إيقاظ الفتنة في شرقي البلاد

على وقع اغتيال وجهاء عشائر في دير الزور، لا سيّما اغتيال الشيخ مطشّر الهفل، أحد أبرز وجهاء قبيلة العكيدات العربيّة، تصاعد الشقاق بين قوّات سوريا الديمقراطية “قسد” وبعض وجهاء هذه القبيلة، ودون الخوض في أيّ تحليل جنائيّ الطابع، يمكن تلمّس حالة الغموض التي تكتنف حادث اغتيال الهفل، في حين قد تجلي العبارة الجنائية “فتّش عن المستفيد” شيئاً من الغموض، وتكشف إلى ذلك عن الأطراف المستفيدة من حالة الاضطراب الحاصل، وتأزيم العلاقة بين قسد والقبائل.

يساهم الغموض الدائر حول حادث الاغتيال في نفوذ أطراف عديدة إلى قلب المشهد في الريف الشرقيّ لدير الزور، كسعي دمشق إلى النفوذ إلى قلب المشهد بالاتكاء على أبناء القبائل في محاولة حثّهم على الصدام مع قسد وقوّات التحالف، وفق منهج أسبق اتخذته دمشق في العراق إبان الاحتلال الأمريكي، حين دعمت “المقاومة العراقيّة”.

تسعى تركيا أيضاً عبر ذراعها السوريّة “الائتلاف” النفوذ عبر شقوق الخلاف، وما تصريحات رئيس الائتلاف نصر الحريري وحملته المحمومة بالضد من قسد سوى جزء من بروباغندا تركية-ائتلافية، ورغم حجم التهميش والإقصاء اللذين طاولا العشائر العربيّة في مناطق الاحتلال التركيّ، لكن لا ضير من المحاولة والإسراع إلى التواصل مع “الغاضبين” في المنطقة الشرقيّة وتجريب سياسات الترغيب، والاعتماد على أبناء القبائل المقيمين في شانلي أورفا التركيّة.

إلى ذلك، ثمة مستفيد آخر من حالة الاضطراب، حيث “داعش” التي تصارع الفناء، والتي وُلدت من الفوضى العارمة التي عمَّت شمال شرقيّ سوريا وغربي العراق، لذا تصبح الفوضى وحالة الاضطراب البيئة المثلى للقيامة الثانية التي يسعى إليها التنظيم، ناهيك عن رغبته في الثأر لهزائمه المريرة.

بالعودة إلى تصريح لوزير الخارجية السورية، وليد المعلّم، في أواخر شهر حزيران/يونيو في معرض ردّه على سؤال أحد الصحفيين، أشار المعلّم إلى أن تحرّك الجيش العربي السوري سيأتي بعد أن يهبّ المواطنون في وجه الاحتلال الأمريكي وقسد، “هبّوا وستجدوننا خلفكم”، ولعلّ “الهبّة” والهجوم المسلّح الذي قام به ملثّمون على نقاط قسد ومجلس دير الزور العسكري، والتي أسفرت عن فقدان مقاتلين حياتهم، يمثّل الشطر الأوّل من البيت، فيما البيت الثاني لتدخّل النظام جاء عبر الاجتماع الذي رعاه النظام لأفراد من قبيلة العكيدات في حي الجورة بدير الزور، حيث توعّد المشاركون الذين أسسوا مجلساً عسكرياً يتزعمه أسد الهفل، فيما جاء التجويد على لسان الشيخ نواف راغب البشير، شيخ عشيرة البكارة، الرجل الذي ضلع في مهمّة إنشاء ميليشيات ضد النظام ثمّ تشكيل أخرى لخدمة النظام، والبشير ضليع في إضافة لمسته المتشددة على كل من يدعو إلى محاربة قسد، إذ دعا إلى تشكيل مجلس قبائل لخوض “حرب مقاومة” و”حرب تحرير شعبية”، ولعلَّ هذا الإصرار المريع على توريط العشائر العربيّة في حروب دمويّة لا يخدم في جوهره أبناء المنطقة على مختلف انتماءاتهم القبليّة والإثنية، سوى أنه يصبّ في ساقية النظام التوّاق إلى إعادة المنطقة إلى حظيرته وبيت طاعته.

غير غافل عن مراقبي شؤون شمال شرقي سوريا أن الانقسامات عصفت بالقبائل والعشائر، كبراها وصغراها، وتنوّعت ولاءاتها طبقاً لتوجّهات زعاماتها، وبذا لا يمكننا الحديث عن قبيلة منضوية في كلّيتها أو خالصة الولاء لطرف واحد، ما يعني أن الحرب، إن قامت واستحكمت، فإنّها ستأتي على القبيلة الواحدة بويلات ومآسٍ لا يمكن التكّهن بشدتها.

في إزاء هذه اللوحة، شديدة التراكب والتعقيد، يبدو خيار الاحتكام إلى الحوار ومعالجة المشكلات والخوض في تحقيقات جدّية ونزيهة، الخيار الأنسب، بدل لغة الاستقواء بالآخرين، وحمل أسلحتهم على أكتاف أبناء القبائل، ولعل الإنصاف يقتضي الالتفات إلى تجربة الحرب السوريّة، حيث لم تؤدي لغة السلاح سوى إلى المزيد من فقدان فرص التعايش الاجتماعي على المستوى القريب والمتوسّط، وعليه ليس أمام الأطراف المتحفِّزة إلى استخدام لغة البندقية مروحة خيارات، حيث لا خيار سوى الاحتكام إلى منطق الحوار وحل المشكلات بالوسائل السلميّة، ولعلّ ما يشجّع على رجحان كفّة حل النزاعات بالوسائل السلميّة هو عدم رغبة أبناء المنطقة العودة إلى حكم النظام المباشر على ما يحمله من نزعةٍ ثأرية يمتاز بها النظام الذي لا يعرف كيف يسامح أو ينسى، وأيضاً خشية أبناء المنطقة من انتشار الفوضى على ما تحمله من مخاطر تجدد العنف والإرهاب، وكذا عدم الرغبة في استنساخ تجربة المناطق التي احتلتها تركيا برفقة الميليشيات السوريّة المعارضة.

هل يفي بالغرض استذكار التجربة العراقية حين شكّل المتن العشائري السنّي رأس الحربة في مشروع دحر الاحتلال الأمريكي، ثم حين خرج الأمريكان من العراق المنقسم طائفياً، كان جزاء العشائر السنّية “جزاء سنمار”، إذ استبعدوا عن حكم المنطقة وتُركوا نُهباً للجماعات المتطرّفة ونزلاء للسجون أو منفيين على أفضل حال، ذلك أنهم لم يفكّروا مليّاً باليوم التالي لخروج “الاحتلال” وتغلّبت عقلية “كل شيء أو لا شيء” على لغة السياسة.

في مطلق الأحوال، ستبقى مصائر أبناء المنطقة معقودةً على اتفاقهم، مع وجود قوّات التحالف أو حال خروجها، لكن أن يدخل أبناء المنطقة في الحسابات المعقّدة لأطراف النزاع السوري وحسابات الأطراف الإقليمية والدوليّة، فهذا لن يعني أكثر من زج المنطقة بعشائرها وإثنياتها في صراعٍ عدميّ مديد.

ثمّة من أيقظ الفتنة في شرقي البلاد، لكن وقبل كل شيء علينا أيضاً أن نعلم بأن الفتنة، في المناطق متعددة الإثنيات والأديان والعشائر، لا تغطّ في نومٍ عميق، وتصحو حال لمسها، كما حصل في المنطقة الشرقية بدير الزور خلال الأيام القليلة الماضية.