التصريحات الأخيرة لنائب وزير الخارجية الروسي، ميخائيل بوغدانوف، حول ضرورة مشاركة الكرد وتحديداً مجلس سوريا الديمقراطية “مسد” في أعمال اللجنة الدستورية لتحقيق الإصلاح الدستوري في سوريا، حملت دلالات كثيرة، وفي الوقت نفسه أثارت جدلاً كبيراً، تراوح بين ترحيب الإدارة الذاتية في شمال شرق سوريا، وصمت الحكومة السورية وكذلك الإدارة الأمريكية، ورفض أعضاء في الإئتلاف المعارض الذي يتخذ من تركيا مقراً له، حيث يكفي هنا الإشارة إلى أن مقر الإئتلاف هو في تركيا ليكون موقفه بهذا الشكل، الذي هو في الحقيقة تعبير عن الموقف التركي الرافض لمشاركة الكرد كمكون في الجهود الجارية لحل الأزمة السورية.
في الواقع، مع أن تصريحات بوغدانوف ليست بجديدة، إذ سبق وتحدث عن نفس الموضوع، عندما أكد ضرورة مشاركة الكرد في أعمال اللجنة الدستورية لتحقيق الإصلاح الدستوري، وهي تصريحات تتكامل مع التصريحات التي أطلقها مراراً وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، عندما تحدث عن ضرورة الحوار بين الكرد والحكومة السورية في دمشق، بل ذهب بعيدا عندما تحدث عن نموذج إقليم كردستان العراق في الحوار مع الحكومة المركزية في بغداد، ولعل التصريحات الروسية هذه تحمل دلالات كثيرة، خاصة تصريحات بدغدانوف الأخيرة، إذ أن توقيتها كان مهماً للأسباب التالية:
- تزامن توقيت اطلاق هذه التصريحات مع الزيارة التي قام بها وزير الخارجية السوري فيصل المقداد إلى موسكو، ولقاءاته مع المسؤولين الروس، ولعل اطلاق مثل هذه التصريحات تزامناً مع زيارة المقداد لم يكن من باب الصدفة، وإنما كان تعبيراً عن رسالة سياسية تتعلق بالرؤية السياسية الروسية المستقبلية للحل في سوريا.
- جاءت هذه التصريحات مع زيارة يقوم بها المبعوث الأممي لسوريا غير بيدرسون إلى روسيا، وطرح الأخير لما أطلق عليه مبادرة خطوة بخطوة، أي تبادل خطوات الحل والانفتاح بين النظام والمجتمع الدولي، ومع أن كل من النظام والإئتلاف أعلنا رفضهما لهذه المبادرة إلا انه لا يمكن النظر إلى ما طرحه بيدرسون من دون مشاورة الأخير مع الأطراف المعنية بالأزمة السورية، ولاسيما روسيا، وعليه يمكن القول إن تصريحات بوغدانوف الأخيرة بخصوص مشاركة “مسد” في أعمال اللجنة الدستورية ليست بعيدة عن هذه الجهود والمبادرات.
- ثمة من لا يستبعد أن تكون تصريحات بوغدانوف في هذا التوقيت، لها علاقة بتطورات الأزمة الأوكرانية، إذ يرى البعض أنها تأتي في إطار إشهار موسكو ( ورقة الكرد ) في وجه تركيا العضو في الحلف الأطلسي خاصة بعد أن أبدت أنقرة مواقف مؤيدة للأطلسي والحكومة الأوكرانية في الأزمة مع روسيا رغم حديث المسؤولين الأتراك مراراً عن حياد موقف تركيا من هذه الأزمة، وإعلان أردوغان مراراً عن استعداده للقيام بوساطة بين موسكو وكييف.
في الواقع، بعيداً عن ما إذا كانت التصريحات الروسية تعبر عن استراتيجية حقيقية لحل الأزمة السورية بمشاركة جميع الأطراف بما فيها الكرد، أو أنها مجرد تصريحات إعلامية لتحقيق أهداف سياسية معينة، فإن تشكيل اللجنة الدستورية على النحو الذي تم قبل نحو ثلاث سنوات، شكل صدمة للإدارة الذاتية في شمال شرقي سوريا، وهي صدمة ثلاثية، صدمة عدم اشراكها في اللجنة الدستورية، وصدمة موقف الإدارة الأميركية التي رحبت بتشكيل اللجنة دون الإشارة إلى ضرورة أو أهمية إشراك الإدارة الذاتية بها، وصدمة من موقف الأمم المتحدة، إذ أن تشكيل اللجنة بهذا الشكل كان مخالفاً للقرار الدولي الخاص بحل الأزمة السورية 2254 ولتصريحات الأمين العام للأمم المتحدة، انطونيو غوتيرش، الذي أكد مراراً على ضرورة إشراك جميع المكونات السورية في الحل السياسي.
في الواقع، يمكن القول إن ثمة أسباب كثيرة تقف وراء استبعاد الإدارة الذاتية الكردية من اللجنة الدستورية، على رأسها الفيتو التركي الذي كان سبباً أيضاً في استبعادها من مفاوضات جنيف، وكذلك عدم نجاح الإدارة الذاتية حتى الآن في تشكيل مرجعية كردية موحدة أو مشتركة في ظل تعثر الحوار الكردي – الكردي رغم كل الجهود التي بذلت حتى الآن.
وبسبب كل ما سبق، فإن المشاركة الكردية في أعمال اللجنة الدستورية، سواء عبر المجلس الوطني الكردي أو من خلال شخصيات من المجتمع المدني بقيت ضعيفة، ورمزية، ومن دون جدوى، ولعل هذه المشاركة الضعيفة تصعب من فرصة طرح أي مطلب قومي كردي على طاولة اللجنة ما لم تطرح القوى السورية الأخرى هذه المطالب، وهو أمر مستبعد في ظل اتفاق النظام والمعارضة على رفض مطالب الكرد المتمثلة في الاعتراف الدستوري بالهوية الكردية في إطار حكم لا مركزي، لإعتقادهما بأن ذلك يشكل مدخلاً للإنفصال والتقسيم، فيما الإدارة الذاتية تؤكد على الدوام تمسكها بوحدة الأراضي السورية، وعلى الحوار بين الأطراف السورية لتحقيق الحل السياسي.
في معرض حديث بوغدانوف عن أهمية مشاركة “مسد” في اللجنة الدستورية، تطرق إلى نقطة جوهرية في غاية الأهمية، وهي أن هذه المشاركة الكردية ستحول دون إتهام الكرد بالإنفصال، وفي الحقيقة، فإن هذه النقطة تشكل مساراً لتصحيح عمل اللجنة الدستورية وصولاً إلى العملية السياسية وجهود الحل، إذ لا يعقل البحث عن حل لأزمة تجاوزت عمرها عقد من الزمن، وخلفت تداعيات هائلة في كل الاتجاهات، وفي الوقت نفسه يتم استبعاد من يدير منطقة حيوية كبيرة من جهود الحل، وكإن حال من يدير هذه الجهود، والمعنييين بها، لا يتركون أمام الكرد سوى خيار البحث عن كيانية منفصلة، في الوقت الذي يدرك ( الكرد ) قبل غيرهم أن المراد من هذه السياسة هو الإنتحار تحت أشعة الشمس اللاهبة بتهمة الإنفصال والتقسيم، أو الإجهاز على تجربة الإدارة الذاتية بنفس التهمة.