّة.

التركيز الحالي منصبٌّ على الوصول إلى اتفاق ناجز دون الخوض في التفاصيل، لذا تدفع واشنطن إلى ترحيل القضايا الخلافيّة، أو التفاصيل، إلى مراحل لاحقة، غير أنّ الأطراف الكردية مولعة بالتفاصيل التي يمكن مناقشتها فيما بعد، أي بعد إنجاز الاتفاق السياسي، كمسألة المناهج الدراسية والتعليم، وسواها من مسائل.

أبدى الاتحاد الديمقراطي الكثير من المرونة على مدار جولات التفاوض، في مقابل صدور أصوات في الجهة المقابلة تؤكّد على التفاصيل كمسألة وجوب تحديد الاتحاد الديمقراطي علاقته بحزب العمال الكردستاني، رغم أنّ الدور السياسيّ لكرد سوريا يدعو إلى شكلٍ من أشكال التوازن: عدم استعداء تركيا وعدم استعداء العمال الكردستاني أيضاً؛ فالمسألتان لا ينبغي لهما أن تقعا في مدار النقاشات الكردية السورية، يضاف إلى ذلك أن الولايات المتحدّة هي المنوطة بتحديد العلاقة بين كرد سوريا والعمال الكردستاني، وبطبيعة الحال يستطيع الاتحاد الديمقراطي السجال في ذات الاتجاه ومطالبة المجلس الوطني الكردي بتحديد موقفه من تركيا ومن الائتلاف والإخوان المسلمين، لكن حصول مثل هذا الأمر سيجعل الحوارات تراوح في مكانها إن لم نقل أنه سيودي بالاتفاق ويُجهِز عليه، ولعلَّ إدراك الولايات المتحدة لحساسية هذه الموضوعات دفع بمبعوثة الخارجية الأميركية، زهرة بيللي، إلى طلب ترحيل مسألة علاقة الاتحاد الديمقراطي بالعمال الكردستاني إلى وقتٍ لاحق.

بالعودة إلى ما رشحَ من لقاء الأطراف الكرديّة بالمبعوث الأميركي، طلبت الأحزاب الكردية من الولايات المتحدة تقديم تطمينات لئلّا تُقدِم تركيا على أي أعمال عدائية، ورغم العلاقة الوطيدة بين جيفري وساسة أنقرة، فإن ما نُقِل على لسان جيفري بأنّ واشنطن ستحول دون حصول أي تدخّل تركي، منح الأطراف الكردية دفقة أمل.

من المسائل المرحّلة إلى وقتٍ لاحق كانت مسألة تواجد قوّات سوريا الديمقراطية في الرقة ودير الزور، رغم أن هذه الورقة تمنح كرد سوريا الأفضلية في أي تسوية سياسيّة فإن المجلس الكردي يدعو إلى تقليص مساحة انتشار “قسد” والتي لم تَعُد قوّاتٍ كردية صميمة بالنظر إلى طبيعة تشكيلها الوطني والعابر للقوميات، ولعلَّ هذه المسألة على وجه التعيين لن تحظَ باهتمام الولايات المتحدة، وفي حال أصرّ المجلس الكردي على هذه المسألة لاحقاً، فإن منطقة شمال شرق سوريا قد تخضع لإدارتين، منطقة (أ) وهي المناطق ذات الغالبية الكردية والتي ستدار بين طرفي الاتفاق الكرديين وبمشاركة عربية سريانية  آشورية، ومنطقة (ب) تُدار من قبل “قسد” وشركائها المحليين في الرقة ودير الزور، لكن المنطقتين ستبقيان متحالفتين مع واشنطن بالضرورة.

بعيداً عن الاستفاضة في لعبة تحديد “جنس الملائكة” التي تتقنها الأحزاب الكردية، فإن المطلوب كردياً هو تسريع عملية الاتفاق، والتحلّي بأفقٍ أوسع عبر إشراك الأحزاب خارج قوس الطرفين المتفاوضين، لا سيّما حزبي الديمقراطي التقدّمي والوحدة، وهي مسألة باتت وجدانيّة، أكثر ممّا هي سياسيّة، إذ كيف لوحدة سياسية و”مرجعية” قومية يكون أول غيثها استبعاد أحزاب أخرى؟

تبقى المرحلة المتمّمة التي لا تقل أهمية عن “وحدة الصف” الكردي، وهي مرحلة الحوار الكردي-العربي-السرياني في شمال شرقي سوريا، ومن ثمّ الانتقال إلى مرحلة الثقة بالنفس لتأسيس قطب ديمقراطي سوريّ، بعيداً عمّا يُراد لكرد سوريا أن يصبحوا شركاء لـ”معارضةٍ” مشكوك في نسبها الديمقراطي والنضالي.

تُسرّع واشنطن اتفاق الأطراف الكرديّة، هذا شأنها بطبيعة الحال وهذه مصالحها، لكن شأن كرد سوريا ومصالحهم تقتضي الإسراع في الوصول إلى صيغة اتفاق نهائي، وتجاوز منطق المحاصصة واختلاق الأعذار والمبررات.