الحمار وقد استغضِب ولم يغضب

 

نبيل الملحم

 

"كسميّات نجيب سرور"، ليست الأهمّ فيما أنتجه صاحب "قولوا لعين الشمس" و"منين أجيب ناس"، وحواراته بالغة الوجع مع مولانا المعرّي.

 

أقول مولانا، لا بخيار الله، بل بخيارات السؤال وأوجاع السؤال وتداعياته في وجودنا، أمّا عن "الأميّات"، فهي بصمة نجيب، والبصمة لن تكون أرفع شأناً من خفقات القلب، وأيّ قلب؟

 

قلب رجلٍ قد يتحوّل إلى وسادة إن شئت.

 

ونسأل لمَ كانت الأميّات هي الأكثر حضوراً؟

 

بل، لمَ غيّبت ما لنجيب من حضور آخر:

 

ـ حضور :"البحر بيضحك ليه"؟ وهي أنشودة الشيخ إمام وقد غاب صاحب كلماتها؟

 

وكذلك غيّبت تلك المحكيّة التي قد ننال منها ما للحظتنا من قسوة ووجع:

 

ـ أبويا كان جدع.. قصدي أبويا كان

 

وعاش غريب فـ الوطن ياقسوة الغربة

 

وترابنا من عهد خوفو بيحضن الجدعان

 

مبروك عليك التراب يانازل التربة.

 

نعم، حدث أن اعتدت أميّات نجيب على كل ما لنجيب، لا رغبة في الاعتداء، ولا مؤامرة تحاك في العتمة.. كلّ مافي الأمر، أنّه بأميّاته:

 

ـ دفع عنّا الألم.

 

كيف يحدث أن يدفع عنّا رجلُ الآلام الألم؟

 

ـ بالشتيمة.

 

ودفع الألم لايعني في لحظةٍ ما سوى استحضار اللذّة، تلك التي يطلق عليها الفلاسفة تسميّة "القوة الشهويّة"، تلك القوّة السحريّة التي تأتينا حين ننصرف إلى تفريغ غضبنا وكان الشافعيُّ إمام (مذهب إسلامي)  قد قالها:

 

ـ من استغْضِب فلم يغضب فهو حمار.

 

ولهذا كانت كسميّات نجيب"، كما كان حال "القدس عروس عروبتكم"، تلك التي أنستنا روائع مظفّر النوّاب.. نوّاب الـ:

 

ـ يا حزن يا ريت أعرفك

 

كنت أسويلك حديقة ياسمين

 

وممشى من كاشي الفرح

 

قدَّام بيتك

 

يا حزن يا ريت أعرفك

 

وين تسكن

 

كنت أقل لك لا تجيني

 

وتمشي كل هاي المسافة

 

أنا وحدي كان أجيتك

 

يا حزن وحياة حزنك ما عرفتك

 

كنَّك مغير مشيتك

 

حاط ريحة رخيصة كلِّش

 

يا رخيص إشقد بكيتك

 

ولو لم يكن نزار قبّاني، قد استُدرج إلى قاعات الكريستال، والبورجوازية المدينيّة بتعقيمها للكلام،  لما تردّد في البذاءة، فالبذاءة في اللحظة الحرجة هي:

 

ـ تلك اللحظة المشتهاة.. لحظة اللذّة وتفريغ الألم.

 

كلّه عند الكبار، أولئك الذين تقاطعت لحظتهم الابداعيّة مع اللحظة الواقعيّة.. اللحظة التي يحلو للماركسيين وصفها بـ : "العامل الموضوعي"، أمّا الصغار، أولئك الذين يتلمّسون طريق النجاة، فقد يأتي من يحرّم عليهم الشتيمة، فإذا ما مارسوا حقّ الغضب، سيأتي من يتقدّم إليهم بخطى واثقة وقد حمل شموع الكنيسة أو بخور المسجد، ليؤم فيهم الصلاة ويردّد:

 

ـ يا أبنائي هذا عار.

 

وأيّ عارٍ وفي النص الديني آلاف مؤلّفة من الشتيمة التي تسمى بـ "اللعن"، واللعن هو المشتهى لمكانة الخصم ومكانه وإن في العالم الآخر، عالم المقبرة التي ستخرج من سردابها إلى حساب لست واثقاً على وجه التحديد من سيكون قاضيها، ومن سيحمل له المطرقة.

 

وأيّ عارٍ، وفي تراثك الأدبي مخزون من الشتائم، ربّما سيكون هو الأرفع مابين أدب التراث.. أقلّه إن حمل توقيع المتنبي وقد قالها في وجه خصمه (وربما في ظهره لا ندري):

 

ـ يا ابن ضبّه وأمه الطرطبة….

الخ ماقاله المتنبي

 

والسؤال:

 

ـ كيف لأدبٍ أن يكون سلمياً، مهذّباً، بقفازات الحرير، وأحصنة طروادة تصول وتجول بيننا؟

 

من منّا لا يعلم أن ثمّة من يلعب برؤوسنا، وأن ثمّة ضباع تتنقل بيننا، وأن من يقف على الجمر أو يلتقط الجمر، أو يشوى بالجمر ليس مطالباً بأن يلتقط غذاءه بالشوكة والسكين فيما السكاكين تعمل في حنجرته؟

 

من منّا لم تجلده الحروب / الطغيان / ولم يكن قد حضّر حقيبته للرحيل أو حضّر ما تبقّى من جسده للزنزانة؟

 

ومن فينا لم يبتل بطاغيّةٍ لانظير له، ليس بوسع هولاكو سوى أن ينحني لطغيانه.

 

 

ومادام الحال كذلك:

 

ـ من منّا، لاتلتصق به الشتيمة مجلّلة بالصراخ  صامتة او مهذّبة؟

 

ـ  الشتيمة؟!

 

وإن جاءت بعد فوات الأوان فمن الصعب أن نقول:

 

ـ لقد فات أوانها.

 

الشتيمة ستحضر الاحتفال.. كل الاحتفال مادام كل طريق يقود إلى المقبرة.

 

هو الحال كذلك.. ما من طريق يقود إلى روما.

 

حتّى ثيابنا تصرخ في وجوهنا.

 

أتذكرون يوم رأوا فينا سقط متاعهم؟

 

لهذا نحن والشتيمة رفاق.. رفاق طريق، وثانية:

 

ـ قد يكون ذاك الطريق الذي يقود إلى المقبرة.