الجبان والشجاع في المشهد السياسي السوري اليوم

راهناً، وبالنسبة لكتلة من النُخب السياسية والثقافية السورية، وحتى الاجتماعية، كيف يُمكن تصنيف الخيارات والخطابات ونوعية التفكير الجدير بها، تلك التي يُمكن وسمها بـ”الشجاعة والجرئية”، الجديرة بتمايز هؤلاء ونزوعهم لتحمل الرِفعة الأخلاقية والمسؤولية السلوكية والرجاحة العقلية نيابة عن مجتمعاتهم!؟، تلك الخيارات والأقوال التي من المفترض أن يكون أعضاء هذه الطبقة مستعدين لدفع أثمان تبنيها، من شعبيتهم وإمكانية اختلال رضا الرأي العام عنهم.

ما هي تلك الخيارات السياسية الصعبة والجريئة اليوم، مقابل الترسانة الضخمة من المقولات والخيارات السهلة، التي يُمكن لأي فرد أو كتلة سياسية شعبوية أن تتبناها، تلك التي يُمكن اعتبارها خيارات دون أية “أثمان”، ينال عليها وحسبها قبولاً عاماً، وإن برتابة وابتسار، وإن دون أية مسؤولية عقلية أو حملٍ أخلاقي جراءها، وعبر غض نظرٍ فاحش عن المأساة السورية.

حسبما تُشير الوقائع السورية راهناً، فإن تقسيم الأشياء حسب هذا التصنيف، إنما يجب أن تكون على العكس تماماً مما كانت عليه قبل العام 2011.

قبل ذلك الوقت، كان نقد النظام الحاكم وتجريمه وتحميله كافة أسباب الأحوال العامة في البلاد يشكل قمة ذلك، بما يمثله من جرأة وجدانية وشجاعة عقلية في مواجهة “غول البلاد”. حيث أن المندرجين في ذلك التصنيف كانوا يدفعون أثماناً بالغة من مصائرهم وأنماط حيواتهم، وغالباً من شكل واستقرار عوائلهم ومحيطهم الاجتماعي.

لكن الأهم، أن ذلك الموقف والخيار السياسي وقتئذ، إنما كان يهز عرش الاستقرار والرتابة والواحدية في البلاد، ويسعى جاهداً لتحقيق الهدف الأسمى لأية نزعة سياسية، ألا وهو التغيير، وتحقيق مستويات ما من أشكال الحياة السياسية والعامة الأكثر تنوعاً ورحابة، إلى جانب شرط السلام الاجتماعي الكلي.

وقتئذ، كان نفس النظام السياسي يدفع العديد من هذه النُخب وقادة الرأي إلى الانشغال والاندفاع إلى مستويات أخرى من الخيارات، للغرق في جدالات وسياقات الصراع بين الطوائف والقوميات والجماعات الأهلية، وإن دون ظهور وإعلان عام عن ذلك. وتالياً تهميش المسألة الجوهرية في البلاد، الكامنة في الاستبداد الحاكم، الذي كان قابضاً على روح كل شيء.

اليوم، تبدو الأشياء عكس ذلك تماماً.

لا يعني الأمر نكران فظاعة النظام وحضوره الجوهري وسلوكه المشين في المسألة السورية حتى الآن، لكن القول إن ذلك المعطى صار شيئاً من البداهة والعادية، لم يعد خافياً وغريباً وصعباً على أي شخص في البلاد تبنيه، وغالباً إعلانه. والأهم، اعتبار ذلك الخيار راهناً يكاد أن لا يغير شيئاً على أرض وفي وقائع البلاد، السياسية منها بالذات. يضاف لها أنه صار خياراً دون أثمانٍ بالغة، خصوصاً بالنسبة لعشرات الآلاف من النُخب السياسية والثقافية والاجتماعية التي انشقت عن النظام وصارت خارج مخالبه.

مقابل ذلك، أوليس من الحصافة القول إن كشف الكم المهول من التناقضات وأشكال الفوقية والتسلط والقسر التي يتبادلها أعضاء المجتمع السوري فيما بينهم، على أسس قومية وطائفية ومناطقية وطبقية وجهوية، هي التي حطمت السياق التاريخي للسوريين، وهي السبب الجوهري لوصول أحوال السوريين إلى هذا الاستعصاء الفظيع.

الانطلاق من ذلك، والذهاب إلى القول إن مسألة السوريين ليست مجرد صراع مجرد بين “قوى الخير” وما يناظرها “قوى الشر”، ترك ذلك المخيال المبسط، والانخراط الخطابي والسياسي والعقلي في دوحة المشكلات الذاتية والداخلية، في المجتمع والكيان السوري، التي قد تنطلق من قضية الجماعات المركزية ونظيرتها الهامشية، لتمر على دور الشكل الحالي للكيان السوري وخلقه المستمر للاستبداد والشمولية السياسية، ولا ينتهي بالحديث عن تاريخ الدم بين السوريين، ماضياً وحاضراً، وما ينفرز عنه من أقول عن ارتباطات السوريين بدول الجوار والعقائد العابرة للحدود.

تبدأ الجرأة الأخلاقية والرجاحة العقلية السورية راهناً من ذلك، لتمر على التفكير باستحالة عودة سوريا إلى ما كانت عليه، كدولة مركزية بأدوات حكمها وعقيدتها الداخلية، لها هوية قومية وطائفية بذاتها.

على نفس المنوال، على المتجاسر أن لا يتهيب من طرح أسئلة تتعلق بالموقع الجيوسياسي لسوريا في المشهد الإقليمي، راهناً ومستقبلاً، بما في ذلك مستقبل العلاقة مع إسرائيل نفسها، معتبراً المسؤولية عن مستقبل الكيان السوري وأمة مواطنيه هي الأساس والبوصلة الأكثر حكمة وجدارة بالاعتبار في أية توجه مستقبلاً.

على أن الشجاعة الأكثر حصافة، متعلقة بالموقف الكلي والدائم من موقع الإسلام السياسي من الحياة العامة، ومن الدين والمجتمع نفسهما. ذلك الإسلام السياسي الذي يقاسم الشمولية العسكرية وزر ما وصلت إليه سوريا الراهنة، وليس من أحد يقول له “كفى”.