الرقة – نورث برس
بكثير من الحسرة، تنسج ابتسام العلي ( 32 عاماً) وهو اسم مستعار لسيدة من مدينة الرقة، في مخيلتها كيف هو حال طفلها وأين رست به مجاديف الحياة، بعد أن تخلت عنه قبل تسع سنوات بالقرب من مكب للقمامة قرب حديقة الرشيد وسط الرقة، وذلك بعد أسبوع من ولادته.
كانت تبلغ من العمر (23 عاماً) آنذاك، عندما تعرفت على شاب ثلاثيني من مدينتها، ليعيشا معاً “قصة حب”، فبادر الشاب بعدها لطلب يدها عدة مرات، لكن دائماً ما قوبل بالرفض من ذويها.
وفي إحدى ليالي عام 2013 قررت الفتاة الهروب مع الشاب والتوجه إلى خارج البلاد للعيش معاً، ولكن قبل خروجهما من الرقة، حملت بجنين في أحشائها وكان نتيجة “نزوة خاطئة”، على حد تعبيرها.
تخلى الشاب عنها بعد سماعه بخبر حملها، فلجأت “العلي” لمنزل أحد معارف عائلتها في المدينة للاختباء عندهم، إذ كانت العودة إلى منزل ذويها محتومةً بـ”القتل”.
بقيت طيلة شهور حملها لدى ذلك المنزل، وعند إنجابها الطفل حاولت التواصل مع الشاب لإخباره بأن رُزق بطفل “لكني لم أتلقَ منه أي رد”.
وخلال الأعوام الأخيرة من الحرب السورية، تزايدت حوادث التخلي عن الأطفال الرضع ورميهم على أرصفة الطرقات وأمام المساجد في الرقة وهم ليسوا بالضرورة “أطفال زنا” كما يسميهم البعض، إذ ساهمت أوضاع وظروف أخرى بازدياد تلك الحالات، بحسب سكان.
ويقوم ذوو الأطفال “مجهولي النسب” في بعض الأحيان بترك ورقة توضيحية مع الطفل يبررون من خلالها سبب التخلي عن أطفالهم أو عبارة أنه “ابن حلال”.
وما بين منتصف تشرين الأول/ أكتوبر ٢٠٢١، حتى بداية كانون الأول/ يناير ٢٠٢٢، سجل مكتب حماية الطفل في مجلس الرقة المدني، سبع حالات لأطفال تخلى عنهم ذويهم وهم رضع، في حين لا تتوفر إحصائية دقيقة لجميع الحالات.
“الظروف أجبرتني”
تصف “العلي” لنورث برس لحظات سيرها للتخلي عن الطفل بلهجتها المحلية: “وأنا عم امشي رايحة ارميه كان قلبي عم يتقطع، يعني تصور قطعة من روحك رح ترميها وما تعود تعرف عنها شي، بس مو بإيدي الظروف أجبرتني”.
بعد تلك الليلة لم تعد الأم تعرف شيئاً عن طفلها، “عم يحترق قلبي عليه، ما بعرف كان بالرقة ولا صار برة، هلق عايش أو راح من الدنيا، بس بتمنى ارجع أعرفوا وشوفوا”.
تزوجت “العلي” بعد ذلك عن طريق العائلة التي استنجدت بهم، بشاب له صلة قرابة معهم، لتنجب منه طفلين، “ويعلم بكل ما حدث مسبقاً وبحادثة رمي الطفل أيضاً وبعلم عائلتي أيضاً”.
ويعرف قانون الأحوال المدنية في سوريا، مجهول النسب بأنه الطفل الذي يضل الطريق ولا يملك المقدرة للإرشاد عن ذويه لصغر سنه أو ضعفه العقلي أو لأنه أصم أبكم ولا يحاول أهله استرداده ولا يوجد من يقوم بإعالته شرعاً.
ويسجل المجهول النسب في السجـل المدنـي بعد أن يقوم رئيـس المركز باختيار اسـم له، ولكـل من والديه، ونسبـة والدتـه، واسم جـد، ويكـون اسم الجد نسبـة لـه، أو مـا تقترحـه دور الرعايـة بالنسبـة لاسـم مجهول النسـب فقط.
ويجـوز منـح مجهـول النسب، نسبـة الأسرة الحاضنـة، بنـاء على طلب خطي مـن رب الأسرة، وموافقـة مجهول النسب الـذي تجاوز الثامنـة عشرة من عمره، وتصحح نسبته في المسكن الخاص به تبعاً لذلك، بحسب القانون.
تبني أطفال
وترى خديجة العوض وهي أخصائية في علم النفس والإرشاد، أن تأمين حياة طبيعية لهؤلاء الأطفال ضمن أُسر تؤمّن لهم كل الظروف الصحية “يعد حلماً في مجتمع يعامل يتيم الحرب ومجهول النسب على أنه لقيط”.
وتشير إلى أنه غالباً ما تؤثر مراكز الرعاية على نفسية هؤلاء الأطفال وخاصة مع وجود خمسة أطفال أو أكثر أحياناً مع أم بديلة واحدة، “فيكون التأهيل غير كافٍ”.
ورفض مكتب حماية الطفل في مجلس الرقة المدني إيصالنا لإحدى العائلات التي تبنت أحد الأطفال المسجلين لديه تحت بند “احترام خصوصية الأطفال والعائلات، خوفاً من التنمر”.
ويعمل المكتب على التنسيق مع العائلات التي ترغب بالتبني، حيث يتم إعطائهم الطفل مع التأكيد على تكفلهم بالرعاية بكل ما يحتاجه بشكل رسمي، بحسب أميرة الحسن، الرئيسة المشاركة للمكتب.
وتشير “الحسن” إلى وجود قسم “إدارة الحالة” ضمن المكتب، يجري دراسة كاملة عن حالة العائلات التي تتقدم بطلب التبني والرعاية، ودراسة ما إذا كانت العائلة قادرة على تبني الطفل والاهتمام به من جميع الجوانب.
“ما بعترف فيكي ولا بالطفل”
أثناء فترة سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) على الرقة،أجبر إخوةفضيلة محمد (٢٣ عاماً) وهو اسم مستعار لشابة من الرقة، رغم صغر سنها آنذاك على الزواج من أحد عناصر التنظيم.
ولكن وأثناء المعارك التي دارت بين قوات سوريا الديمقراطية والتنظيم، لطرد الأخير من المدينة، هرب زوجها من الرقة بينما كانت “محمد” ببداية فترة حملها، لتقضي كامل شهور الحمل فيما بعد في منزل عائلتها لحين إنجابها.
حاولت “محمد” التواصل مع زوجها بعد إنجاب طفلها، لكن كان الرد منه، “أنا ما بعترف لا فيكي ولا بالطفل، خليه عندك وأنا مالي علاقة فيه ولا ترجعي تتصلي أو تحكين معي”، وفقاً لما تنقله الشابة من كلام زوجها.
وبعد مرور نحو عشرين يوماً على إنجاب الطفل، وفي ليلة من ليالي الشتاء بداية عام ٢٠١٨، وضعت “محمد” طفلها أمام محل بمنتصف شارع تل أبيض وسط الرقة.
“أنا لفيتو بإيدي ودفيتو ولبستو لحتى ما يبرد ولفيتو بكم بطانية ومهادو وأخذتو بالليل وحطيتو بالشارع، وأنا راجعة عالطريق صرت بحس أنو رميت دنيتي كلها وراي بس انجبرت حتى أهلي صاروا ضدي”.