"الميثاق الملّي".. حين قرر عصمت إينونو امتهان الزراعة

"الميثاق الملّي".. حين قرر عصمت إينونو امتهان الزراعة

 

يتردد الحديث عن "الميثاق الملّي" بشكل كبير في السنوات الأخيرة، تحت تأثير سياسة التوسع التركية باتجاه الجنوب، وانتشار وسائل إعلام تركية ناطقة بالعربية، إلى جانب حشد عربي يرى في تركيا هذه أداة ضد ما يسمونه "النظام التسلطي العربي"، ولا تختلف الفئة الأخيرة بشيء عن قرينتها التي رأت في تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) أداة ضد النظامين السوري والعراقي. ذلك أن "الجمهورية التركية"، وهي التعبير المقابل لما يسمى "النظام السياسي" عربياً، ليست كياناً إنقاذياً، ولا يوجد في أي من مبادئها المؤسسة، والمسيّرة للدولة حتى اليوم، أي رسالة تحريرية للآخرين.

 

قبل ذلك، لم يكن "الميثاق الملّي"، إعلامياً، شائعاً سوى بين الكرد، ذلك أنهم كانوا جزءاً منه، وسبباً في وجود الميثاق نفسه، ولذلك أراد الكرد محاكمة مصطفى كمال، في عام 1925، ليس للسبب الشائع أنه ألغى الخلافة، بل لأنه ألغى "الميثاق الملّي" بما تضمنه من بنود متفق عليها سلفاً في مؤتمري "أرضروم" و"سيواس" عام 1919، والمتضمنة الحكم الذاتي الكردي على الأراضي التي تشمل اليوم جغرافية الانتشار الكردي في تركيا والعراق وسوريا.

 

قائد بلا جنود

 

لم يكن مصطفى كمال قائداً رئيسياً في المشهد العسكري في سنوات ما قبل حرب الاستقلال، فقد كان يهيمن على المشهد العسكري قادة آخرون من الوزن الثقيل، أمثال كاظم قره باكير وعلي فؤاد وفوزي جقمق، وبات هؤلاء جميعاً قادة بالاسم فقط بعد الحرب، لأن الجيش قد تمّ تقليصه بشدّة بقرار من الحلفاء المنتصرين في الحرب العالمية، فضلاً عن الانهيار الذاتي وهروب الجنود بشكل جماعي إثر إعلان الهزيمة حال التوقيع على هدنة مودرس (1918). ولم يتبق سوى بضعة آلاف، لدرجة أن أقوى تشكيل عسكري متبقٍ كان تحت قيادة كاظم قره باكير، وهو الفيلق الخامس عشر، ومركزه أرضروم. تعداد هذا الفيلق حسب السجلات العسكرية التي نقلها "أندرو مانجو" في كتابه سيرة أتاتورك، /12/ ألف جندي و/22/ مدفعاً، وبالتعاون مع الفيلق الثالث الذي كان يضم /4700/ جندياً في سيواس، يتضح، بدون الاعتماد على وثائق تاريخية، أن مؤتمري أرضروم وسيواس، اللذان مهّدا لإعلان "الميثاق الملي"، وظهور مصطفى كمال، قد تمّ تأمينه من جانب قره باكير وعلي فؤاد، قبل أن يلتحق بهما مصطفى كمال لاحقاً، والذي كان قائداً بلا أي جندي حين كلفه السلطان بالتوجه إلى كردستان.

 

الأجواء التي رافقت المؤتمرين المذكورين، كانت في غاية السواد، فالدولة منهارة بشكل تام، ولا قدرة للجيش على تنظيم أي مقاومة فعلية غرب الأناضول المحتل من قبل الحلفاء، وبناء على ذلك، وفق ما تؤكده الرواية الكردية، وتلمح له الرواية التركية اللاحقة الخاضعة للتنقية المخابراتية، شكل المجتمعون في أرضروم حكومة كردية أطلق عليها اسم "جمعية الدفاع عن كردستان"، ثم تم نقلها إلى سيواس وتغيير اسمها إلى "جمعية الدفاع عن كردستان والأناضول" وذلك بعد أن بات هناك أمل في تنظيم المقاومة ضد الاحتلال اليوناني، انطلاقاً من كردستان.

 

في الواقع، فإن الشهادات التي نقلها أندرو مانجو في سيرة أتاتورك، وإيلبير أورتيلي في "الغازي مصطفى كمال"، تجمع على انهيار روح المقاومة في المناطق المحتلة، لكن في كلا السيرتين، هناك اتجاه مقصود لعدم الكشف عن تركيبة الحملة الأولى للمقاومة، المنطلقة من كردستان، وباسم كردستان. والاثنان، فضلاً عن الدراسات الخاصة بنهايات العثمانية وبدايات الجمهورية، مثل المؤلفة نعمة موسى جبلي في كتابها "السلطان وحيد الدين وأتاتورك"، يعتمدون جميعاً على مصادر تم تنقيحها لاحقاً بما يتوافق مع أيديولوجية الدولة التركية. لذلك، يمكن العثور بكثرة على مصطلحات حديثة النشأة، للالتفاف على اسم "كردستان"، مثل جنوب شرق الأناضول، منقولة على لسان كبار الشخصيات العائدة إلى تلك الفترة، أمثال قره باكير وفريد باشا داماد والسلطان وحيد الدين، ومصطفى كمال.

 

عموماً، ليس هذا بحثاً في سيرة حرب الاستقلال أو تأريخ "الميثاق الملي" المزعوم بشكله الحالي الذي تقدمه حكومة أردوغان، بل في أن الظروف السائدة في ذلك الحين كانت سوداوية لدرجة أن القائد العسكري كاظم قره باكير، المتورط الرئيس في الإبادة ضد الأرمن، يذكر في مذكراته، بحسب ما نقله أندرو مانجو، أن عصمت إينونو، الذي سيصبح لاحقاً الذراع اليمنى لمصطفى كمال، ورئيساً لتركيا ورئيساً للوزراء لفترات عديدة، قد فكر في الاستقالة وامتهان الزراعة، وذلك في حدود العام 1919، أي حين كانت كردستان تنظم الدفاع عن غرب الأناضول المحتل.

 

نسختان من الميثاق

 

في نهاية عام 1920، صدر ما عرف لاحقاً بـ"الميثاق الملي"، حين كانت منطقة ساحل إيجة بالكامل تحت سيطرة اليونان. والواقع أنه كانت هناك نسختان للميثاق، واحدة أقرت في أنقرة، والثانية في اسطنبول. لا يعرف بالضبط أي نسخة تلك التي أبرزتها الدولة لاحقاً بعد بيعها مضمون الميثاق إثر التنازل عن ولاية الموصل (الموصل، كركوك، السليمانية، أربيل، دهوك)، فكانت تلك نهاية الميثاق الملي من جانب الحكومة التركية. والتأسيس الفعلي لتركيا لم ينجز إلا بعد هذا التنازل لبريطانيا.

 

حالياً، حين تقوم وسائل إعلام المشروع التوسعي التركي بتضليل أنصارها العرب ببنود الميثاق، فإنه لا تبذل جهداً في التضليل على الأقل لاحترام مناصريها، فهي في إحدى البنود، تقول إن الميثاق يتبنى مقررات مؤتمري أرضروم وسيواس، لكن من دون تفصيل بنود المؤتمرين، ذلك لأن المؤتمرين يشكلان خريطة طريق للحكم الذاتي الكردي والتأسيس للوحدة الكردية التركية ضد الاحتلال من أجل تأسيس وطن للأتراك حيث أن هذا الشعب كان في حكم الزوال مع نهاية الحرب، لذلك حين خرج رئيس الوفد العثماني، رؤوف باش، من اجتماع مع القيادة البريطانية خلال التوقيع على هدنة مودرس، تفاجأ باكتشافه المذهل الذي صرح به "أن البريطانيين لا يعتزمون تدمير الأمّة التركية" (أندرو مانجو – ص 210).

 

على هذا الأساس، حين تم الإعلان عن الميثاق في العام 1920، ثم تمرير بند الحكم الذاتي في وثائق برلمان مجلس الأمة الكبير عام 1921، كانت كل قيادة الدولة وشعوبها المتبقية تقاتل من أجل الاحتفاظ بما بين أيديها من أراضٍ، وضمن هذا الإطار يمكن فهم شعور الشيخ سعيد النورسي بالارتياح لأنه لا يوجد ميناء بحري لكردستان، ذلك أنها كانت ستصبح تحت الاحتلال مثلها مثل غرب الأناضول والقسطنطينية.

        

 الميثاق الطوراني

 

ما يجري اليوم إحياء لنسخة تهريجية من "الميثاق الملي"، لأن ما يتم ترويجه يقتصر على النسخة الجغرافية الفاشية (الخريطة الشهيرة المتداولة)، ويتم بشكل مدروس تجاوز المضمون السياسي والحقوقي للميثاق الأصلي، حتى بنسخته المنقحة من قبل الدولة بعد إزاحة الكرد من المشهد بشكل نهائي منذ منتصف ثلاثينيات القرن الماضي.

 

الواقع أن الحرب التركية اليوم في حفتانين بإقليم كردستان العراق تتم بعقلية "المخافر الحدودية"، وفي شمال سوريا بأسلوب الاقتلاع السكاني على طريقة ما جرى مع الأرمن قبل قرن من الزمن.

 

النسخة التركية الحالية من "الميثاق الملي"، مجرد غطاء للميثاق الطوراني المموه هو الآخر بـ"الميثاق السني"، المستند إلى حركات الإسلام السياسي المنقادة لتركيا.

 

هذا هو ما تواجهه حركة المقاومة الكردية، رغم كبواتها، وهو الميثاق السني الطوراني المسلح بإلغاء الوجود السياسي الكردي، وإبادته جسدياً ما أمكن، كما حال عفرين وشمال سوريا. هذا ليس ميثاقاً بل إبادة منظمة، لها حلقات متتالية، كل حلقة ليست في المقدمة تعتقد خطأ أنها ناجية.

 

إن التوسع التركي لا يمكن أن يتضمن أي بعد تحرري، على أي مستوى كان، ذلك أن الدولة لم تتأسس على أي رسالة إنسانية، ولو على سبيل الإنشاء اللغوي، لذلك حين يرسل أردوغان جنوده ومرتزقته إلى ليبيا، ليس لديه ومساعديه سوى رواية في غاية السخافة، لكنها – ويا للغرابة- لا تلقى السخرية، وهي أن هناك مليون تركي في ليبيا!.