رموز عثمانية في دمشق تخلق جدلاً في الوسط الثقافي
دمشق – أحمد كنعان – نورث برس
لم تشهد دمشق طيلة سنوات الحرب السورية، مطالبات بإزالة الرموز العثمانية، رغم مبادرة دول عربية أخرى إلى ذلك، بسبب الموقف السياسي من الحكومة التركية.
ورأى فنانون وباحثون سوريون أنّ الرموز العثمانية غدت جزءاً من تاريخ دمشق، ومعالم هامة للمدينة، لكنهم لم يخفوا رغبتهم بالتعريف بالحقبة العثمانية والأحداث “المؤلمة” التي تخلّلتها.
ففي نهاية الطرف الشمالي لسوق البزورية بدمشق القديمة، يتربّع “قصر العظم” الذي يُعتَبرُ نموذجاً للفن المعماري الإسلامي المطوَّر.
ويعود تاريخ بنائه إلى عام 1749 على يد أسعد العظم، وبعد أربعة أعوام بُني على مقربةٍ من القصر، “خان أسعد باشا العظم”.
وخارج سور دمشق، هناك “التكية السلمانية” نسبة إلى سليمان القانوني، والتي بُنيت عام 1554، وكانت تقدِّم المأوى والطعام لعابري السبيل والفقراء والحجاج.
وأشرف على بناء “التكية السلمانية” المهندس ملا آغا، في الموقع ذاته الذي كان يقوم عليه قصر “الظاهر بيبرس” المشهور بقصر “الأبلق”.
ولكن أبرز الرموز العثمانية وأكثرها شهرةً، هو النُصب الذي يتوسّط ساحة “الشهداء” (المرجة).
وعن النُصب، قالت الباحثة في التاريخ اللامادي، منار ظفور، لـ”نورث برس”: “لم يدخل العثمانيون بلادنا بعد معركة مرج دابق، بالورود وأغصان الزيتون، وإنما دخلوها بالمجازر ليسيطروا على الخيرات والثروات”.
واستشهدت “ظفور”، بمقولة المؤرّخ اللبناني، فيليب حتي، عن أفعال سليمان القانوني بعد معركة القابون سنة 1521، “أعادوا بناء الأسواق والحمامات والجوامع والتكايا، بإضافة لمسات عثمانية، في محاولة لطمس الهوية المعمارية الدمشقية”.
وأضافت ممثلة سوريا في المنظمة الاستشارية للحفاظ على التراث والفلكلور التابعة لليونسكو أنّ النُصب هو محاولةٌ لترك لمسات عثمانية، لغاية طمس الهوية الدمشقية.
واعتبرت أن رمز “الهلال والنجمة”، “مسروقٌ” من الحضارة السورية القديمة، فهو رمز لآلهة عشتار، ومُجسَّم جامع “يلدز” أو “سراي” هو نموذج عن الجامع الأموي.
وأشارت إلى أنّها ضد إزالة النُصب لأهميته التاريخية، ولأن كلَّ الرموز عليه، هي رموز سورية مسروقة، على حدِّ قولها.
وقالت “ظفور”: “بضاعتنا رُدَّت إلينا، ولكن لا بُدّ من تصحيح المعلومات الخاطئة عن النُصب، وكشف التزوير والتحريف في الوقائع التاريخية”.
ولا بُدَّ من “تسليط الضوء على حقيقة أنّ العثمانيين هم قبائل رعوية ارتكبوا المجازر والإبادات الجماعية بحق الحضارات الأخرى وسرقوا منجزاتها وادّعوه لأنفسهم”، بحسب قولها.
وأُنشئ نُصب التلغراف عام 1907، في ساحة المرجة وسط مدينة دمشق، من قِبل الفنان الإيطالي ريموند توماسو دي ارونكو، والذي كان كبير مهندسي السلطان العثماني عبد الحميد الثاني.
وسُمّي بـ “نُصب التلغراف”، بمناسبة تدشين الاتصالات البرقية بين دمشق والمدينة ومكة، وتزامن ذلك مع افتتاح خط سكة حديد الحجاز.
أمّا جورج عشي، وهو فنان تشكيلي، فقال لـ”نورث برس”: “أنا ضدّ إزالة أو تهديم أي عمل فني حتى ولو ارتبط وجوده بالأعداء والمحتلين”.
وأضاف “عشي” أن “بقاء هذا النُصب يجب أن يترافق بنشاط ثقافي دوري، يذكِّر الناس بالمجازر والفظائع التي ارتكبها المحتلّ العثماني”.
وأشار إلى أن “النُصب موجودٌ في المكان الذي أعدم فيه العثمانيون أشراف المجتمع السوري”، في إشارة منه إلى السوريين الذين أعدمهم جمال باشا الشهير بـ”السفّاح” في الـ/6/ من أيار عام 1916.
وختم “عشي” حديثه ساخراً: “بكلّ الأحوال، فإن شكل النُصب يشبه شكل الخازوق العثماني الشهير، لعلَّ في ذلك دلالة ما”.
والنُصب عبارة عن عامود مرتفع ضخم من البرونز الصافي، عليه زخرفات على شكل أسلاك كهربائية في دلالة إلى سبب إقامته، وهو تدشين الاتصال البرقي.
وصُنعت قاعدة النُصب من حجر البازلت الأسود، ومحفورٌ عليه من الجهات الأربع شعار الهلال والنجمة، وفي أعلى العمود مُجسَّم لمسجد يلدز (جامع سراي) في إسطنبول.
وقال النحات معن محمود، المقيم في مَشغله بمدينة صحنايا جنوب دمشق، لـ”نورث برس”: “لا يمكن اعتبار النُصب عملاً فنياً، فهو شكل هندسي معماري صرف، خالٍ من الجمال الفني”.
وأضاف أن “وجود مُجسَّم الجامع في ذروته يحيله إلى عمل ديني ترويجي ويخرجه من دائرة الفن”.
وأشار إلى أن الأهمية التاريخية للنُصب، لا تبرر بقاءه وسط العاصمة، “حين أتجوّل في دمشق، أتجنب النظر لهذا النُصب لأنه يذكرني بالجرائم البشعة التي ارتكبها العثماني بحق أسلافنا”.
وقال: “إذا كان لا بُدّ من الحفاظ على النُصب وما يشبهه لغاية علمية بحتة، فلما لا يُقام متحفٌ لرموز “الاحتلال العثماني” لتصويب المعلومات الخاطئة التي يتناقلها الناس عن هذه الرموز.
و تساءل لما لا تُستبدلُ منحوتةٌ لنحات سوري تُعبِّر عن منجزٍ سوري خالص بهذا النُصب؟
وقال: “من غير المعقول بقاء النُصب أكثر من مئة عام للاحتفاء بتدشين العثماني لاستخدام التلغراف، وفي ذات المكان الذي اُرتكبت فيه جريمة إعدام شهداء /6/ أيار”.
ووُضِع النُصب في عهد الوالي العثماني على دمشق، حسين ناظم باشا، ورغم تجديد ساحة “الشهداء”، وتدشينها في العام 1994، إلّا أنّه لم يتم إزالة النُصب أو استبداله.