أزمة أوكرانيا.. امتحان جديد للقطبية الروسية

منذر خدام

أوكرانيا البلد “الأطراف” تمثل قصة تاريخ طويل من الوحدة الهشة، والصراع الخفي، الذي ما يلبث عند المنعطفات التاريخية الكبرى أن يعبّر عن نفسه بصورة متفجرة بعض الشيء، لتعود من جديد سيرتها الأولى تستعد لتفجّر جديد.

ففي عاصمتها كييف وُلدت أول دولة روسية (980 ـ 1015) قبل أن يدمرها المغول في العام 1340، ليحكمها بعد ذلك البولونيون والليتوانيون لمدة ثلاثة قرون تقريباً، لتعود بعد ذلك الأجزاء الواقعة شرق نهر الدنيبر إلى حكم الروس بعد أن هزموا البولونيين في العام 1685، الذين احتفظوا بالأجزاء الواقعة غرب الدنيبر تحت سلطتهم، لتتكرر هذه القسمة لاحقاً بين روسيا والنمسا في عام 1772، وبين روسيا وبولونيا من جديد في عام 1920، قبل أن يحسم المسألة ستالين فيضم أغلب الأجزاء الغربية منها إلى أوكرانيا الأم تحت سلطة الحكم السوفياتي.

خلال تاريخها المنفتح على التغيرات المستمرة بسبب صراع الكيانات السياسية المجاورة  لها على جغرافيتها تغير اسمها أكثر من مرة، فدعيت تارة بروسيا الصغرى عندما ضمها الروس إلى اراضيهم بعد هزيمتهم لبولونيا، وصارت جزءا من الإمبراطورية الروسية إلى جانب بيلاروسيا لتصير جزءا من تعريف القياصرة  الروس بأنفسهم ” أنا بطرس الأكبر إمبراطور روسيا الكبرى وروسيا الصغرى وبلاروسيا…” لكن اللتوانيين خلال فترة حكمهم لأكرانيا كانوا يستخدمون مصطلح “الهاتمان” على ممالكهم بنسبتها إلى القائد العسكري لكل منها( الهاتمان). بدورهم البولونيين كانوا يسمونها تارة بلد السواد نظرا لسواد تربتها، وتارة  اخرى أطلقوا عليها ” اوكرايينا ” نظرا لوقوعها عند أطراف  الأراضي البولونية إلى الجنوب. فيما يخص “أكرانيا” الحالية فقد تم تركيبها حديثا من أربعة أجزاء، أكرانيا الأم وهي مساحة صغيرة في قلب أكرانيا الحالية، ضم إليها لينين مساحات كبيرة من الأراضي الروسية الى الشرق من نهر الدنيبر، ومن ثم في عهد ستالين تم ضم الأجزاء الغربية التي كانت تحت السيطرة البولونية، وفي عهد خروتشوف ألحق بها أيضا جزيرة القرم  التي كانت جزءا من الأراضي الروسية، لتصير بذلك مساحتها الأكبر في أوربا بعد روسيا.

ينطبق على أكرانيا ما يسمى بلعنة الجغرافيا وهي من هذه الناحية تشبه سوريا كثيرًا، فهي بالنسبة للدول الغربية “المجال الصحي” الذي يحميها من روسيا، لكنها بالنسبة للروس فهي عداك عن التاريخ المشترك الطويل، والأصل العرقي الواحد، والثقافة المشتركة،  فهي جزء من مجالهم الأمني.

لقد شاركت أوكرانيا روسيا تاريخاً طويلاً نسبياً، امتد لنحو ثلاثة قرون، في إطار نوع من الاتحاد، وبرغم الأصل السلافي المشترك للأوكرانيين والروس وما نجم عنه من تشارك ثقافي واسع وعميق، بما في ذلك تحدث نحو نصف سكان البلاد باللغة الروسية، لكن الدولة الأوكرانية والشعب الأوكراني ظلا على الدوام محط تنازع داخلي وخارجي محكوم بتوجه ثنائي القطب: واحد نحو الشرق، نحو روسيا، وواحد نحو الغرب، نحو أوروبا وتحديداً أوروبا الكاثوليكية.

اللافت أنه عندما بدأ الاتحاد السوفياتي يتفكك في سياق مسار نهج البيروسترويكا الذي اعتمده غورباتشوف، آخر رئيس للاتحاد السوفياتي، في العام 1985، لم يكن الأوكرانيون متحمسين للخروج منه، لكن بعد أن وجّه بوريس يلتسين رئيس روسيا الفدرالية ضربة قاصمة له، لم يكن من خيار أمام الأوكرانيين سوى إعلان الاستقلال وقيام دولة أوكرانيا المستقلة وعاصمتها كييف.

لقد واجهت الدولة المستقلة منذ يومها الأول مشكلات عديدة، بعضها يعود إلى طبيعة بنيتها السكانية والدينية، وما تنطوي عليه من احتمالات لتشغيل قوى التنافر الداخلي من أتباع الكنيسة الكاثوليكية والكنيسة الأرثوذكسية، وبين الناطقين باللغة الروسية واللغة الأوكرانية، وبعضها الآخر يعود لقوى الجذب الخارجي بين روسيا من جهة والدول الغربية من جهة ثانية بسبب تعارض المصالح.

لقد كان من المفترض أن تدير اللعبة الديموقراطية قوى التنافر الداخلي، وقوى الجذب الخارجي وتتحكّم بها، بما يحافظ على وحدة أوكرانيا واستقلالها، لكن التدخلات الخارجية في شؤونها لم تسمح لها بذلك، وها هي اليوم تقف من جديد على مفترق طرق سوف يتقرر عنده ليس فقط مصير أوكرانيا كدولة موحدة ومستقلة، بل وكثير من العلاقات بين روسيا من جهة، والدول الغربية من جهة ثانية.

لقد أعطى الروس للدبلوماسية زمناً كافياً قبل أن يقرروا اجتياح أوكرانيا عسكرياً، فقد كانوا يرغبون بتطبيق اتفاقيات مينسك مع أوكرانيا التي تم التوصل لها في عامي 2014 و2015 برعاية أوروبية( ألمانيا وفرنسا) والتي من ضمن ما جاء فيها تقر أوكرانيا بوضعية الحياد الدائم لها مثلها في ذلك مثل فلندا والسويد، لكن الحكومات الأوكرانية المتعاقبة طالبت بالانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وإلى حلف شمال الأطلسي، وهذا أمر ما كان لروسيا الموافقة عليه مما شكل من جملة أسباب وذرائع عديدة الدافع لعملية الاجتياح العسكري الروسي الجارية اليوم لأوكرانيا.