المصْيَدة وما بعدها

المصْيَدة وما بعدها

 

تدور مخاوف من إمكانية شن تركيا عملية "احتلال" جديدة في منطقة شرق الفرات. ومنذ أيام، بات هذا الهاجس متقدماً في النقاشات الكردية. وللأمر ما يبرره. فالصفقات السياسية التي رسمت الطريق للاحتلال التركي في شمال سوريا (مرة مع موسكو ومرة مع واشنطن)، ما زالت مفتوحة، ذلك أن الدولتين لم تطورا مقاربات جديدة تجاه الوضع السوري، بل تقومان بتعميق المنهج السابق، القائم على ترك مسافة فاصلة بين الطرفين، أشبه بـ"التباعد العسكري"، وهذه المساحة تملؤها تركيا، ليس لأنها دولة قوية كما يروّج أنصارها أو من لا يفهم بنيتها السياسية الطورانية، بل لأن كلا الطرفين، الولايات المتحدة وروسيا، يعتبران تركيا حلاً وسطاً بينهما، ويتحمل كلاهما تجاوزاتها، التي تفوق الاحتمال لو كانت من دولة أخرى، ذلك أنهما حوّلا تركيا إلى "ساحة حياد استراتيجية" بين الطرفين.

 

في المنظور الروسي يعتبر هذا التحول استراتيجياً، أي إخراج تركيا من كونها "منصة صواريخ لحلف الناتو" إلى ساحة تلاقي فيها مكان لكلا الطرفين، الأطلسي والروسي. وتركيا أيضاً درع واقي للجانبين، تمنع تصادمهما المباشر. هذا الأمر ينطبق في الأجزاء الشمالية من سوريا وكذلك في ليبيا، وقريباً سيمتد الأمر إلى شرق المتوسط أيضاً.

 

أمريكياً أيضاً، يوفر الوجود التركي حتى بشكله الاحتلالي المباشر، بديلاً دعائياً لدعاة الانكفاء الأمريكي من المنطقة، وهم من المجموعة المحيطة بالرئيس الأمريكي دونالد ترامب. فالميزة الاستراتيجية لتركيا حالياً، في عهد أردوغان، أن الولايات المتحدة سمحت لها أن تشاغب بالضد من بعض مصالحها الصغيرة، ووفرت لها إدارة ترامب الحماية لتعقد صفقات مع الروس، باعتبار أن اللعبة الجديدة بين الطرفين الكبيرين تقتضي إيجاد مساحة مشتركة، سلاح مشترك يستخدمه الطرفان ضد بعضهما البعض وضد أوروبا. فتركيا اليوم كفّت عن أن تكون دولة "حلف" وانتقلت إلى مرحلة الدولة ذات "البزنس الخاص" الذي يعمل لحسابه.

 

منذ تأسيس الجمهورية، خاضت الدولة تجربة "البزنس الخاص" (أي خارج الالتزام الأيديولوجي بأي أحلاف عسكرية) في حقبتي مصطفى كمال وعصمت إينونو (1923 – 1950). كان السياق شبيهاً بما يحدث اليوم، أي تحقيق الجمهورية مكاسب وعقدها صفقات مع بريطانيا والاتحاد السوفييتي. الأولى ضمنت لها بقاء القسطنطينية بعيدة عن متناول الروس واليونانيين، والثانية (الاتحاد السوفييتي) ضمنت لها إبقاء القضية الأرمنية في صندوق مغلق. 

 

هذا التموضع التركي ما زال محمولاً بخطط واسعة للاحتلال، هذه الأيام، ذلك أن "الجمهورية" لحظة قيامها وحتى اليوم، مخلوق سياسي غير طبيعي، سياسياً، وغير منطقي في تركيبه القومي على أرض شديدة التنوع، ولا يمكن إيقاف هذه المخططات عسكرياً بشكل مثالي يقود إلى انكسار هذه الدولة بالقدرات الذاتية للمقاومة، إلا إذا توقف "الحظ" الذي تحدث عنه حلمي يلدريم في رسالته إلى مصطفى كمال وعصمت إينونو سنة 1935. من المهم قراءة مكانة تركيا خلال الحرب العالمية الثانية، لأن هناك ما سيفاجئ جماعة إسباغ القوة على تركيا بناء على "الحجم"، سواء حجم السكان أو حجم الدولة الجغرافي، وعقدة الحجم (الجغرافي وحتى الجسماني) مسألة يمكن مناقشتها بأدوات علم النفس أكثر من أدوات التحليل السياسي. ففي سنوات الحرب لا ذِكْر لتركيا ليس لأنها لم تشارك في الحرب، بل لأنه لم يكن لها أي أهمية تذكر. ولدى تتبع السبب وتحليل أسس العلاقات الدولية في ذلك الوقت، نعثر على معادلة لم تجد فرصتها للتكرار منذ تلك الحرب، وهو أن التوافق السوفييتي- الأمريكي ينهي أي دور وظيفي استراتيجي لتركيا. لم يطلب أحد منها المشاركة في الحرب بإلحاح. بوجود روسيا والغرب في حالة توافق وتصالح، يختفي هذا اللعب التركي في "منطقة فض الاشتباك" بين الطرفين. لكن ليس من مصلحة الطرفين، الأمريكي والروسي، التوافق في هذه المرحلة، لأسباب متعلقة بوضع أوروبا تحديداً. وعليه، فالقراءة التركية للتوازنات تدفعها إلى توسيع تدخلاتها الإقليمية، واستثمار الفراغ الحاصل في سوريا والعراق، بسبب تهاوي سلطة وقوة الدولتين. لذلك، حين تحدث أردوغان الأسبوع الماضي عن "العصر الذهبي لتركيا في الحرب على الإرهاب"، فإنه استند إلى توسع هوة الخلاف الأمريكي الروسي، وبوجود هذا الخلاف تنتعش تركيا، سواء كانت إلى جانب روسيا أو أمريكا، أو على الحياد.

 

الواقع أن من مصلحة كلا الدولتين وجود قضية كردية متأزمة ضمن الأجندة التركية، لأنها ساحة خصبة وغنية للمقايضة والصفقات. فمثلاً، تدرك روسيا جيداً عمق السياسة التركية، وأنها مستعدة لإيقاف عمليتها العسكرية في ليبيا، والامتناع عن الاقتراب من الهلال النفطي، مقابل إطلاق تركيا عملية عسكرية جديدة في روجآفا. وتتوضح حجم المصيدة التي وقعت فيها القضية الكردية بسبب هذه التناقضات الدولية، من أن الولايات المتحدة نفسها منفتحة على صفقة مضادة في ليبيا، أي دفع تركيا إلى التقدم صوب مواقع النفوذ الروسي والهلال النفطي، مقابل توفير جيمس جيفري غطاء جديداً للغزو التركي لروجآفا. هي احتمالات قد تحدث وقد تكون مبالغات تحليلية، غير أن المصيدة واقعية، ومنصوبة بفعل عوامل خارجية بشكل كلي، ولا بد أن يكون هناك مخرجاً من هذه المصيدة وإنْ كان بعد خسائر مؤلمة، وكالعادة، ليس هناك الكثير من الخطوات الداخلية يمكن لها أن تؤثر على الوضع بشكل كبير، وقد تكون خطوة تفويض الجنرال مظلوم كوباني، قيادة مساعي توحيد الأحزاب الكردية تحت سقف واحد، عاملاً مهماً ضمن المساعي الاستباقية لفتح ثغرة في دائرة المصيدة التاريخية القائمة منذ تفجر أول صدام أرمني مع الدولة العثمانية سنة 1894.

 

معظم العوامل المؤثرة خارجية، واحدة منها على سبيل المثال، برزت في الأيام الأخيرة، بعد تحرك تركي متزامن على جبهات قنديل وليبيا وشرق المتوسط، مفادها أن التوسع التركي قد تجاوز الحد المسموح به دولياً. فالتوسع التركي الذي لا يستند إلى العقلية العثمانية، كما يروّج، بل إلى العقيدة الطورانية المستمدة من أدبيات اليمين المتطرف التركي، يتغلغل عبر صفقات مع قوى دولية مؤثرة، وبسبب تناقضات القوى الدولية تستغل تركيا "التباعد السياسي" بين القوى الكبرى لتأخذ دور "الورقة الاستراتيجية" متعددة الاستخدامات. ففي إدلب يعتبرها المبعوث الأمريكي الخاص بالملف السوري، جيمس جيفري، قوة تمثل حلف الناتو. وتعتبرها روسيا، بعد عقد الصفقات وترضيتها، قوة معيقة لإجماع الناتو. هنا أيضاً تتجسد المصيدة مرة أخرى كردياً، ويأتي "الحظ المنقذ" مجدداً لتركيا. لكن هذا لن يكون دائماً. قد يتأخر تغييره، لكنه ليس أبدياً. فالقوى الإقليمية المتضررة من التوسع التركي ستجد طريقها لتعقيد السياسات التركية.. إذا أجادت اللعب بأوراقها.

 

قد لا يكون لذلك تأثير تدميري مباشر على تجاوزات تركيا الخارجية، إنما سيدفعها إلى العودة للقبول بمنهج التسوية والحلول الوسط، الغائب حالياً بشكل كلي.