“قوّة يتعذر وقفها”، ذاك ما يطمح إليه الرئيس رجب طيب أردوغان، وقبله كان أحمد داوود أوغلو منظِّر حزب العدالة والتنمية، كما مرشده أردوغان، قد طمحَ لتحويل تركيا إلى “قوة كبرى في الشرق الأوسط وشمال افريقيا” وإلى “قوّة مهيمنة”، وفي حين ذهب أوغلو إلى “القوة الناعمة”، كان على أردوغان أن يوطِّد ملامح “القوّة الصلبة” بعد انتقال بلاده إلى النظام الرئاسي حيث لأردوغان كامل صلاحيات القبضة الفولاذية على الأفواه التركية أولاً ، ومن ثم الانتقال مع “وقائع الربيع العربي” إلى لعب دور الولاّدة، مع كامل الرعاية للحركات الإسلامية، دون أن تخلو الدلائل على دعمه المستتر لتنظيم “داعش” فاتحاً بلاده ممراً للتنظيم، فيما كان دعمه لـ”جبهة النصرة” دعماً بلا أسرار، أما عن “جماعة الإخوان المسلمين”، فلم يفارقوا مائدته حتى اللحظة.. لم يكن ذلك في سوريا وحدها، فهذه “القاهرة” تشهد بأن أردوغان دخَلها كفاتحٍ والرئيس الراحل محمد مرسي يتكئ على كتفه، أما استكمال الدور فهو في ليبيا اليوم، دون نسيان دعمه اللامحدود لعبد الحكيم بلحاج، والتيارات الجهادية، وقد بات عبد الحكيم بلحاج (رجل تنظيم القاعدة) رجل أعمالٍ واسع الشأن على خطوط الانتاج في الماكينة السياسية التركية، وقد امتلك خطوطاً جوية تُعرف بـ”طيران الأجنحة”، ربما من مهامها نقل المرتزقة السوريين من تركيا إلى ليبيا ليكونوا لقمة بلا تكلفة، لحربٍ لا أحد يعرف ضخامة طبختها وإن عرفنا الطبّاخ.
لا بُدّ وأن مراديد الإسلام السياسي، يفوق الاستثمار في النفط أو السلاح أو الدواء، وليس قليلٌ شأن الاستثمار في تنظيم الإخوان المسلمين، فالتنظيم، ووفق كل الدراسات الرصينة والجادة، هو الحزب الأكبر في عالم اليوم، حتى ثمة من يصفه بـ”دولة الإخوان”، الممتدة في كل الدول، لتصل في أحيان كثيرة إلى مركز القرار، ولا غرابةَ في أن شخصيات إخوانية لعبت في صالات البيت الأبيض والكونغرس الأمريكي، حتى وصل الأمر بالنائب عن ولاية فلوريدا في الكونغرس الأمريكي إلى القول بأن “السياسة الأمريكية فشلت في مواجهة ما تمثِّله الجماعة من سلوك راديكالي بدعمها للمنظمات الإرهابية”، أكثر من ذلك فها هي الإخوانية توكّل كرمان، قفزت ما بعد جائزة نوبل إلى لجنة الحكماء في “فيس بوك”، ما يعني أنها دخلت النادي العالمي لـ”المشاعر/وجهات النظر/غزل الشباب/صناعة المزاج”، وأكثر من ذلك لرقابة كل المحتوى الذي يرسمه أكبر وأهم منبر تواصل اجتماعي بات العالم ما بعده غير ما كان قبله، وكله في استثمار هو “الإسلام السياسي”، ودون الالتفات إلى إسلام إيماني، هو صلة ما بين الله وبشري قد يحلو له أن يتصوّر الله عاشقاً ثم يطرّز له مناديل عشقٍ بفراشاتٍ طائرة أو بأحمر شفاه يَرسم على ورق الرسائل.
هو الأمر كذلك، وهذا أروغان، وقد بات رئيس مجلس شركة الاستثمار الإسلامي، لن يكون مسلماً بما يكفي لكي لا يكون تركياً، فحين وقف أمام الخارطة الزرقاء، غرَّد لـ”الوطن الأزرق”، ودون أدنى شك، فلم تكن نظرية “الوطن الأزرق” من ابتكارات شيوخ الطريقة بجلّابيبهم حتى الركبة، وإنما استمدّها من القومي التركي المتشدد الأدميرال جيم غوردنيز، وهي تعني تعزيز السيادة البحرية التركية على البحار المحيطة، أي المتوسط وإيجة ومرمرة والبحر الأسود، ما يجعل الوطن التركي يتسّع بيابسته ومائه إلى مليون وربع مليون كيلو متر مربع، متضمناً بطبيعة الحال تلك الأراضي السورية التي احتلتها تركيا أعقاب اتفاقية أنقرة 1921 والتي تضمُّ لؤلؤ الأراضي السورية، لتبلغ مساحتها مساحة سوريا الراهنة وتضمُّ مرسين وطرسوس وقيليقية وأضنة ومرعش وعنتاب وكلّس والبيرة وأورفة وحرّان وديار بكر وماردين ونصيبين وجزيرة ابن عمر بالإضافة الى لواء إسكندرون، وليس من قبيل الضرب بالغيب أنه قد يأتي يوم نجد فيه إدلب وأجزاء من حلب تحت السيادة التركية بعد أن ارتفعت أعلام جبهة النصرة في عفرين السورية، لترسم صورة تذكارية لقيادات “ثورية” سورية وهم يتأبطون بنادقهم (منزوعة الرصاص) في صورة تذكارية لثورتهم الواعدة، المفارقة أن أبطالها من اليساريين.
بالنتيجة، لم تكن تطلّعات تركيا الاستراتيجية من بنات أفكار حكومات حزب العدالة والتنمية وحده.. هذا ما يستخلصه أحد عتاة التفكير التركي اليوم، ونعني به سولي أوزيل، المحاضر الأول في جامعة “قادر هاس” في إسطنبول، فقد “دفعت مدارس فكرية مختلفة في البلاد منذ انتهاء الحرب الباردة باتجاه نظرة أكثر توسّعية إلى المصالح الاستراتيجية التركية”.
واليوم؟
يبدو أن الرؤية الاستراتيجية الأكثر توجّهاً نحو الإسلام التي يعتمدها حزب العدالة والتنمية، والرؤى الاستراتيجية الأكثر قومية التي تتبنّاها النخب المدنية والعسكرية التي ينتمي بعضها إلى مدرسة الفكر الأوراسية، تقاطعت في دعمها للسياسات التي تحبّذ ممارسة القوة، وإنشاء القواعد العسكرية، وتعزيز الحقوق البحرية، وامتلاك حرية تحرّك واسعة ومستقلة لتحقيق المصالح التركية.
تقوم سياسات أردوغان في شرقي المتوسط وليبيا، والتي كان قد طوّرها ضباط قوميون علمانيون، على عقيدة “الوطن الأزرق”.. نظرية سيكون خط بدايتها من ليبيا، أما الصراع فملامحه ليس مع الناتو، ولا مع الغرب، هو الصراع المتصل بالتنافس الجيوسياسي والإيديولوجي مع بلدان الخليج وحليفتها مصر على قيادة العالم المسلم السنّي. لهذه الغاية، تتواصل بلا هوادة الحملة الهادفة إلى تشييد مساجد في مختلف أنحاء العالم، وتأمين الحماية للإخوان المسلمين، ومناصرة قضية المسلمين في كل مكان -إلا في الحالات التي تتسبّب فيها تلك الحملة بتعطيل المصالح الاقتصادية أو الجيوسياسية، وهذا ما ظهر جلياً في الصمت التركي المُطبق إزاء المعاملة الصينية للإيغور.
ماذا لو قلنا و.. بتوافق أميركي؟
أردوغان هو الشخصية الأكثر اتصالاً بالرئيس دونالد ترامب، وفقاً لما ورد في تقارير إخبارية عدة وفي مذكرات مستشار الأمن القومي الأميركي السابق جون بولتون.
إذن، لا يمكن التقليل من شأن البُعد الأميركي في النشاط التركي. والمظلّة:
المظلّة الإسلامية.
وسيكون للمظلّة الإسلامية فعاليتها حين يتصل الأمر بفلسطين.. بل بالقدس على وجه التحديد، فهذا أردوغان يتهم القيادات الخليجية بالخيانة العظمى ويأمر بإعدامهم وهو يلوِّح بالنزول، شخصياً، بثياب الميدان، لانتزاعهم من إماراتهم ما بعد التطبيع، فيما بوسع زائر تل أبيب رؤية العلم التركي وهو يرفرف فوق السفارة فيها.. أما علم إسرائيل في أنقرة فليس مجرد قطعة قماش.. إنه أوسع علاقة ما بين بلدين بوسع دليلك السياحي في إسرائيل الحديث عنها دون إغفال علامات شركة “يلماز” التركية المتخصصة في بناء الأبراج في تل أبيب، عدا المرافئ الإسرائيلية التي تشكِّل منصات رئيسية لنقل البضائع التركية إلى أوروبا، وماذا لو قلنا أن رحلات الطيران التركي التي يقوم بها من إسطنبول إلى تل أبيب تبلغ /12/ رحلة يومياً؟ وماذا لو أضفنا توقعات الكاتب التركي، بوراك بيكديل، فى مقالٍ نُشِر مؤخراً بصحيفة «أحوال» التركية، من أن الصفقة التركية، التي قد يعرضها «أردوغان» على إسرائيل وخلال أيام قليلة قادمة، ربما تتضمن إغراءات بنقل الغاز الإسرائيلي إلى أوروبا بسعر أرخص بكثير، مستشهداً بتصريح سابق للرئيس التركي قال فيه “إنه مستعدٌ للعمل مع أي دولة إقليمية باستثناء قبرص”.
الإسلام السياسي.. هو أردوغان وقد ارتدى الحاخام وشيخ الطريقة في رداء واحد.
هو الورقة الذهبية بيد إسرائيل.
ما الذي يبتغيه الإسرائيليون أكثر من رجلٍ أوصل سوريا إلى حطام في الزمن، وكذا سيكون حاله في ليبيا؟
ثم، ما الذي تبتغيه أكثر من تحويل شعار “الربيع العربي” من:
حرية.. كرامة إنسانية.
إلى:
أبو عمشة ونصرة هذا الدين الحنيف.
كان علينا أن نعلم أن لا إله سيأتينا من القاعة التركية.. وكان علينا أن نعلم أن الصراع العربي-التركي ما زال صراعًا ما بين:
الفرقاطة وسلاح القباقيب.
وحدنا من ما زال يتسلّح بالقبقاب.