مع إعلان الاتفاق عن هدنة في قطاع غزة وإعلان صباح يوم الجمعة بداية تطبيقها، فإن فوّهات المدفعية ورمايات الصواريخ وكل الهجمات الجوية والبرية والبحرية سوف تتوقف مؤقتاً، ويتوقف معها نزيف الدم الذي يجري في شوارع غزة، لكن يخطئ من يظن أن الهدن المؤقتة التي تعقبها جولات جديدة من الحروب هي للاسترخاء أو للراحة.
الحرب الإسرائيلية التي أُعلنت على عجل على قطاع غزة كانت رداً على عملية “طوفان الأقصى” التي أنهت مفعول محرمات ومسلمات فرضها الجيش الإسرائيلي على مدى عقود، فقد اهتزّت صورة “الجيش الذي لا يُقهر”، وتلاشت معادلة الردع الإسرائيلي، وغاب عامل الخوف من قلوب أعداء إسرائيل، بعد الذي حصل في مستوطنات غلاف غزة وحاجز إيريز ومقر فرقة غزة التي لطالما تغنى بها الجيش الإسرائيلي هي وفرقة غولاني على الجبهة السورية.
45 يوماً من الحرب على غزة، ونتنياهو يبحث عن منجز، مهما صَغُر حجمه، يقدمه للشارع الإسرائيلي الغاضب والمجروح والخائف في وقت واحد على مصير 239 محتجز لدى فصائل غزة (كتائب عز الدين القسام الجناح العسكري لحركة حماس، وكتائب سرايا القدس الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي), وخمسة فرق عسكرية وإن استطاعت اختراق الحدود الشمالية والشمالية الشرقية لقطاع غزة ووصلت لبيت حانون وبيت لاهيا وجباليا، لكنها ومع الاقتراب من مدينة غزة اصطدمت بدفاعات كبيرة وبكمائن؛ فالفصائل الفلسطينية اعتادت على حروب العصابات وحروب الشوارع والمدن، وتلك حروب تُعرف بالقواميس العسكرية أنها مقبرة الجيوش النظامية، فالجيوش بألويتها ودباباتها وعرباتها وبحركتها الثقيلة تصبح تنقلاتها ومناورتها ضعيفةً جداً داخل الأبنية وبين الشوارع، بعكس تحركات عناصر حركة فصائل غزة الرشيقة التي تتحرك في مسرح أعمال قتالية تدرك خفاياه وأدق تفاصيله، مدفوعةً بروح معنوية عالية وعقيدة ثابتة، ما جعل من آليات وعتاد الجيش الإسرائيلي أهدافاً سهلة المنال.
الظروف الميدانية المتعثرة للجيش الإسرائيلي، وضغط الشارع الغاضب على أبنائه المحتجزين في غزة أجبرته على قبول الهدنة، وعدم تحقيق أي من الأهداف السياسية والعسكرية التي أعلنها رئيس الوزراء نتنياهو، وضغطت على الحكومة المصغرة (حكومة الحرب) وأجبرتها على القبول بهدنة مؤقتة لمدة أربعة أيام، وإن كانت تصريحات قادة إسرائيل ما قبل ذلك ترفض تلك الفكرة وتعتبرها فرصة لالتقاط حماس أنفاسها، لكن أهداف اجتثاث حماس، وفرض قيادة أمنية وعسكرية جديدة على غزة، وفك أسر الرهائن، والسيطرة على كامل قطاع غزة، بقيت كلها أهداف نظرية ولم يُكتب لها أن تتحقق.
في مفردات العمليات العسكرية وقع الجيش الإسرائيلي بكثير من الأخطاء والمطبات انعكست سلباً على القيادة السياسية، ومعظم تلك الأخطاء نجمت عن سوء أداء الاستخبارات العسكرية، التي فشلت بتأمين بنك الأهداف اللازم للحرب، وفشلت بتأمين الإنذار المبكر والتحذير كمهام أساسية من مهام أجهزة الاستخبارات والاستطلاع، خاصة أن الجيش الإسرائيلي يعتبر رابع جيش بين جيوش العالم من حيث التطور والتكنولوجيا ومن حيث العتاد المتقدم، ومع ذلك وُصفت تقارير استخباراته إما بالقصور أو بالفشل، فالمشافي التي نسجت إسرائيل روايتها على أنها مقرات عسكرية ومستودعات سلاح وأن الأنفاق تقع تحتها، اقتحمها الجيش الإسرائيلي وقصف بعضها وصف بأنه جريمة ومخالفة صريحة لقوانين الحرب ومبادئ القانون الدولي، ولعل الجانب الإسرائيلي كان يأمل بتقديم الأدلة التي تحدثت عنها استخباراته، لكن الوقائع تسببت بنسف الرواية الإسرائيلية بعد الفشل بتقديم أي دليل حسي وملموس، حتى المسرحيات المصطنعة ومشاهد السلاح في بعض زوايا مشفى الشفاء (غرفة الرنين المغناطيسي) التي حاول من خلالها تبرير اقتحام المشافي تبين أنها من نسج الجيش الإسرائيلي، ما أوقع القيادة السياسية بحرج أمام الغرب الذي بدأ بالتراجع عن دعم العملية الإسرائيلية بعض الشيء.
من المؤكد أن هناك أخطاء أكثر وأكبر وخاصة فيما يتعلق بمقتل جنود إسرائيليين بنيران صديقة، وبضعف التنسيق والتعاون بين الوحدات المقاتلة، وتردد بعض قادة التشكيلات العسكرية، وتلكؤ بعض القادة تنفيذ الأوامر الناجم عن الخوف من كمائن عناصر حماس. كل ذلك يمثّل ثغرات ستسعى إسرائيل لسدّها، وإيجاد البدائل لها خلال فترة الهدنة، لأن نتنياهو ووزير دفاعه يدركان تماماً أن المحاكمة تنتظرهما بمجرد توقف فوهات البنادق عن القتال وتوقف الحرب، وبالتالي ستمر أيام الهدنة ثقيلة على هؤلاء، والمتوقع أن تكون أيام ما بعد الهدنة هي الأقسى والأقوى والأشرس عسكرياً، إذ إن تحقيق الأهداف الإسرائيلية المعلنة تحتاج لجهود جبارة وقوية، وما فشل الجيش الإسرائيلي بتحقيقه بالجولة الأولى ستكون لديه فرصة ومرحلة ثانية وأخيرة وقد لا تتكرر؛ فالمشاهد التي تنقلها الفضائيات من قتل للأطفال والنساء وتدمير المدارس والمشافي وتشريد المدنيين في مدن وبلدات وشوارع القطاع على يد الجيش الإسرائيلي، لن تستطيع واشنطن إخفائها أو تغطيتها لوقت أطول، ذلك أن الشوارع التي انتفضت في مدن أوروبا وأمريكا والشرق الأوسط ومعظم الدول الإسلامية، أحدثت ضغطاً شديداً على البيت الأبيض وعلى كل من يساند إسرائيل.
بالمقابل من المؤكد أن فصائل غزة ستستثمر تلك الهدنة لإعادة نشر عناصرها وكمائنها وقانصاتها، وستعيد تذخير نقاطها المخفية، وصيانة أنفاقها المخربة، والاستعداد والجهوزية الكاملة للجولة الأخطر والأهم، خاصة أنها أثبتت حتى الآن قدرتها على الصمود، وثبات أداء منظومة القيادة والسيطرة وحسن أداء إدارة المعركة والمحافظة على زخم الرشقات الصاروخية المتدرجة التي وصلت لقلب مدينة حيفا بالشمال.
لكن أمام صراع الساسة وقتال العسكر يبقى المدنيون هم من يدفعون أثمان تلك الحروب، وتبقى القيادات المتطرفة والراديكالية التي لا تقبل بالحلول الوسطى هي من تجر المنطقة لحروب ومجازر ودماء، خاصة أن رئيس الحكومة الإسرائيلية وعلى مدار سنوات مضت يعمل على تدمير وإنهاء “حل الدولتين”، فيما قال العرب كلمتهم منذ القمة العربية 2002 التي عقدت يوم 27 مارس/آذار في بيروت، حين تبنت مبادرة خادم الحرمين الملك عبد الله بن عبد العزيز (كان ولياً للعهد يومذاك) بشأن تطبيع العلاقات الإسرائيلية -العربية شريطة انسحاب إسرائيل إلى حدود الرابع من يونيو/حزيران 1967، والتأكيد على مبدأ (الأرض مقابل السلام)، ولو ارتضت إسرائيل وقتها بتلك الخطوة وبحل الدولتين لتوقفت الحروب وعاشت شعوب المنطقة بسلام.
ما حصل في 7 أكتوبر/تشرين الأول، وما حصل بعدها، وما سيحصل بعد الهدنة، كلها أحداث محورية سيكون لها انعكاسات على مستقبل المنطقة برمتها، وستشكل استحقاقاً حتمياً أمام الغرب والعرب يتمثّل بضرورة البحث عن حل دائم يوقف الحروب ويُنهي النزاعات، ويطيح بالديكتاتوريات والتحالفات الطائفية، ويعيد الاستقرار لمنابع الطاقة الأهم بالعالم ولخطوط التجارة العالمية ولشعوب المنطقة.