إدلب تقول كلمتها: “لا للجولاني”

على مدار سنوات الثورة شكلت “جبهة النصرة” أو “جبهة فتح الشام” أو “هيئة تحرير الشام”، وبمختلف التسميات، طعنة في خاصرة الثورة وأحد أهم العوامل التي حاولت إجهاض ثورة السوريين، في البداية عندما كانت مظاهرات الشوارع تمثل تحرك السوريين وحراكهم المدني السلمي، عبر مظاهرات عفوية شكل فيها الناشط غياث مطر نموذجاً لثورة السوريين، حين كان يوزع الورود على الجيش السوري ليقول لهم أنتم أهلنا وأولادنا فلا تكونوا أداة بيد سلطات النظام، إلا أنه فجأة أُعلن عن دخول ما يسمى تنظيم جبهة نصرة أهل الشام ليقوم بتفجيرات داخل العاصمة دمشق. التقطها نظام الأسد مباشرة ليستثمرها عبر آلته الإعلامية بأن ما يحصل في سوريا ليست بثورة بل هي عصابات وجماعات متطرفة تسعى  لإمارة قاعدية إسلامية، مستغلاً اللعب على هذا الوتر ليجعل معظم دول العالم تتراجع عن دعم السوريين لما تشكله التنظيمات القاعدية والإرهابية من أخطار في المخزون الفكري لشعوب العالم.

 وعبر تفجيرات “النصرة” والإفراط بارتكاب الجرائم من قبل نظام الأسد، اندفع بعض الشباب لحمل السلاح لحماية المتظاهرين، فكانت بداية تسليح الثورة شكّل لاحقاً انحرافاً مفصلياً وخطيراً في حياة الثورة والسوريين لأنه منح نظام الأسد ما يبحث عنه باستخدام كل آلته العسكرية ضد الشعب السوري.

جبهة النصرة التي انطلقت من رحم تنظيم “الدولة الإسلامية في العراق والشام”، والتي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بعدة أجهزة استخبارات ومنها استخبارات الأسد، تابعت مسيرتها وأبدعت مع تنظيم داعش في عملية تشويه ثورة السوريين وزرع الشقاق بين مكونات البلد عندما بدأت بعمليات قطع الرؤوس والذبح والحرق بحق السوريين والمكونات السورية، ثم أطلقت شعار محاسبة “الكفرة” و”المرتدين”، وصنفت معظم السوريين تحت هذا الشعار الذي أدمى قلوب السوريين وشتت شملهم تحت شعارات تتبع لتنظيم القاعدة ونهج متطرف لم يعرفه السوريون من قبل.

سيطرة جبهة النصرة على محافظة إدلب وأريافها كان عبر سلسلة من العلميات العسكرية التي قام بها أمراء الجولاني وآلته العسكرية التي انطلقت لالتهام فصائل الجيش الحر خدمة للنظام، بدءاً بجبهة ثوار سوريا وما تلاها من خلال تفتيت وتدمير 25 فصيل من الجيش السوري الحر والاستيلاء على أسلحتهم ومستودعاتهم وورش تصنيعهم الحربية وبذلك أصبحت النصرة تسيطر على أكثر من 80% من السلاح الثقيل الذي كان يواجه جيش الأسد فتراجعت الثورة، وشبه توقفت العمليات ضد نظام الأسد وحلفائه من إيران وحزب الله.

عمالة أبو محمد الجولاني وأمراء الحرب لديه كانت موضع ترقّب لدى معظم السوريين والاجتماعات التي كانت تحصل في قاعدة حميميم مع الروس أو في منزل عضو مجلس الشعب الأسدي أحمد درويش في قرية أبو دالي على حدود أرياف إدلب، لم تغب عن أنظار السوريين أيضاً، وفيها رُصد أكثر من اجتماع، وأكثر من مرة حملت حوامة خاصة باستخبارات الأسد الجولاني وأبو ماريا القحطاني لعقد اجتماعات في دمشق، آخرها نهاية عام 2022 عندما تسربت أخبار عن اجتماع بين الجولاني والقحطاني بشقة في منطقة قدسيا بدمشق، ولو عدنا سابقاً لعلاقة التنظيمات الجهادية مع استخبارات الأسد ومع اللواء آصف شوكت المسؤول عن ملف التنظيمات الجهادية في استخبارات الأسد لتذكرنا ما كان يفعله أبو القعقاع في مدينة حلب وبتكليف من استخبارات الأسد بتجنيد الجهاديين وإرسالهم للعراق، ونتذكر أيضاً ما فعلته استخبارات الأسد عام 2007 في أحداث مخيم نهر البارد في طرابلس لبنان، عندما أطلقت سراح شاكر العبسي زعيم تنظم فتح الإسلام ثم يعود ليتبخر بعد أن أدى مهمته هناك بقتل أفراد من الجيش اللبناني، والسوريون يتذكرون أيضاً ما حصل في سجن صيدنايا والصفقة التي عقدها العماد آصف شوكت، مع المعتقلين الجهاديين والتي أثمرت لاحقاً عن إطلاق سراح معظمهم من سجون النظام عام 2012 دعماً للحركات المتطرفة وتشويه الثورة السورية.

إذاً، علاقة هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة) مع استخبارات الأسد ليست بجديدة، إنما الجديد هو ارتباط الهيئة مع استخبارات دول أخرى أهمها الولايات المتحدة وقاعدة حميميم وإيران، ويبدو أن تضارب بالأهداف حصل داخل الهيئة فتفجّرت صراعات بينية حسمها أبو محمد الجولاني باعتقال التيارات الأخرى ومنهم ذراعه العسكري الأقوى أبو ماريا القحطاني وحوالي 800 عنصر وقائد وأمير كانوا تحت سيطرة الجولاني، فارتفعت الصيحات داخل الهيئة وحصل نوع من التمرد ساهم بإضعاف سلطة الجولاني الذي شعر بأن البساط يُسحب من تحت قدميه فحاول استدراك الأمر فأصدر صك براءة لكل من اعتقلهم وبرّأهم من تهمة العمالة متذرعاً بأن الاعترافات انتزعت تحت التعذيب الوحشي الذي تعرضوا له من قبل محققين من الهيئة، لكن انشقاق أبو أحمد زكور (الرجل الثالث بهيكلية قيادة الجولاني وصندوقه المالي الأسود) شكل ضربة قاصمة لقيادة الجولاني، فسيّر رتلاً واعتقله،  لكن القوات التركية بالداخل السوري قطعت طريق رتل الجولاني وخلصت (زكور) من بين أيديهم وأخفته بعيداً عن سطوة الجولاني وأجهزته الأمنية.

رغم إطلاق سراح المعتقلين من أعضاء هيئة تحرير الشام ورغم زيارات الجولاني الذي تعمد زيارة منازل كبار المطلق سراحهم من معتقلاته وسجونه، لكن “الجهاز الأمني” في الهيئة ومعظم القوى العسكرية في الهيئة لم تغفر للجولاني ما فعله، خاصة أن تيار بنش وهو تيار الجولاني داخل الهيئة بات الأضعف، وهنا شعر الشارع الثوري في إدلب بأن الفرصة باتت متاحة للتعبير عن مكنوناته الرافضة لنهج القاعدة والرافضة لجعل مدينة إدلب وأريافها  مرتعاً لمشاريع القاعدة والتطرف، فانطلق أهل إدلب بمظاهرات عارمة تطالب بطرد الجولاني وهيئته من إدلب (وبغض نظر من الجهاز الأمني في الهيئة الذي يرغب بالإطاحة بأبو محمد الجولاني وتياره داخل الهيئة) وطالبت المظاهرات باستعادة إدلب لقرارها السياسي والعسكري والحكومي المصادر من أمراء الجولاني وحكومته المسماة “حكومة الإنقاذ”، وإعادة بناء مؤسسات ثورية تعبر عن زخم الثورة وتطلعات أهل إدلب، وإعادة إدلب لتكون في خندق الثورة شأنها شأن معظم السوريين في المناطق الأخرى الخارجة عن سيطرة نظام الأسد.

آخر ما نُقل عن مصادر مقربة من أبو محمد الجولاني، أنه تلقى الضوء الأخضر من قاعدة حميميم بسحق المظاهرات وعدم التنازل عن قيادة هيئة تحرير الشام لأن البديل هو المشروع الأميركي في إدلب وهذا ما ترفضه قاعدة حميميم.