من حوض دونباس إلى شمال شرقي سوريا

دون عناء ومن خلف مكتبه الرئاسيّ أعلن الرئيس الروسيّ فلاديمير بوتين، مولد جمهوريتين في آن واحد، وكأن تأسيس الدول ما هو أكثر من عمل بيروقراطي رتيب أشبه بترشيح السفراء أو تعيين المدراء العامين، وبذا شهدنا قيام دولتي لوغانسك ودونيتسك اللتين لن يكونا بأبعد من تجربة الاعتراف الروسي بجمهورية أبخازيا غير المعترف بها دولياً، وفيما سارعت سوريا وقتذاك للاعتراف بأبخازيا إلى جوار فنزويلا ونيكاراغوا، فإنّها في هذه الأثناء تسارع إلى الاعتراف بالدولتين الوليدتين، ربما هذه واحدة من مهام سوريا الطيّعة لقبول كل ما هو صناعة روسيّة، وإن كانت دولاً ركيكة.

مذ أن سيطرت موسكو على شبه جزيرة القرم، وسقوط حكومة يانوكوفيتش الموالية لروسيا في أوكرانيا عام 2014، بات الانخراط في المشهد الأوكرانيّ أكثر جدّية، فقد سيطر المحتجّون على مبنى الإدارة الإقليمية في لوغانسك وكذا في دونيتسك، وبعيداً عن الإغراق في تفاصيل حركات التمرّد في حوض الدونباس موئل الجمهوريتين، فإن مطالب حركة التمرّد الموالية لروسيا تمحورت حول المطالبة بإجراء استفتاء حول الفيدرالية، والاعتراف بالروسيّة لغة رسمية ثانية في أوكرانيا، وإقامة نظام اتحاد جمركيّ مع روسيا. كانت الغاية القصوى وقتذاك تتمثّل بنقل المزيد من الحكم الذاتي لتلك المناطق، وبالتالي كبح جماح كييف المتوجّهة غرباً صوب الناتو.

وبمعزلٍ عن مطالبات المحتجّين المتنامية والرامية إلى الاستقلال/الانفصال، فإنه يمكن سوق أسئلة من قبيل: هل تذّكر مطالب المحتجين في طبعتها الأولى عام 2014 بمطالب سكان شمال شرقي سوريا، لا سيّما كرد سوريا، في هذه الأثناء؟ وهل يمكن استحضار العبارة الملتصقة بسياسة الدول العظمى عن أنّها تكيل بمكيالين، خاصّة وأن موسكو وعبر خارجيتها سبق وأن اعتبرت الإدارة الذاتية مشروعاً يسعى إلى “الانفصال”، فيما برّرت تدخّلها ودعمها للنزوع الانفصاليّ الفعليّ في أوكرانيا؟

وأما من قاد المفارقة إلى منتهاها فقد كان وزير الخارجية السوريّة، فيصل المقداد، الذي صرّح خلال مشاركته في أعمال نادي فالداي، أول أمس، بأن “قوات الاحتلال الأميركي والميليشيات الانفصالية المدعومة منها تواصل سرقة ثروات الشعب السوري من نفط وقمح” بل زاد الوزير على ذلك ليعلن “تضامن الشعب السوري مع شعبي جمهوريتي لوغانسك ودونيسك.” وهذه مفارقات تتصّل بتأييد دمشق لروسيا في جهود دعم حركات الانفصال عن أوكرانيا، فيما ترى في جسم اتحاديّ كالإدارة الذاتية حركة انفصاليّة. والحال أن دمشق تنتقي حركات الانفصال وفق هواها، أو تبعاً لمشيئة موسكو.

ما يزال خطاب دمشق الرسميّ ينوس بين تهديد قوات سوريا الديمقراطية “قسد” بسوء العاقبة، وترغيبها بالحوار شريطة التخلّي عن الدعم الأميركي، وفي كلتا الحالتين تتبع سياسة النظام الرؤية الروسية التي قد تتبدّل في سوريا بعد ما حدث ويحدث في أوكرانيا، ذلك أن طائفة من الاحتمالات تلوح في الأفق، كأن تضاعف الولايات المتحدة من دعمها لقسد والإدارة الذاتية تبعاً لسياسة تطويق النفوذ الروسي رغم ما قد يسبّبه من هستيريا للأتراك، أو تدفع موسكو دمشق لقبول صيغة الإدارة الذاتية قطعاً للطريق على تنامي الحضور الأميركي، وأما الغالب على الظن فهو أن تبحث موسكو عن تهدئة على المسار السوري والدفع باتجاه تجنب مخاطر العقوبات الأميركية وبالتالي تخفيف لهجة دمشق تجاه الكرد، ولئن كان العوز والحاجة للموارد الاقتصادية سبباً إضافياً لتجاوز التعنّت الذي تبديه دمشق، فإن الانفتاح على الإدارة الذاتية قد يساهم في مدّ مناطق سيطرة دمشق بالموارد الأولية القادرة على إبقائها على قدميها قبل أن تتسع رقعة الاحتجاجات الشعبيّة الموضعيّة في السويداء إلى مناطق أخرى، وبمعانٍ أخرى، مهما كانت أصداء ما يحدث في أوكرانيا قليلة الأثر فإن شيئاً من صدى تلك الأحداث قد يحيق بالنفوذ الروسي في سوريا وكذا بالنظام السوري، وهو ما سيغيّر شكل معالجة الأزمة السورية أو ما سيبقيها محتدمة.

ثمة قراءات عديدة تستطلع أفق الأوضاع الدولية قبل وبعد التصعيد الروسي في أوكرانيا، وثمة إجماع بأن الأوضاع لن تعود إلى سابق عهدها سواء توقّف التصعيد الروسي عند هذا الحد أم تصاعد، وبطبيعة الحال يبدو النظام السوري متوجّساً من حدّة الاستقطاب الدولي الحالي إذ أن “نعمة” التواجد الروسي قد تتحوّل إلى نقمة حال اتباع واشنطن سياسة تعقّب نفوذ موسكو في الخارج.

من المستبعد أن تتبِع واشنطن نهج يشي بمعاني النكاية والكيدية عبر وضع شمال شرقي سوريا في مقابل لوغانسك ودونيتسك، وأن تصبح هذه بتلك، وقد لا تستوي المقارنة بين المسألتين الأوكرانية والسورية لا من ناحية أهمية الملف الأول على هامشية الثاني، غير أن ما يمكن استشرافه أن سياسات واشنطن وموسكو والدول الكبرى ما بعد أوكرانيا لن تكون كما قبلها، وهذا يعني في مكان ما أن سوريا ستقع تحت ظلال مواجهات تلك القوى، ولئن كان النفوذ الأميركي متمركزاً في شمال شرقي سوريا فيما روسيا تتحكّم بتضاعيف بقية سوريا، خلا الشمال الغربي، فإنه يمكن رسم خطّ صدع يمتدّ من حوض الدونباس إلى شمال شرقي سوريا، وفي هذا تكثّف احتمالات المواجهة أو المعالجة.