الرقة .. محال تكتسي بالأحمر وقلوب تحن لأحبة رحلوا قبل أوانهم

الرقة – نورث برس

بنظرات أتعبتها قسوة الفراق، تنظر الشّابة العشرينيّة فاطمة إبراهيم وهي من سكان مدينة الرّقة، لقلادة أهداها إياها خطيبها في عيد الحب قبل وفاته قبل عدة أعوام.

وتقول، “كلما نظرت إلى القلادة أتذكر قصة شخصين بطشت بهما قسوة داعش”.

ومع حلول يوم الاحتفال بعيد الحب الذي يصادف الرابع عشر من شباط/ فبراير، تعود الشابة بذاكرتها التي تأبى حتى الآن نسيان ما حدث، إلى الأيام التي قضتها مع خطيبها وعاشت معه قصة حب جميلة قبل أن يفارق الحياة بسبب انفجار لغم  من مخلفات تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) وسط الرقة.

محل لبيع الهدايا والورود في شارع الكنيسة وسط مدينة الرقة – نورث برس
محل لبيع الهدايا والورود في شارع الكنيسة وسط مدينة الرقة – نورث برس

لا تتمكن “إبراهيم” مواساة نفسها وهي تشاهد شابات وشباب يرتادون المحال بحرية لاقتناء الهدايا، استعداداً للاحتفال بعيد الحب في المساء أو بعد ساعات قليلة، فهذا الخيار لم يكن متاحاً لها خلال فترة خطوبتها.

لم تكن تتجاوز التاسعة عشر من عمرها عندما أحبت شاباً من مدينتها وأحبها وعاهدا على إكمال مسيرة حياتهما سوياً، وفي حمأة المعارك التي كانت تهدف لطرد التنظيم المتشدد من المدينة عام 2017 وأثناء فترة نزوح السكان من المدينة، تقدم الشاب لخطبتها.

ووافقت العائلة على زواجهما ولكن بعد العودة لمنازلهم و”تحرير” الرقة من “داعش” الذي بسط  سيطرته على المدينة عام 2014.

وبعد معارك استمرت مئة وستة وستين يوماً بين عناصر تنظيم الدولة وقوات سوريا الديمقراطية وتحديداً في السابع عشر من تشرين الأول/ أكتوبر 2017، تم تحرير الرقة وعاد النازحون إلى منازلهم المدمرة والمتضررة.

لكن “ابراهيم” فجعت بمقتل خطيبها بسبب انفجار اللغم بالقرب من منزله الذي لم يجمعها سوياً تحت سقفه.

احتفالات سرية

ومنذ ذلك اليوم وخاصة في عيد الحب، تتذكر “إبراهيم” كيف كانت تحتفل بالعيد في الخفاء أثناء سيطرة “داعش” على الرقة، فكانا يصران على شراء الهدايا لبعضهما على الرغم من مخاطر تعرضهما للقتل أو السجن في حال علم  التنظيم بذلك.

ووفقاً لشهادات سكان من المدن التي سيطر عليها “داعش”، فإن عناصر التنظيم كانوا يعمدون وأحياناً يجبرون سكان على مشاهدة حوادث قطعهم لرؤوس وأطراف من يصفونهم بـ”المرتدين والكفار” وذلك بغرض بث الرعب والخوف في النفوس.

كما كان يفرض التنظيم قوانين متشددة تقيد الحريات الشخصية الأساسية، فحدد زياً خاصاً بالنساء ومنع التدخين والنرجيلة، كما منع استخدام الهواتف النقالة وحجب جميع النشاطات الفكرية والثقافية

وطيلة فترة ارتباطها التي استمرت عامين ونصف، كانت “إبراهيم” التي تعمل حالياً في ورشة خياطة الملابس، تلتقي بخطيبها بمنزل أحد أقاربها والذي كان له صلة معرفة وصداقة بالشاب.

وتصف الفتاة حزنها على فقدان خطيبها بلهجتها المحلية: “تخيل كنت باني أحلامك وتتخيل كل شيء حلو تعيشوا مع هالشخص، وفجأة بغمضة عين يبعدو الموت عنك، ويدمرلك بيت أحلامك يلي عشت فيه أجمل لحظات عمرك”.

ووفقاً لشاهدات سكان في الرقة فإن التنظيم كان يمنع الاحتفال بعيد الحب ويعاقب المحتفلين به بالقتل أو السجن.

الرقة عادت إلى طبيعتها

بعد طرد تنظيم الدولة من الرقة، عادت مظاهر الاحتفال بعيد الحب، حيث يشاهد في شوارعها منذ نحو اسبوع وحتى اليوم الاثنين، شباناً يحملون أكياساً حمراء بداخلها هدايا, وآخرون يحملون وروداً وأزهاراً غالبيتها من اللون الأحمر.

فيما فضل البعض شراء دببة حمراء وآخرون اقتنوا ساعات أو عطور وهدايا أخرى وجدوها مناسبة.

أما المحال، فعلى غير عادتها، اكتظت بالسكان وخاصة من فئة الشباب وقام أصحابها بتزينها بأشرطة حمراء، فيما أخرج آخرون محتويات محلاتهم إلى الرصيف للفت أنظار المارة.

محل لبيع الهدايا والورود في شارع الكنيسة وسط مدينة الرقة – نورث برس
محل لبيع الهدايا والورود في شارع الكنيسة وسط مدينة الرقة – نورث برس

وقالت ابتهال الحمد (٢٠ عاماً) وهي من سكان الرقة إن المدينة عادت لطبيعتها، إذ تحتفل بكل المناسبات والأعياد بعد هزيمة التنظيم في الرقة والتي كان يحرمها أو يعاقب عليها.

وأشارت بينما كانت ترتاد محل لبيع الورود في المدينة لشراء ورود لخطيبها، إلى أن الرقة أصبحت مختلفة بعد مرور سكانها بأشد الفترات من تقييد الحريات والتشدد الذي فرضه “داعش” على المدينة آنذاك.

وأضافت “الحمد” التي كانت ترتدي عباءة ونقاب أن غالبية سكان المدينة من الشبان والفتيات حتى كبار السن الذين يكنون الحب والمودة لبعضهم، “سيحتفلون بهذه المناسبة إذا تعني التقدير والاهتمام بالطرف الآخر”.

ولا تحصر “الحمد” هذا اليوم بالزّوج أو الحبيب فقط، “نكن الحب للكثيرين، كالأصدقاء، والأخوة، والأقارب، إنه عيد لإسعاد من نعتقد أنهم مميزون بالنّسبة لنا”.

ولا تزال حتى اليوم مخلفات الحرب التي شهدتها الرقة تهدد حياة السكان، وقضى بسببها العشرات وفقاً لتقارير مختلفة.

إذ قضى بعض أشخاص بانفجارات ألغام، واختفى البعض بسبب الاعتقالات التعسفية والدفن في مقابر جماعية.

ورغم انتشال 6100 جثة من المقابر لم يتعرف سوى على 700 جثة منها، وفقاً لإحصائيات فريق الاستجابة الأولية العامل في الرقة.

“أبيع الورود  على الملأ”

ويتفق لؤي المحمد (٢٨ عاماً) وهو من سكان مدينة الرقة، مع سابقيه إلى أنهم عاشوا خلال فترة سيطرة التنظيم على المدينة، “أسوء الأيام ولكن بعد داعش أصبحنا نحتفل بكل المناسبات بحرية”.

وأشار إلى أن سوق مدينة الرقة “لم يكن يعرف سوى الإعدامات والاعتقالات، لكن بعد طرد التنظيم أصبح سوقاً للفرح وتوفر كل ما يحتاجه السكان سواء للاحتفالات وغيرها”.

ولكن وعلى الرغم من عودة حياة السكان لطبيعتها، ما يزال بعضهم يخفي ملامح الفرحة ويحتفل بعيد الحب بشكل سري، وذلك حرصاً على مشاعر من فقد ذويه أو قتل واختفى خلال فترة سيطرة التنظيم، بحسب “الـمحمد”.

ويدعو “المحمد” لضرورة “محاربة الأفكار التي خلفها داعش، بهذا نزيل ما تبقى من آثاره”.

وفي محله الذي ملأه بهدايا وورود وسط الرقة، يقول محمد أبو يزن ( ٤١ عاماً) إن حركة شراء الورود والهدايا، نشطت قبل عدة أيام  “والأغلبية يتجه لشراء الورود نظراً لسعرها المناسب”.

ومنذ نحو خمسة عشر عاماً يعمل “أبو يزن” في متجره، ولكن بداية فترة سيطرة التنظيم أصبح عمله بالخفاء، ليتوقف نهائياً عن عمله بعد سن التنظيم حكم الإعدام لكل من يبيع أو يحتفل بعيد الحب.

وأضاف بينما كان يخرج وروداً صناعية وأخرى طبيعية إلى أمام باب محله، “اليوم أبيع الورود والهدايا على الملأ دون خوف، الرقة أصبحت مكاناً لنشر مفاهيم الحب والمودة بين السكان”.

وأشار بينما كان يتفاوض مع أحد المشترين على سعر وردة حمراء إلى أن أغلب زبائنه هم نساء، فمنهنّ من يطلبنّ هدايا جاهزة، وأخرى مصنوعة بأيدينا.

إعداد: عمار حيدر- تحرير: زانا العلي