في مؤتمر ميونيخ للأمن، قال الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، إن “التهديد للأمن الدولي الآن هو أكثر تعقيداً وربما أكبر من فترة الحرب الباردة”، في تصريح يوحي بأن الحرب الباردة قد عادت، وذلك قبل ستة أيام من الرابع والعشرين من شباط عندما قامت القوات الروسية بغزو أوكرانيا.
هنا، وعلى الأرجح، ليس شبح الغزو الروسي الذي تعالت احتمالاته بمنتصف الشهر قد جعل غوتيريش يقول ما قاله، بل ما حصل في العاصمة الصينية من لقاء بين الرئيسين الصيني والروسي أوائل الشهر، حيث توضحت لأول مرة ملامح تحالف بين الصين وروسيا تتزعمه بكين من خلال الحديث في البيان المشترك للقاء عن “تعاون بلا حدود” وعن ضرورة “استبعاد دول حلف الأطلسي- الناتو للمقاربات المؤدلجة للحرب الباردة” وفي الوقت الذي تحدث البيان عن “تفهم الصين ودعمها لما تطلبه روسيا من ضمانات أمنية في أوروبا”، في إشارة لمشاريع الناتو للتمدد شرقاً نحو أوكرانية وجيورجيا، فإنه تحدث عن معارضة روسيا والصين “لتشكيل بنى ومعسكرات في منطقة المحيط الهادئ الآسيوية” وهو مصدر القلق الصيني الرئيسي بعد تشكيل تحالف (أوكوس) في أيلول\سبتمبر الماضي من قبل الولايات المتحدة وبريطانية وأستراليا، وهنا يجب الإضافة لما سبق، مسألة ما جرى في اللقاء من اتفاق على مد أنبوب غاز روسي جديد إلى الصين يضاف للخط الذي تم الاتفاق على إنشائه بينهما في تشرين الثاني\ نوفمبر 2014 أي بعد تسعة أشهر من نشوب الأزمة الأوكرانية الأولى بين روسيا والغرب الأميركي- الأوروبي.
حيث، وهذا هو الملفت، أنه وبمجرد عودة الرئيس الروسي من ذلك اللقاء الذي جرى مع نظيره الصيني في اليوم الرابع من شباط/ فبراير، بدأت النيران الأولى للأزمة الأوكرانية بالظهور، حيث يبدو أن السند الصيني هو الذي شجع بوتين على إشعال تلك الأزمة وجعله مطمئناً إلى أن المواجهة مع الغرب أصبحت ممكنة ولو وصلت لحدود غزو أوكرانية التي وصفها الرئيس الروسي بأنها “عملية اضطرارية بدونها كان سيكون مستقبل روسيا في خطر” في إشارة منه إلى ما يعنيه وصول حلف الأطلسي إلى أوكرانيا التي اعتبرها وزير الخارجية لافروف بأنها تستخدم “كذراع ضد روسيا”.
طبعاً، يعطي الغزو الروسي لأوكرانيا صورة عن أن الوضع الدولي قد حصلت فيه لأول مرة عملية انقلابية على مشهد ما بعد عام 1989 عندما انتهت الحرب الباردة بانتصار الأميركان على السوفيات وبدأ تشكل عالم القطب الواحد الأميركي للعالم، وبالتالي تحققت العودة إلى ما قبل عام 1989 وأنه في الرابع والعشرون من شباط 2022 قد بدأت الحرب الباردة الثانية من خلال شرارة اشتعال هي الغزو الروسي لأوكرانية تماماً كما بدأت الحرب الباردة الأولى في 12 آذار\مارس 1947 مع إعلان الرئيس الأميركي هاري ترومان عن “استعداد الولايات المتحدة لمساعدة الشعوب الحرة التي تقاوم محاولات إخضاعها من قبل أقليات مسلحة أو عبر ضغط خارجي “في زمن كانت فيه الحرب الأهلية اليونانية مشتعلة بين الشيوعيين والملكيين اليمينيين وليكون (مبدأ ترومان) منطلقاً لحرب باردة بين المعسكرين الأميركي والسوفياتي استخدمت فيها حروب بالوكالة وكان لها ذخيرة أيديولوجية ولم تنجو أي منطقة في العالم من تأثيراتها وفي مرتين كاد البيت الأبيض والكرملين أن يتجابها عسكرياً بشكل مباشر بعامي 1962 و1973 في الأزمة الكوبية وفي أزمة الدفرسوار أثناء حرب تشرين إلى أن انتهت تلك الحرب الباردة بالانتصار الأميركي من دون سلاح بخريف 1989.
هنا، من يراقب مشهد ما بعد 24 شباط 2022، يلاحظ ملامح لمعسكرين متجابهين، من جهة حلف الأطلسي بدوله الثلاثين ومعهم أستراليا واليابان وكوريا الجنوبية، وفي الجهة المقابلة الصين وروسيا ومعهم دول صغيرة هنا وهناك، وفي موقع الذي لم يقرر موقفه بعد تقف دول مثل الهند لها علاقات وثيقة مع الولايات المتحدة وقوية مع روسيا ولكنها في حالة خصومة كبرى مع الصين منذ عام 1962. وليس صدفة في هذا المجال، أن يكون شهر شباط 2022 هو الشهر الذي ظهرت فيه ملامح مرونة أميركية كبرى في محادثات الملف النووي الإيراني بعد عشرة أشهر من بدئها، في مسعى واضح من واشنطن من أجل تحييد طهران أو إبعادها عن المحور الصيني- الروسي عبر عقد اتفاق تعود فيه واشنطن إلى اتفاق 2015 كما هو، بما يلبي مطالب إيران ويستبعد موضوعي الصواريخ البالستية والقضايا الإقليمية التي كان الأميركان يصرون على ربطها بالاتفاق النووي منذ بدء المحادثات في فيينا بربيع 2021.
في هذا الصدد، أظهرت ردود الفعل على الغزو الروسي لأوكرانيا توحداً في المعسكر الغربي، ويبدو أن الرجفة الأوكرانية التي أحدثها بوتين قد زادت من ارتماء الأوروبيين في الحضن الأميركي، وهنا قد ظهرت الحساسية الغربية من روسيا بوتين كمتابعة، وهذا لا علاقة له بالأيديولوجيات بل بالتضاد الجغرافي، لما كان من الغربيين اليمينيين ضد البلاشفة بعد ثورة 1917، وأيضاً لما كان يظهره كارل ماركس والكثير من يساريي القرن التاسع عشر من عداء تجاه القياصرة الروس الذين شاركوا في هزيمة نابليون بونابرت بمعركة واترلو عام 1815 وفي قمع الثورة المجرية لصالح النمسا عام 1849، حتى أن ماركس وإنجلز في مقدمة الطبعة الروسية من “البيان الشيوعي” عام 1882، قد أسميا القيصر الروسي ك”زعيم للرجعية الأوروبية”.
وهناك من جهة ثانية صورة يجب لحظها على أين تتوزع الاصطفافات الدولية عندما توقف برلين ترخيص خط الغاز الروسي لألمانية في وقت تعقد الصين اتفاقاً جديداً مع الروس على خط جديد. ثالثاً، وفي حال تحييد أوكرانيا أو تنصيب حكومة موالية لموسكو في كييف، فإن حدود حلف الأطلسي المجابهة لروسيا ستكون على خط يمتد من مدينة تالين الإستونية على ساحل البلطيق عند خليج فنلندا وقرب مدينة سانت بطرسبورغ وحتى مدينة كونستانتا على ساحل رومانية المطل على البحر الأسود ويلفت النظر تفعيل حلف الأطلسي للمادة الخامسة من ميثاقه حول الدفاع الجماعي في حال تعرض إحدى دول الحلف للهجوم بعد ساعات من بدء الغزو الروسي، وستكون بيلاروسيا وأوكرانيا في هذه الحالة حاجزاً جغرافياً لروسيا فيما لن يكون للروس حدود مباشرة مع الناتو سوى مع إستونيا ولاتفيا وجيب كاليننغراد الروسي الواقع بين ليتوانيا وبولندا.
كتكثيف: هناك مرحلة جديدة في العلاقات الدولية قد بدأت في 24 شباط 2022، أنهت فصلاً بدأ مع انتهاء الحرب الباردة بسقوط جدار برلين في يوم 9 تشرين الثاني 1989، وليس صدفة أن يقول أمين عام حلف الأطلسي يانس ستولتنبرغ العبارة التالية بعد ساعات من الغزو الروسي لأوكرانية: “هدف الكرملين من الهجوم على أوكرانية إعادة كتابة التاريخ من جديد”.