القومية والتجارة في كردستان

تأسست الصيغة الحديثة من القومية الكردية منذ نهايات القرن التاسع عشر، على بُنى اجتماعية فريدة من نوعها، وذلك مقارنةً مع الحركات القومية المجاورة، في فارس وبغداد وسوريا والأناضول. فهي في تكوينها الفوقي نتاجُ مساهمات من شريحة قيادية تضمُّ إقطاعيين ورجال دين من الطريقتين النقشبندية والقادرية، وبدرجةٍ أقل، ضباطاً عسكريين في الجيوش العثمانية، وموظفين كباراً في البيروقراطية الإدارية العثمانية.

بمقارنة البُنى الاجتماعية للقومية الكردية مع نظائرها التركية، فإن الأخيرة امتازت بطغيان المكوِّن العسكري الهائل في التأسيس للصيغة المُبكِّرة للقومية، من جنود وجنرالات، ثم بدرجة أقل بين الدبلوماسيين والموظفين الإداريين والتجار، لكنها نالت نصيباً سيئاً من مساهمات رجال الدين والإقطاع.

في إيران، الصيغة متمايزة أيضاً، وهو أن الدعوة الفارسية الفضفاضة التي مهدت لإنهاء سلالة القاجار، ارتكزت بشكل رئيسي على البازار والحسينيات والطبقة المثقفة في المدينة، وهي-بالمقارنة مع التركية والكردية- أكثر الفلسفات السياسية تمدّناً والأقل استناداً للطبقة العسكرية (في بداياتها حتى استلام رضا بهلوي الحكم عام 1825).

هناك في كل تكوينٍ عناصر تطغى على أخرى في البُنى الاجتماعية التأسيسية للسياسات القومية. وما يلفت في الحالة الكردية غياب العنصر التجاري، التجارة والتجار، من المساهمة في رفد هذه السياسات القومية وفق ما تخدم مصالح فئة التجار. بذلك، هناك مفارقة في الحالة الكردية، وهو أنها بالمقارنة مع الحالتين الفارسية والطورانية التركية، فإن الفئات المشاركة في صياغة القومية الكردية، باستثناء طبقة أميرية قليلة العدد، لم تكن ذات مصلحة مادية مباشرة في تكوين دولة كردستان، رغم ذلك قامت فئات واسعة من الإقطاعيين ورجال الدين والضباط، بالتضحية بمصالحهم المادية (المنفعة الخاصة)، مقابل الإسهام في الرؤية السياسية القومية (كردستان)، وهي رؤية كان حظها في الفوز ضئيلاً في أفضل الحالات.

يمكن سوق فرضية في هذا السياق، رغم افتقارها للاختبار الأكاديمي، وما إذا كان فعلاً هناك طريقة لإثباتها وفق قواعد علمية. تقول هذه الفرضية إن الفئات المساهِمة في الدفع بالقومية الكردية سياسياً، هي الأقل استفادةً من عائدات هذا المشروع، من الناحية المادية، لدى مقارنة العائدات المادية والسلطوية والتجارية، لدى الفئات التركية والفارسية المساهِمة في مشروع الدولة القومية الحديثة. ولا يبعث الأمر على الدهشة في القول، وفق ما يظهر في كتابات وحركات القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين، إنه من ناحية الشعور المجرّد والولاء المنزّه عن أي دوافع مادية طبقية أو فئوية، حظيت القومية الكردية بالنصيب الأكبر من الإخلاص، لكنها في المقابل، كانت الأقل في تأمين المصالح المادية السابقة للفئات القيادية في المجتمع، وهذا ما انعكس في مناعة نسبية، لكن ملفتة، من الدعوة القومية، لدى طبقة التجار في المدن ذات القاعدة القومية المبكِّرة، كالسليمانية وآمد وكرمانشاه.

ينبغي الحذر لدى مناقشة مساهمات التجار في السياسات القومية المبكِّرة، لأن هذه الفئة كانت أقليّة صغيرة، وكان عدد الكرد فيها ضئيلاً مقارنةً مع اليهود والأرمن وبقية الطوائف المسيحية في مدن كردستان وأرمنستان. فضلاً عن أن المدن الداخلية تدهورت مادياً طيلة القرن التاسع عشر، بسبب التركيز على تنمية الموانئ البحرية ومدنها، نتيجة التحوّل الرأسمالي العالمي. على أن ما لا يستدعي الحذر هو -بغضّ النظر عن الخلفيات غير الكردية لغالبية التجار- هو ما إذا كانت رؤية القومية الكردية، كمشروع سياسي يتطلّع لجغرافيا مستقلّة، قد كانت ملائمة للتجارة بصيغتها السائدة في نهايات القرن التاسع عشر ومطلع العشرين. وما هي الظروف التي أدت إلى إبعاد التجار أنفسهم -على قلّتهم كما أسلفنا- عن المساهمة النوعية في الحراك السياسي، وذلك على خلاف تجار الفرس الذين كانوا الروح المادية للتحرر من الفساد القاجاري والامتيازات البريطانية المُجحِفة في إيران، وكذلك على خلاف نسبة كبيرة من تجارٍ عربٍ في الموصل وبغداد ودمشق، الذين دعموا أحزاباً سياسية قومية عربية، وموّلوا غالبية نشاطاتها، كما في حالة حزب العهد الوطني مع تجار الموصل في نهاية الحرب العالمية الأولى.

لم يكن للكردية، كمشروع قومي، حظٌّ مع التجارة والتجار، في مرحلة زمنية كان فيها للتجارة ومصالح التجار كلمة عليا في صنع وتوجيه السياسات على مستوى العالم.

لعلَّ جزءاً مهماً من الإجابة عن سوء حظ الكرد مع التجارة والتجار، يعود إلى المرحلة التحديثية من عمر الدولة العثمانية، بدءاً من الواقعة الخيرية ونهاية الانكشارية عام 1826. ومن أمثلة ذلك، السليمانية، كونها رائدة في طابعها القومي الحديث.

بعد القضاء على الباشويات الكردية جميعاً، منتصف القرن التاسع عشر، آل الحكم في المدن الكردية إلى متصرّفين وولاة كان يتم تعيينهم من الباب العالي، فاضطربت كردستان من أدناها إلى أقصاها، وتمرّدت القبائل على موظفي الدولة الغرباء، وارتفعت حاصلات الضرائب على الفلاحين، وزادت سطوة الإقطاعيين المحليين بسبب توسطّهم بين الدولة والأرض الزراعية، فقاموا بسحق الفلاحين بشكلٍ لم تشهده كردستان من قبل، خصوصاً في جنوبي وشرقي كردستان (كردستان العراق وكردستان إيران).

حين زار الرحالة البريطاني جيمس فريزر، مدينة السليمانية، عام 1834، قدَّر عدد سكانها بألف أسرة فقط.

سرعان ما حلَّ شيوخ الدين محلَّ الأمراء السابقين في قيادة المجتمع، وبرزت الطريقة الصوفية القادرية في السليمانية، والنقشبندية في باقي أنحاء كردستان، وشَرَعَ شيوخ كلا الطريقتين في حيازة الأراضي وجمع الضرائب، باستثناء مشيخة بارزان. من بين هؤلاء المشايخ، الشيخ سعيد البرزنجي، وهو والد الشيخ محمود الحفيد الذي قاد عدة ثورات كردية ضد الاحتلال البريطاني. وقد استولى الشيخ سعيد حتى مطلع القرن العشرين، على معظم الأراضي الزراعية في محيط السليمانية، وخلق خصومة مريرة مع قبيلة الجاف الكبيرة، وكذلك هاجم قرى الطالبانية جنوب السليمانية، فبحث المتضررون الكرد، بكافة طبقاتهم، ما عدا قبيلة الهموند، عن طريقة للتخلص من نفوذ الشيخ سعيد البرزنجي، فكان أن قُتِل الأخير في الموصل على أيدي أنصار الاتحاد والترقي، عام 1909. غير أن الإرث الذي خلّفه اجتماعياً كان قد هشَّم التوافق الكردي وأنهك موارد ومصادر عيشهم في المناطق التي طالتها يده، وأكثر فئة تضررت كان الفلاحون والتجار. وأدى تضييقه على أرباب التجارة إلى تغيير وجه السليمانية التي خلت من الكلدان والفرس واليهود، وتحوّل طريق التجارة والحج من إيران إلى نواحي أخرى بعيداً عن السليمانية. لا يعني هذا تصوير الشيخ البرزنجي كطاغيةٍ ومحبٍّ للشر، فالوارد أن رجلاً بمكانته العالية على مستوى الدولة العثمانية وليس فقط كردستان، كان يسير وراء رؤية مغايرة كان يعتقد أنها الأصلح للأوضاع في كردستان.

في نهاية القرن التاسع عشر، كانت طبقة الشيوخ في السليمانية قد اشترت جميع البساتين التي تحيط بالمدينة “ثم بدأ الشيوخ بنظام ضرائب يضمن دفع /300/ % على أحمال الفاكهة التي تدخل المدينة، باعتداد ذلك رسم دخول خاص، لذلك عمد كل مزارع، في غضون سنتين، إلى إشعال النار في أشجار الفاكهة التي يملكها، وفي تخريب قنى الإرواء العائدة له، ثم الهروب إلى أرض فارس لزراعة التبغ فيها”، وهي وقائع ومشاهدات نقلها الميجر سون عام 1908.

حتى بعد مقتل الشيخ سعيد، فإن نجله الشيخ محمود الحفيد، شنَّ حملة انتقامية ضد خصوم والده المحليين، واستطاع كسب ودِّ والي الموصل، وبالتالي الاتحاديين، واستمرّ في الخصومة مع طبقة التجار في المدينة. وكان مصدر اتهامه للتجار بالتحريض على قتل والده أن هؤلاء رأوا في انقلاب الاتحاد والترقي على السلطان عبد الحميد، بادرة خيرٍ على تجارتهم، وانضمَّ التجار للتنظيم، ومنهم حينها الآغا سعيد حاجي ملا، أثرى أثرياء تجار السليمانية بحسب وصف وثيقة استخباراتية بريطانية له في العام 1919. وحتى بعد جلاء هذه الأحداث وقيام الشيخ محمود بثورته عام 1919، ثم عام 1922، لم يسانده كبير تجار السليمانية، بل إن أحد التجار الكرد، ويدعى فرج ميرزا، قد استولى على مخزن التبغ الخاص بالشيخ محمود الحفيد، عقب فشل ثورة الأخير عام 1919. وكان لمعظم التجار ارتباطات ببغداد نتيجة الطرق الجديد للتجارة عقب ترسيم الحدود. وعليه، فمن كان قبل الاحتلال البريطاني يؤيد الاتحاد والترقي في سبيل إصلاح الوضع العام، فإنه غالباً انتقل إلى جانب بريطانيا بعد ذلك، ومنهم كبار تجار السليمانية، وبعضهم اختار بغداد كمكان للإقامة بين حين وآخر، مثل إبراهيم آغا خفاف حاجي. فهو أيضاً، على غرار معظم تجار كردستان، لم يجد له مكاناً في الحركة القومية الكردية المبكِّرة، والواقع هو أن رواد الحركة القومية أيضاً لم يسمحوا للتجار بحرية الحركة، ذلك أن مسار التجارة المتطلِّع إلى المدن الكبرى (بغداد-إسطنبول-طهران) كان يحوّل التجار الطموحين في مدن كردستان المهمّشة، إلى طفيليات مالية متطلّعة إلى الأسواق المجاورة الكبيرة. وليست الأزمة وليدة مطلع القرن العشرين، إنما تعود إلى طبيعة توازن المادي والعسكري للقوى في أنحاء كردستان. فقد تعرض الإقطاع لضربات كبيرة طيلة تلك الفترة، لكنه بقي صامداً كبنية اجتماعية، وانتقل إلى المدن كطبقة حاكمة متغلّبة، مدعومة في معظم المراحل بطبقة رجال الدين. وبينما كان حملة لواء الدعوة القومية من بقايا الإقطاع في المدن، ومن التكايا الصوفية في الأرياف، فإن التجار باتوا فئة ضعيفة، وأساساً لا يسمح فقدان الأمن على الطرق بنمو تجارة واسعة.

حين اتضحت ملامح القومية الكردية بأوضح صورة خلال ثورة عام 1925 شمالي كردستان، كانت التجارة كإسهام في الحركة القومية، جنيناً مشوّهاً يقف على حافة كردستان. ونظراً لنقص الوقائع الموثقة حول الحركة التجارية والتجار في تلك الحقبة، فإنه لا يمكن التمييز على وجه الدقة بين التجار كفئة اقتصادية، وبين الطفيليات المالية المنتشرة حتى اليوم والمتنكرة تحت اسم “التجار”.